ابن النفيس صاحب أضخم موسوعة عربية في الطب
السياسية:
يُعتبَر ابن النفيس (ت 687 هـ) أحد أهم ثلاثة أطباء في تاريخ الطب العربي الإسلامي، إلى الرازي (ت 313 هـ) وابن سينا (ت 428 هـ). و”هو أعظم شخصية طبية في القرن السابع الهجري، وهو صاحب أضخم موسوعة طبية يكتبها شخص واحد في التاريخ الإنساني: “الشامل في الصناع الطبية. وقد وضع مسودّاتها بحيث تقع في ثلاثمائة مجلّد، بيّض منها ثمانين”، على حد توصيف الكاتب المصري يوسف زيدان في مؤلَّفه “إعادة اكتشاف ابن النفيس” (ص 6).
على أن الفضل في إعادة اكتشافه يُعزى بالدرجة الأولى إلى الباحث المصري محيي الدين التطاوي؛ فبعد قرون من مكوث ابن النفيس في الظلمة، شكّل عثور الباحث المذكور على مخطوطة “شرح تشريح القانون”، خلال عكوفه على تحضير شهادة الدكتوراه في الطب، في جامعة فرايبورج الألمانية، في العشرينيات من القرن الماضي، فرصة لإخراجه من الظلمة إلى النور، حتى إذا ما توفي مبكّراً في العام 1937، تلفّ الظلمة ابن النفيس مجدّداًّ، بضعة عقود أخرى، ليقوم بإخراجه منها الباحث بول غليونجي في الثمانينيات من القرن نفسه بكتابه الصادر في العام 1983 (المرجع نفسه، ص 10، 11).
تفتقر المصادر التاريخية إلى معلومات قاطعة عن صاحب العلاقة ممّا يتعلّق باسمه ونسبه ووالديه وتاريخ ميلاده ونشأته وتاريخ قدومه إلى مصر، والمعلومات المتوافرة عنه يطغى فيها الترجيح على القطع؛ وقد جاء فيها أن اسمه علاء الدين بن أبي الخرم أو الحزم، وأن لقبه ابن النفيس، وأن كنيته القَرَشي نسبة إلى مكان ولادته في قرية قَرَش من ضواحي دمشق، وأنه وُلِد سنة 607 ه / 1210 م وتوفي في القاهرة سنة 687 ه / 1288م. وإذا كان لقبه قد طغى على اسمه، في جميع الدراسات التي تناولته والمؤتمرات التي عُقِدت حوله، فإن بعض الدارسين يشكّك في صحة اللقب، ويرجّح أن يكون أُطلِق عليه، عن طريق الخلط بينه وبين غيره، فصادف هوى عند بعض المؤرّخين، المتأخّرين والمعاصرين، دون أن تقوم عليه حجة معيّنة (المرجع نفسه، ص 29).
نشأ ابن النفيس في دمشق في عهد السلطان سيف الدين الأيوبي. وكانت يومها تلي بغداد في الأهمية، باعتبارها حاضرة علمية ومركز استقطاب للعلماء. وفيها تتلمذ على مهذّب الدين عبد الرحيم علي الملقّب بالدخوار (ت 628 ه) الذي عيّنه السلطان سيف الدين الأيوبي رئيساً لأطباء سوريا ومصر عام 607 ه، وعلى عمران الاسرائيلي الذي أبى أن ينقطع إلى ملك معيّن. وكلاهما ممّن يعتمد الطريقة الإكلينيكية في التدريس والمعالجة، وهي طريقة تشبه ما يُعتمَد حالياًّ في كليات الطب. وجاء انخراطه في جوٍّ علمي مبني “على الخبرة والأصالة في التفكير، والمناقشة غير المقيّدة”، على حد توصيف بول غليونجي في كتابه “ابن النفيس” (ص 83) ليرفد التلمذة، ما جعله يجمع بين الدراسة النظرية والممارسة العملية.
وإذا كان ابن النفيس ثالث اثنين شكّل معهما المثلّث الأهم في تاريخ الطب العربي الإسلامي، هما الرازي وابن سينا كما سلفت الإشارة، فمن الجدير بالذكر، في هذا السياق، أنه “اقتفى أثر الرازي في التجريب والتعويل على الملاحظات الإكلينيكية، كما أُعجب بقانون ابن سينا وجعله دستوراً للطب يدرّسه لتلاميذه ويضع عليه الشروح والتفسيرات والتلخيصات كما يضع عدة مؤلفات طبية تتصل من قريب أو بعيد بهؤلاء المفكرين الأطباء”، على رأي بركات محمد مراد في كتابه “ابن النفيس واتجاهات الطب العربي العلمية” (ص 5). على أن اقتفاءه أثر السابقين له لم يكن على طريقة وقوع الحافر على الحافر، بل هو اقتفاء نقدي تتمظهر فيه منهجيته العلمية، “فيجاهر بإنكار كل ما لم تدركه حواسه، أو يقبله عقله أو يستند إلى أساس صحيح من الملاحظة والمشاهدة العلمية الدقيقة المستندة إلى الخبرة الطبية”. لذلك، هو “لا يعول على أقوال السابقين حين تتعارض هذه الأقوال مع الملاحَظ والمشاهَد في تشريح الأعضاء، فلا يضع في اعتباره وافق ذلك السابقين أو خالفهم، طالما يستقي أفكاره ومعلوماته من الوقائع والخبرات العملية الحقيقية”، على ما يذهب إليه بركات محمد مراد (المرجع نفسه، ص 40، 42). ولعل هذه المنهجية تفسّر أسباب انتقاده جالينوس، وارتضائه بأبقراط، وإجلاله ابن سينا ما جعل معاصريه يلقبونه بابن سينا الثاني.
حين لمع نجم ابن النفيس في الطب وطبقت شهرته الآفاق أرسله أولو الأمر من الأيوبيين إلى مصر ليدشن مرحلة جديدة في حياته، وكانت يومها حاضرة مزدهرة بالعلم والحضارة والعمران وتكثر فيها المستشفيات، وقد أحصى ابن أبي أصيبعة ما لا يقل عن ستين طبيباً مشهوراً فيها بين عامي 180 ه و 640 ه (عيون الأنباء، ج3، ص 14). ومن الأطباء الكبار الذين عاصرهم في هذه المرحلة: الشيخ السديد، موسى بن ميمون، رشيد الدين ابن أبي خليفة وضياء الدين بن البيطار وغيرهم. وتحوّلت داره في القاهرة إلى مقصد للأطباء والعلماء والأعيان والأمراء (غليونجي، ص 86). وفي هذه المرحلة، أُتيح له أن يكون شاهداً على بعض الأحداث الكبرى ومنخرطاً في بعضها الآخر؛ فقد “شاهد الجيوش تُعِدّ للسفر أو تعود منه، وحضر الدسائس والقتل والتعذيب بين المماليك، وعاصر الحروب الصليبية […] وهجوم هولاكو على بغداد وهدمها في سنة 656 ه / 1258 م والوباء الذي نشأ في مصر في سنة 671 ه / 1272 م وفتك في ديارها نحو ستة أشهر وآل إليه ـ بحكم ما كان قد سما إليه من المكانة المرموقة بين زملائه وعند الحكام ـ أن يتولى نصيب الأسد في مكافحته” (غليونجي، ص 92، 93).
المؤلفات والإنجازات
هذه الحياة الحافلة بالعلم والعمل، بمرحلتيها الدمشقية والمصرية، تمخّضت عن عدد كبير من المؤلفات والإنجازات الطبية؛ ولعل عدم زواجه وانشغاله بتكوين أسرة “ساعدا على تركيزه في الدراسة وعلى وفرة إنتاجه (…). ويُشتمّ ممّا قيل عنه انشغاله بالتفكير عمّا يحيط به، أنه كان كثير السهو وأن قريحية التأليف كانت تتسلّط عليه أحياناً بقوة لا يستطيع الإفلات منها فتحفزه إلى رمي ما في يده وحصر فكره في الكتابة…” ، على حد تعبير بول غليونجي (المرجع نفسه، ص 94).
أمّا المؤلفات فقد ألّف في: الطب والتشريح والكشف والعلاج، والفقه والحديث والشريعة والسيرة النبوية، واللغة والنحو والبيان، والمنطق. غير أن معظم مؤلفاته ضاع ولم يصل منها سوى النزر اليسير. ويورد له بول غليونجي من هذا النزر أربعة عشر كتاباً في حقل الطب وفروعه، نذكر منها: الشامل في الطب، شرح القانون، المهذب في الكحل، المختار في الأغذية، شرح فصول أبقراط، شرح تشريح جالينوس، على سبيل المثال لا الحصر. ويورد له سبعة كتب في الحقول الآخرى، نذكر منها: طريق الفصاحة، شرح كتاب الغشارات، شرح الهداية في المنطق، على سبيل المثال أيضاً. ويتراوح عمله في هذه الكتب بين الوضع والجمع والشرح والاختيار والتعليق والتلخيص (المرجع نفسه، من ص 100 إلى ص 108).
وأمّا الإنجازات فيرى الباحث يوسف زيدان أنه من الظلم بمكان حصرها في اكتشاف الدورة الدموية الصغرى، على ما تشير إليه الأدبيات الطبية التاريخية، ويورد له إنجازات علمية أخرى، منها أنه “اكتشف الدورتين الصغرى والكبرى، ووضع نظرية باهرة في الإبصار والرؤية، وكشف عن العديد من الحقائق التشريحية وجمع شتات المعرفة الطبية والصيدلانية في عصره، وقدّم تصورات رفيعة المستوى على صعيد المنهج والنزعة العقلانية وقواعد البحث العلمي” (زيدان، ص 7، 8).
وعلى غزارة مؤلفاته وكثرة إنجازاته، فإن ابن النفيس يتميز بالأمانة العلمية ولم يكن يتورّع عن التصريح بعدم معرفته بعلاج هذا المرض أو ذاك. وهو في علاجه كثيراً ما يؤثر العلاج الطبيعي على الصناعي. وفي هذا الصدد، ينقل صاحب “مسالك الأبصار” عن أحد الشيوخ قوله: “ابن النفيس على وفور علمه بالطب وإتقانه لفروعه وأصوله قليل البصر بالعلاج فإذا وصف لا يخرج بأحد عن مالوفه ولا يصف دواء ما أمكنه أن يصف غذاء ولا مركّباً ما أمكنه الاستغناء بمفرد، وكان ربما وصف القمحية لمن شكا القرحة، والتطماج لمن شكا هواء، والخروب والقضامة لمن شكا إسهالاً…” (غليونجي، ص 96، 97). غير أن ما يأخذه الشيخ على ابن النفيس ينبغي أن يُحسب له لا عليه. وتأتي القرون اللاحقة لتثبت صحة رؤيته العلاجية. ولعل هذه الرؤية، مضافة إلى المؤلفات الغزيرة والإنجازات الكثيرة، هي ما جعلت ابن النفيس يتبوّأ مكانته الطبية الرفيعة بامتياز، ويشكّل الزاوية الثالثة في مثلّث الطب العربي الإسلامي عبر التاريخ.
* المصدر: وسائل اعلامية