السياسية:

تواجه الحكومة الجديدة في باكستان موجةً متصاعدة من العنف في إقليم بلوشستان، فما قصة ذلك الإقليم الساعي للانفصال عن الدولة النووية؟ وكيف يمكن أن يتعامل خليفة عمران خان مع تلك القضية الشائكة؟

كانت المعارضة الباكستانية قد نجحت في الإطاحة بعمران خان وتولِّي شهباز شريف رئاسة الوزارء، على خلفية ما وصفه نجم الكريكيت ورئيس الوزراء السابق بأنه “مؤامرة أمريكية” للإطاحة بحكومته؛ بسبب موقف إسلام آباد من الهجوم الروسي على أوكرانيا، وهو الموقف الذي لم يعجب واشنطن.

ونشرت صحيفة New York Times الأمريكية تقريراً عنوانه “تصاعد العنف من قِبَلِ الانفصاليين في باكستان يزيد من عدم الاستقرار”، ألقى الضوء على مشكلة عنيفة تواجه الحكومة الجديدة وتتمثل في تكثيف الانفصاليين في أحد أقاليم البلاد هجماتهم الدموية.

*ماذا يجري في إقليم بلوشستان؟
كانت شاري بلوش تبلغ من العمر 30 عاماً وأُماً لطفلين ومُعلِّمةً في مدرسة، وفي أواخر الشهر الماضي، في حرم جامعي في كراتشي، أكبر مدن باكستان، فجَّرت قنبلةً انتحارية، مما أسفر عن مقتلها وأربعة آخرين، من بينهم ثلاثة مدرسين صينيين.

أعلن جيش تحرير بلوشستان مسؤوليته ونشر صورةً لها تلوِّح بعلامة النصر، وقد وسَّع موجة الهجمات المميتة التي شنَّها الانفصاليون البلوش في الآونة الأخيرة. لكنَّ الانفصالية البلوشية ليست إلا واحدة من القوى التي تهدِّد وحدة البلاد واستقرارها، بما في ذلك حركات التمرُّد العنيفة التي يقوم بها فرع تنظيم الدولة الإسلامية في البلاد، علاوة على حركة طالبان الباكستانية.

عانت باكستان، الدولة المسلمة البالغ عدد سكَّانها أكثر من 200 مليون نسمة، طويلاً من الافتقار إلى الاستقرار الاقتصادي ومن الفساد والتقلبات السياسية؛ إذ يمارس الجيش المسلَّح نووياً وجهاز استخباراته المخيف تأثيراً كبيراً على الحكومات، وقد أطاحوا بجميع رؤساء الحكومة المنتخبين منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1947، وكان آخرهم عمران خان.

أما بلوشستان، فهي مقاطعةٌ كبيرة قاحلة في جنوب غرب باكستان، على الحدود مع إيران وأفغانستان، لديها موارد معدنية غنية وساحل طويل، بتعداد سكَّاني 12 مليون فقط على امتداد مساحةٍ تقارب مساحة ألمانيا. منذ تأسيس باكستان عام 1947، واجهت خمس حركات تمرُّدٍ في المنطقة، أحدثها حركةٌ مستمرةٌ منذ 2003.

وشنت الجماعات المتمردة مراراً حملات عنيفة ضد ما تصفه بالمركزية السياسية واستغلال الموارد، وفي المقابل كان على تلك الجماعات مواجهة القمع الشديد وانتهاكات حقوق الإنسان من جانب حكومات إسلام آباد، بحسب تقرير الصحيفة الأمريكية.

ومن جهة أخرى، تعمل مبادرة الحزام والطريق الصينية على تطوير ميناء للمياه العميقة تديره الصين في جوادار، بلوشستان، وشبكة نقل تربط جوادار بالصين. تنظر الحكومة الباكستانية إلى مثل هذا الاستثمار الأجنبي على أنه أمرٌ حيوي، وهي حريصة على تعزيز العلاقات مع الصين كثقل موازن لعدو باكستان اللدود، الهند.

* لماذا تتعرض مصالح الصين للاستهداف؟
لكن بالنسبة للانفصاليين، فإن مشاريع التنمية تضع بكين بشكل مباشر إلى جانب المستغِلين والمضطهِدين، لذلك في السنوات الأخيرة، كانت الكثير من أهداف عنف المتمردين أهدافاً صينية.

في عام 2018، قتل جيش تحرير بلوشستان أربعة أشخاص في هجومٍ على القنصلية الصينية في كراتشي، وفي عام 2020 شنت الجماعة هجوماً على البورصة الباكستانية في كراتشي، المملوكة بنسبة 40% لمستثمرين صينيين؛ مما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص. وفي كلتا الحالتين، قُتِلَ المهاجمون أيضاً. وفي أغسطس/آب الماضي أيضاً، قتل انتحاريٌّ ينتمي لجيش تحرير بلوشستان طفلين في هجومٍ على مواطنين صينيين في جوادار.

فجَّرَت شاري بلوش نفسها الأسبوع الماضي بالقرب من شاحنةٍ تنقل مُعلِّمي اللغة الصينية إلى معهد كونفوشيوس، وهو شبكة عالمية من المراكز الثقافية تموِّلها الحكومة الصينية. ووصف جيش تحرير بلوشستان المعهد بأنه “رمزٌ للتوسُّع الاقتصادي والثقافي والسياسي الصيني”، وهدَّد بأن أعمال التنمية الصينية ينبغي أن تتوقَّف، “وإلا ستكون هجماتنا المستقبلية أشد”.

لطالما اشتكت باكستان من أن الانفصاليين البلوش ينشطون من مخابئ في أفغانستان، بينما اتَّهَمَت الحكومة الأفغانية السابقة وكالة الاستخبارات الباكستانية بمساعدة طالبان.

بعد هجوم القنصلية الصينية في عام 2018، قتل مفجرٌ انتحاري قائد جيش تحرير بلوشستان وعدداً من شركائه -ليس في باكستان بل في قندهار بأفغانستان. وألقى مسؤولون أفغان باللوم على وكالة الاستخبارات الباكستانية في ذلك التفجير.

بحلول عام 2020، أُضعِفَ تمرُّد البلوش بشكلٍ كبير بسبب سنواتٍ من عمليات مكافحة التمرُّد، علاوة على الخلافات بين الجماعات الانفصالية، والمُحفِّزات الحكومية للمسلَّحين من أجل إلقاء أسلحتهم.

ويأمل المسؤولون الباكستانيون أن يؤدي استيلاء طالبان على السلطة العام الماضي إلى إنهاء استخدام أفغانستان كملاذ للمتمردين البلوش. فبعد هجوم جوادار، اعتقلت طالبان وطردت عدداً كبيراً من عائلات الانفصاليين، وفقاً لجماعات البلوش المتمردة.

* لماذا ارتفعت وتيرة هجمات البلوش؟
لكن شدة وتواتر الهجمات بدأت في الارتفاع بشكل حاد العام الماضي؛ مما يدل على تنامي عدوانية المسلَّحين. وتضاعف عدد الهجمات الإرهابية في بلوشستان تقريباً في عام 2021 مقارنة بعام 2020، وفقاً لمعهد باك لدراسات السلام، وهو مركز أبحاث مقره إسلام آباد، واستمرت وتيرة الهجمات في الارتفاع هذا العام. وبدأ المتمرِّدون في اللجوء إلى الهجمات الانتحارية، وأظهر تفجير 26 أبريل/نيسان في كراتشي استعداداً جديداً لاستخدام النساء كمهاجمات.

في فبراير/شباط، شنَّ جيش تحرير بلوشستان هجومين مزدوجين على موقعين عسكريين في بلوشستان. وقال الجيش الباكستاني إن 20 مهاجماً وتسعة عسكريين قُتِلوا. وقبل أيام، أدى هجومٌ شنَّته جماعةٌ مختلفة، وهي جبهة تحرير البلوش، على موقع عسكري آخر، إلى مقتل 10 جنود.

تحوَّلَت قيادة الجماعات الانفصالية الرئيسية في السنوات الأخيرة من زعماء القبائل التقليديين الذين يعيشون في المنفى الذاتي في أوروبا إلى قادة طلابيين سابقين أكثر تشدُّداً. وقال خبراء ومسؤولون أمنيون إن الجماعات شكَّلَت أيضاً تحالفاً عملياً لتجميع الموارد -وهو أحد الأسباب الرئيسية لتكثيف التمرُّد.

وهناك ربطٌ بين انتعاش التمرُّد وتجنيده للشباب، وخاصةً الطلاب. كان زعيما جماعتين انفصاليَّتين يقودان في السابق مجموعة طلابية محظورة، منظمة طلاب البلوش – آزاد، التي تعمل في الخفاء، ووفقاً لمسؤولي إنفاذ القانون، فهي مصدر رئيسي للمتمردين.

قال محمد أمير رنا، مدير معهد باك لدراسات السلام لصحيفة نيويورك تايمز: “إن ظهور الطلاب البلوش الذين يدرسون في الجامعات المرموقة في البلاد، وزيادة معرفة القراءة والكتابة والمشاركة في السياسة العرقية هي بعض العوامل الرئيسية التي عمقت الوعي بالمظالم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الشباب”.

وفي بلدة توربات، حيث قامت شاري بلوش بتدريس العلوم، ادَّعى طالب أنه يعرف ما لا يقل عن خمسة آخرين ممن انضموا إلى التمرُّد خلال العامين الماضيين. قال الطالب، الذي أصر على عدم ذكر اسمه خوفاً على سلامته، للصحيفة الأمريكية: “إنهم مستعدون نفسياً لقتل أنفسهم من أجل القضية”.

قامت الأجهزة الأمنية الباكستانية بقمع الشباب البلوش المتعلم؛ حيث قامت “بإخفاء” المسلحين المشتبه بهم قسرياً، أحياناً لسنواتٍ دون محاكمة، وفقاً لتقارير إخبارية وجماعاتٍ حقوقية.

وقال فيصل نواز، الطالب من بنجغور في بلوشستان، والذي يدرس في جامعة كراتشي: “في هذه الأيام، تعتبر وكالات إنفاذ القانون كل طالب جامعي من بلوشستان متشدِّداً مُحتَمَلاً”.

وتركَّزَت الهجمات الانفصالية في منطقة مكران ذات الكثافة السكانية المنخفضة في بلوشستان؛ حيث يعتمد السكان على التجارة غير المشروعة في الوقود والسلع الأخرى عبر الحدود مع إيران؛ إذ إنه في منطقةٍ صحراويةٍ بها فرص عمل قليلة، يمكن أن يكون التهريب مسألة بقاء. لكن المعابر الحدودية الرسمية أُغلِقَت في مارس/آذار 2021، مما زاد من صعوبة التجارة وفاقَمَ من بؤس السكان المحليين.

* المصدر: عربي بوست