السياسية:

كاتب وباحث شغلته قضايا النهضة في العالم العربي، وأولى الفكر والثقافة العربية اهتماماً بالغاً.. من هو مارون عيسى خوري؟

يعيدنا الحديث عن مارون عيسى خوري (1935 – 2020) إلى مرحلة ترابط المشرق العربي، وانفتاحه على بعض قبل تكريس تجزئة المنطقة إلى كيانات وأقطار.

فمارون خوري لبناني من مواليد حيفا الفسلطينية. تحلّ ذكرى رحيله الثانية في وقت أحوج ما تكون المنطقة لإعادة وصل المنقطع، والتوجّه نحو التكامل، والتعاون للخروج من المأزق التاريخي الذي نعيشه، والذي يمكن القول فيه إنه بات يناهز أكثر من قرن من الزمن.

يوضح نجله المؤلّف الموسيقي الدكتور هتاف خوري لــ “الميادين الثقافية” إن مارون من مواليد حيفا، وكان والده عيسى من مواليد دير القمر في جبل لبنان، و”كانت المنطقة منفتحة على بعضها البعض، فتوزّعت العائلة بين فلسطين، ولبنان، وسوريا، والخارج، وجدّي اتّجه إلى فلسطين، واشتغل بالبناء، وعاد مع عائلته إلى طرابلس سنة 1948″.

يؤثر خوري وصف والده بـــ “الكاتب والباحث والمربّي” الذي شغلته كثيراً قضايا النهضة في العالم العربي، وأولى الفكر والثقافة العربية اهتماماً بالغاً، وانفتح على الثقافات العالمية، ناهلاً من معينها، ومزاوجاً بين المحلي والعالمي مخلّفاً وراءه مكتبة موسوعية وصفها عارفوها بــــ “الكنز”.

كما كانت منطقة الشمال اللبناني، ومدينته طرابلس حيث أقام طوال حياته منذ عودة الوالد من حيفا، من أولى اهتماماته، مشاركاً في مواقعها الثقافية ومواكباً لحراكاتها في مجالات الفكر والفلسفة والشعر والأدب في مرحلة النهوض أواسط القرن الماضي وما بعده.

آثر مارون خوري العمل، ولم يكن له ميل لحب الظهور، أو محاولة سعي للشهرة، فعرف بتواضعه وحبه البقاء في الظلّ، رغم أن المنابر والمسارح كانت أمكنة لنشر معارفه وأبحاثه الكثيرة، سواء في محاضرات أو لقاءات ثقافية متنوّعة الأصناف والاتجاهات.

في بداياته، كان مارون شاباً حماسياً وداعية للتطوّر والتغيير، ومارس مواقفه واتجاهاته شعراً. لكن أدرك لاحقاً أن الشعر سلاح قديم يحارب به القديم، قائلاً: “هذا الشعر هراء”، فقمع نزعته الشعرية، من دون التوقّف عن متابعة الشعر، متّجهاً نحو شعراء عالميين أمثال رامبو وبودلير وغيرهما، كما ظلّ متابعاً للشعر العربي مولياً اهتماماً خاصاً ب أبو العلاء المعري.

سنوات من الأخذ والردّ في الشعر، أعادته إلى نظمه، لكنه احتفظ بما نظم لنفسه، وكتبه من دون بوح به، قائلاً: “شعري، حبره من دواتي، وأقلام تدوينه من قصب حقلي”، مؤكّداً بذلك التزامه الشعر لكن كحال شخصية، وليس كظاهرة عامة.

ويوم وقعت نكبة فلسطين، كان ما يزال فتى يافعاً، لكن وقع النكبة كان كبيراً على مارون الحيفاوي، فلم تغب فلسطين وقضاياها، وما ترمز إليه من قضية إنسانية عن كتاباته، التي اتخذت طابعاً فكرياً وثقافياً وحملت حسّاً إنسانياً، فكرّس قلمه لمتابعة الشؤون الفسطينية، معتمداً أغلب الأحيان على القصة، وترجمات القصص، والمؤلّفات الزاخرة بالحسّ الإنساني.

باكورة أعماله هذه ترجمته لرواية روسيّة الأصل، عنوانها “قوس قزح” للكاتبة السوفياتية البولونية الأصل، فانا فاسيلفسكا، إلا أن خوري نقلها من الفرنسية إلى العربية، فشهدت نجاحاً كبيراً، ونقلت بعد ذلك إلى عدّة لغات.

وله مراجعة كتاب للمستشرقة الألمانية زيغريد هونكة، بعنوان “شمس العرب تسطع على الغرب”، وقد طُبِعت منه 18 طبعة، الأولى عام 1963، وتُبَيّن فيه هونكة فضل العرب في نهضة أوروبا في الفيزياء، والكيمياء، والرياضيات، والهندسة والفلك والطب والأدب وغير ذلك.

ومع توسّع اهتماماته ونضج شخصيته، سافر إلى القاهرة سنة 1965 ليدرس الصحافة، ثم ليعود للعمل في جريدة الحياة البيروتية، إلى أن اكتشف أن الصحافة مهنة متاعب حقاً وليست شعاراً، ولمس أن العمل الصحفي اليومي ليس من اهتماماته وميوله، بينما هو يتوق لكل ما له علاقة بالفكر والثقافة، والكتابة المعرفية المعمّقة، فعاد إلى القاهرة ليدرس الفلسفة، وينال الإجازة بها سنة 1969.

اعتبر خوري أن اللغات هي المدخل للتعرّف على مزيد من الثقافات والحضارات، فانكبّ على اللغات متقناً الفرنسية، والإنكليزية، وألمّ باللاتينية، واليونانية، والعبرية، والسريانية، ثم عمل في التنقيب عن الآثار تحت إشراف العالم السويسري جان بيلر في حفريات أفاميا غرب حماه في سوريا.

عمل في التدريس في مجال الفلسفة والأدب العربي، في مدارس لبنان وسوريا بين 1968 و2002، فكان التعليم نافذة له على مختلف المعارف، والعلوم، ومجالات الفكر المتنوّعة.

لم يكتفِ خوري بنقل معارفه عبر التدريس، فراح يشارك بالمنتديات والجمعيات ذات الطابع الفكري، فتابع عدّة أنشطة مترئّساً الرابطة الأدبية الشمالية بين 1980 و1989، وكان نائب رئيس رابطة إحياء التراث الفكري في الشمال 1984-1989، وعضواً في في اتحاد الكتّاب اللبنانيين، واتحاد الكتّاب العرب، والرابطة الثقافية. كما عمل مستشاراً لدار جروس للنشر (جروس برس)، وعدد آخر من دور النشر.

له العديد من المحاضرات الفكرية، والتاريخية، والأركيولوجية بين طرابلس، وبيروت، ودمشق، وبرلين، والعديد من المقابلات الإعلامية والتلفزيونية، والمنشورات الصحفية.

وصفت شخصيّته بهذه الدينامية غير المتوقّفة، وقيل فيها إنها، أولاً، قلقة لا تكتفي وتتطلع دائماً إلى المزيد، وثانياً، نقدية لا تقتنع بسهولة، وإذا اقتنعت التزمت.

يقول: “لا يعني عدم الاهتمام بقضايا الناس، ومشاعر التعصّب والتمزّق، التي تستبدّ بهم، والالتزام لا يعني طرح الشعارات واللافتات المعدّة سلفاً؛ الأديب الأصيل يعرف فنيّاً كيف يعبّر عن تلك الهموم والمقاصد”.

وكتب فيه الراحل عبد الغني عماد لافتاً إلى ثلاثة أبعاد في نتاجه الفكريّ، الأوّل، الحضاري عبر الترجمات كترجمة “قوس قزح”، وترجمته لكتاب “حضارة ما بين النهرين” أشور وبابل للمستشرق الفرنسي دو لا بورت (1971)، وسنة 1978 نقل إلى العربية “الآثار الشرقية” للمستشرق أرنست بابلون، ولا بدّ من التوقّف عند مراجعته لكتاب “الأراضي المقدّسة” للرسّام الإنكليزي دافيد روبرتس، وهو كتاب سياحة فكرية وثقافية وتاريخية تشمل المسافة بين السويس وبعلبك.

والبُعد الثاني، السوسيولوجي- التاريخي، من خلال كتابَين له، هما “ملامح عن الحركات الثقافية في طرابلس خلال القرن التاسع عشر” (1982)، و”الخطاب السوسيولوجي عند فرح أنطون” (1994)، وفيه قراءة جديدة لخطاب النهضة عن أحد روّاد التنوير، ومنه دور طرابلس التنويري، على يد عدد من المفكّرين النهضويين في طرابلس.

والبعد الثالث، الأدبي والإنساني، تتخلّله كتابات، وترجمات، وقصص، وأبحاث، ومحاضرات، في لغة ذات تركيبة جمالية فيها سحر البيان، ووضوح المعنى.

في سنيه العشر الأخيرة، وضع كتاباً بحثياً فيه حنين لفلسطين بعنوان “الموسوعة في نباتات فلسطين البرية والمزروعة”، من 1000 صفحة، ويذكر إبنه هتاف أنه “بقي قيد الطبع لصعوبة طبعه، وارتفاع تكاليفه بسبب اعتماده على الكثير من الصور”، آملاً أن تسنح الظروف لطباعته بعد انتهاء الأزمات التي نعيش، ووضعه بين أيادي القرّاء، كوثيقة هامة للإرث الطبيعي الفلسطيني”.

* بقلم : نقولا طعمة
* المصدر: الميادين نت