مشاهد مستقبل الحرب في أوكرانيا
السياسية:
من النتائج الأولية لهذه الحرب تحقيق تقدم في المسار الروسي الصيني الهادف إلى كسر الهيمنة الغربية على منظومة المدفوعات المالية الدولية.
إنّ الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا غير معزولة عن مدخلات الحرب ذات الصلة المباشرة بالأمن القومي الروسي. وفي الوقت عينه، هي حرب تُتوج حالة الصراع الدولي حول النفوذ والتأثير في القرار الدولي ومجريات الأمور على وجه الأرض، وهي حرب تهدف إلى إعادة رسم خرائط النفوذ وإعادة التموضع الدولي بعد 3 عقود انفردت فيها الولايات المتحدة الأميركية بقيادة العالم، وفرضت خلالها رؤاها الثقافية والاقتصادية والسياسية عليه بمساندة غربية.
خلال هذه الحقبة، تعرضت دول عظمى، مثل روسيا والصين، لمحاولات الإضعاف والإخضاع والتهميش، فعكفت على ذاتها، وأعادت بناء قدراتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، بالقدر الذي يؤهّلها لاستشراف مستقبلها الحر وتحقيق رؤاها الاستراتيجية وتطلعاتها المستقبلية، التي تفرض عليها إعادة بناء النظام الدولي وإخراج العالم من الهيمنة والقطبية الواحدة إلى طلاقة التعددية القطبية التي تفتح آفاق التوازن الدولي الذي غاب بغياب الاتحاد السوفياتي.
وحين أدرك الغرب ممثلاً بحلف الأطلسي ما بلغته روسيا والصين من قدرات مكَّنتهما من التغلّب على محاولات التطويق والهيمنة الغربية، سعى إلى إحكام حصاره عليهما، وإلى المحافظة على المكاسب الاستراتيجية التي تحقّقت له خلال العقود الثلاثة الماضية، في غياب المنافس الَّذي يهدد الآن تلك المكاسب.
في كلمته التي ألقاها عشية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، قدم رئيس الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين سرداً تاريخياً لعلاقة بلاده بأوروبا (الغربية) وأميركا، وتوقَّف عند عِبر تلك العلاقة التي أكدت عنده طبيعة التوجهات الأطلسية بصفة عامة، وتوجهات ما أسماه بإمبراطورية الكذب الأميركية بشكل خاصّ، لكونها توجهات تعمل على تحقيق مصالح طرف واحد على حساب مصالح بلاده. وقد عرض المواقف التي خذلت فيها دول حلف الأطلسي بلاده خلال ثلاثينيات وأربعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وأثناء انهيار الاتحاد السوفياتي وما تبع تلك الحقبة.
وأسهب بوتين في الحديث عن العلاقات الروسية الغربية خلال 30 عاماً – عمر الاتحاد الروسي الذي نشأ عقب تفكك الاتحاد السوفياتي – وقال: “من المعروف أنّنا على مدى 30 عاماً حاولنا بإصرار وصبر التوصّل إلى اتفاق مع دول الناتو حول مبادئ الأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة في أوروبا. وفي مقابل مقترحاتنا، واجهنا باستمرار الخداع والأكاذيب الساخرة أو محاولات الضغط والابتزاز، في حين أنَّ حلف شمال الأطلسي في هذه الأثناء، ورغم كل احتجاجاتنا ومخاوفنا، توسع باطراد. إنّ آلة الحرب تتحرك، وأكرر أنها تقترب من حدودنا، رغم وعودهم لبلدنا بعدم توسيع الناتو، ولو لشبر واحد، إلى الشرق. أكرّر، لقد خدعونا. إنهم يعملون على تدمير قيمنا التقليدية وفرض قيمهم الزائفة علينا، والتي من شأنها أن تفسدنا من الداخل”.
وقال بوتين: “في أراضينا التاريخية، يتمّ إنشاء كيان مناهض لروسيا، ويتم وضعه تحت السيطرة الخارجية الكاملة وتعزيزه بشكل مكثف من قبل القوات المسلحة في دول الناتو، ويتم منحه أحدث الأسلحة، وهم يزعمون أيضاً أنهم سيطوّرون أسلحة نووية. هذه سياسة احتواء لروسيا، وهي تمنح الناتو مكاسب جيوسياسية واضحة. بالنسبة إلى بلدنا، إنها مسألة حياة أو موت في النهاية، ومسألة تمس مستقبلنا التاريخي كشعب، وهي ليست مبالغة. هذا صحيح. هذا تهديد حقيقي، ليس لمصالحنا فحسب، ولكن لوجود دولتنا وسيادتها أيضاً. هذا هو الخط الأحمر الذي تم الحديث عنه مرات عديدة”.
وبهذا، حدّد بوتين مخاطر سياسة احتواء روسيا التي تنتهجها دول حلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وحدّد طبيعتها، لكونها تمثل تهديداً وجودياً لبلاده التي شنّت عملية عسكرية واسعة على دول المنظومة الغربية التي تقودها أميركا على الأرض الأوكرانية، دفاعاً عن وجودها وحاضرها ومستقبلها، كما يقول الخطاب الإعلامي الروسي.
حذّر الرئيس الروسي في خطاب شهير له في العام 2007، ألقاه في مؤتمر الأمن الذي عُقد في مدينة ميونيخ، من الأحادية القطبية، وأكد رفضه لها، كما أكَّد أن الأمن في أوروبا مشترك لا يمكن تجزئته.
تجاهل الأطلسي هذا التحذير، وقام بالثورات الملوّنة التي أطاحت حكومات قريبة من موسكو. وفي مؤتمر بوخارست في العام 2008، كان قرار دول الأطلسي بفتح باب انتساب جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف. في هذا القرار، تمّ زرع جذور الأزمة الحالية، وتمّ تعزيزها عبر الانقلاب الذي دفعت به في أوكرانيا في العام 2014، والإتيان بحكومة شديدة العداء لروسيا، تسيطر عليها أقلّية “نيونازية”.
وفي أواخر العام 2021، حاول الأطلسي تغيير النظام في بلاروسيا. وفي العام 2022، تكرّر السيناريو في كازاخستان لاستكمال محاصرة روسيا، فنجحت الأخيرة في وأد التمرّد والقضاء عليه في البلدين بسرعة فائقة.
يتّصل كلّ ما سبق بالوقائع والحيثيات التي حملت الاتحاد الروسي ورئيسه فلادمير بوتين إلى اتخاذ قرار كبير دخلت عبره روسيا في مواجهة استراتيجية مع أميركا وحلفائها في حلف الناتو على التراب الأوكراني، لحماية أمنها القومي وكيانها السياسي ومصالحها الاستراتيجية التي لن يحققها سوى انتصار سياسي بأداة عسكرية وأخرى اقتصادية، ينتج خرائط نفوذ استراتيجي جديدة وواقعاً جيوسياسياً جديداً.
وفي مقاربة لنتائج العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، رأى الدكتور زياد الحافظ في مقاله “الغرب بين الربح التكتيكي والخسارة الاستراتيجية”، الصادر يوم 4 آذار/مارس 2022، أن حلف الأطلسي حقّق 4 مكاسب من خلال الحرب في أوكرانيا، هي:
– جرّ روسيا إلى مواجهة عسكرية في أوكرانيا مع القوّات المسلّحة الأوكرانية والكتائب “النيونازية” التي تسيطر على مقدّرات البلاد، وهو نجاح تكتيكي الطابع لأميركا وحلفائها، ستكون له تداعيات استراتيجية سلبية.
– ضرب التقارب الأوروبي الروسي بشكل عام، ومنع التقارب الروسي الألماني، عبر تجميد تشغيل خط سيل الغاز الشمالي الثاني (نورد ستريم 2). والمعلوم أن روسيا تزوّد ألمانيا وأوروبا بأكثر من 40% من احتياجاتها في الغاز، لكن مع تعثّر خط الغاز الذي يمرّ بأوكرانيا، أصبحت ألمانيا وأوروبا مكشوفة بشكل كبير تجاه الغاز.
هنا، ينبغي التذكير بأن خط “نورد ستريم 2” بُني بناءً على طلب ألمانيا، بعد الانقلاب الذي حصل في أوكرانيا في العام 2014. لذلك، يصبح إقفال هذا الخط نجاحاً تكتيكياً آخر، لكن مردوده الاستراتيجي سيكون كارثياً على ألمانيا وأوروبا التابعة للولايات المتحدة.
– فرض حصار مالي واقتصادي على روسيا لعزلها عن العالم وإخضاعها، بغية قلب النظام القائم واستيلاد حكومة تابعة للغرب، تمهيداً لاستيلاب الثروات الاقتصادية الضخمة الموجودة في روسيا، لكن هذا النجاح التكتيكي في الحصار سيكون كارثياً على الولايات المتحدة، وهو ينذر بتسريع نهاية هيمنة الدولار في التداول العالمي.
– السيطرة على السردية الإعلامية بشكل مطلق في الدول الغربية، لكن الحلف في المقابل كرّس سقوط الإعلام المهيمن الذي لم ينقل وقائع العملية العسكرية بشكل صحيح، بل اكتفى بسرد الأكاذيب والتضليل والتلفيق، ما أنهى مصداقيته في الولايات المتحدة، حيث اكتسب الإعلام الموازي شرعية متنامية في معركة “المصداقية”.
ولئن شكّل ما سبق معطيات تأسس عليها قرار روسيا الذي قضى بدخول قواتها إلى أوكرانيا، وشكَّل ملمحاً للمكاسب التكتيكية التي حققتها أميركا وحلفاؤها حتى تاريخ هذا المقال، وأبرز في المقابل بعض النتائج الاستراتيجية لهذه المكاسب، فقد بات أمر تقديم قراءة استشرافية لمستقبل ما يحدث بين روسيا والغرب على أرض أوكرانيا أمراً لازماً.
وإذ يقدم هذا المقال هذه القراءة، فهو يهدف إلى المساهمة في تقديم مادة استشرافية، تقدم إضاءات وملامح عامة عن مستقبل هذه الحرب، من خلال توظيف وقائعها ومعطياتها، وقبل ذلك أهداف أطرافها، في بناء المشاهد المستقبلية لها، والتي يُلخصها في المشاهد الثلاثة الآتية:
المشهد الأول: مشهد الانتصار الروسي
يمنح هذا المشهد روسيا القدرة على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، ومن بينها صون أمنها القومي، وإعادة رسم الجغرافيا السياسية لأوكرانيا، بالقدر الذي يؤمن انفصال القرم ودونيستك ولوغانسك وغيرها من المناطق المتاخمة للحدود الروسية، ويؤمن نزع سلاح أوكرانيا، ويمنع امتلاكها الأسلحة الاستراتيجية بشكل عام، والسلاح النووي بشكل خاص، ويضمن كذلك إعادة الهندسة السياسية في أوكرانيا، لتصبح دولة محايدة، ما لم تكن موالية لروسيا، ولتصبح محررة من وجود النازية الجديدة وتأثيرها.
ويتّصل بهذا المشهد توسع نفوذ روسيا والصين في المسرح الدولي، من خلال وضع حد للأحادية القطبية على المستوى الكوني، وفتح الأفق على تعددية قطبية تقوم على أنقاض الهيمنة الأميركية الغربية على القرار الدولي في أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية.
إن مؤشرات الحرب ومعطيات الأداء السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري تؤشر جميعها إلى أنَّ روسيا تحقق في مساراتها المختلفة تقدماً معتبراً، فعلاقاتها مع الصين بلغت مرحلة التعاون الاستراتيجي، بحسب التعبير الصيني في أعلى مستوياته، وعلاقاتها تعززت مع كوريا الشمالية والهند وإيران وجنوب أفريقيا وعدد آخر مقدر من دول العالم. وفي داخل روسيا، هناك حالة من التماسك الوطني الشامل في أوساط الأطراف السياسية الروسية، شكلت سنداً ونصيراً للدولة في حربها الجارية في أوكرانيا.
وفي الجانب الاقتصاديّ، إنّ زيادة أسعار الغاز والبترول التي حدثت بسبب الحرب غزّت الخزينة الروسية بعائدات مالية ضخمة انعكست على قيمة الروبل الروسي، التي زادت نحو 100% في الفترة التي سبقت بداية الحرب وحتى الآن، ولم يستطع الغرب تحقيق هدف استنزاف روسيا اقتصادياً وعزلها دولياً.
ومن النتائج الأولية لهذه الحرب، تحقيق تقدم في المسار الروسي الصيني الهادف إلى كسر الهيمنة الغربية على نظام ومنظومة المدفوعات المالية الدولية. ولعل تراجع التعامل بالدولار في اقتصادات وازنة كالاقتصاد الصيني والهندي والروسي يُعد مؤشراً على تقدم المسار الروسي الصيني المشترك. ويعزز هذا المؤشر المؤشرات التي صدرت عن السعودية والإمارات بشأن تعاملهما بالروبل الروسي واليوان الصيني والروبية الهندية، الأمر الذي يشي ببداية نهاية حقبة البترودولار.
في المقابل، تدخل روسيا هذه الحرب بخيار واحد، هو خيار الانتصار العسكري الذي يحقق أهدافها من خلال الوقائع على الأرض أو عبر تسوية تنتجها وقائع كسبتها على أرض أوكرانيا. وفي حال اتخذ حلف الأطلسي قرار المشاركة المباشرة في هذه الحرب عبر آلته العسكرية، ستدخل روسيا الحرب بكل ثقلها، لأنها معركة مصير ومستقبل وبقاء بالنسبة إليها.
وهنا، لن تقبل روسيا بالهزيمة والانكسار والتراجع، وقد تضطر إلى استخدام قدراتها النووية، حتى لا تكون الخاسر الوحيد في هذه الحرب، وهو ما يدركه الأطلسي ويعمل على تفاديه. ولهذا، ركز جهده على عزل روسيا دولياً، واستنزافها اقتصادياً، وقتالها عبر الآلة العسكرية الأوكرانية.
لقد حدثت متغيرات كبيرة في مؤشرات القوة بين الدول العظمى في العقدين الأخيرين من هذه الألفية، إذ تبدلت مواقع الدول العظمى في ما يتصل بالقدرات الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
وقد خاضت الولايات المتحدة الأميركية خلال هذه الحقبة حروباً عسكرية واقتصادية في الصومال وأفغانستان والعراق وسوريا وإيران وغيرها من الدول، أثرت في قدراتها كافة، كما أثرت نتائج جولات الحروب الإسرائيلية في فلسطين ولبنان سلباً في هذه القدرات، الأمر الذي أدخل الولايات المتحدة الأميركية التي حكمت العالم منفردة لثلاثة عقود في حالة تراجع استراتيجي يشي بأُفول قدراتها وتضعضع مكانتها الدولية.
ويضاف إلى ذلك هشاشة الموقف الأوروبي وانقسامه بين تابع للسياسة الأميركية ورافض للتبعية، ما يضعف احتمال مضي الغرب متحداً في خيار الحرب الكونية الثالثة بكل ما تمثله من مخاطر على الجميع.
المشهد الثاني: مشهد التراجع الروسي
هو المشهد الذي يتحقق حين تعجز روسيا عن بلوغ الغايات التي دخلت الحرب من أجلها. وقد يتصل هذا العجز بأدائها العسكري أو السياسي أو بتداعيات الحرب الاقتصادية عليها. حينها، تحقق أميركا وحلفاؤها انتصاراً على روسيا، وهو الذي لم يتحقق منه شيء حتى الآن.
وإزاء ذلك، إن مشهد التراجع الروسي مرهون بدخول الأطراف في حرب عسكرية شاملة ومباشرة، يُغير من خلالها حلف الأطلسي موقفه الرافض حتى الآن مشاركة الجيش الأوكراني في الحرب، وينزل إلى ساحة المعركة برجاله وعدته وعتاده.
في حال حدث ذلك، ستكون المعمورة أمام حرب كونية ثالثة قد تستدعي استخدام طرف من أطراف الحرب أو طرفيها القدرات النووية التي ستضع نهاية للمعمورة ونهاية للحياة فيها. والمقال يستبعد دخول الأطلسي في هذه الحرب ومشاركته الجيش الأوكراني ساحات القتال والخسائر المباشرة أو حتى المكاسب، لأنه يدرك المخاطر الكارثية لمثل هذا القرار، ولأنه يريد أن يقاتل روسيا بالجيش الأوكراني لا بقواته.
إنَّ مشهد التراجع الروسي ينتج أسئلة كبيرة في حال دخول الأطلسي في الحرب بشكل مباشر، لإدراكه أن ذلك يمثل الخيار الصفري الذي يمكن أن يضع حداً للحياة في جغرافيا المعركة السياسية والاستراتيجية، بل يضع حداً للحياة على وجه الكرة الأرضية.
ومن الأسئلة التي ينتجها هذا المشهد: هل ستمضي أميركا وحلفاؤها لتوسيع أوار هذه الحرب، بجعلها حرباً مباشرة بينهما وبين روسيا؟ وهل ستتوحد إرادة الأطراف الغربية خلف هذا الخيار؟ وإلى أي مدى ستكون صلابة إرادة الأطراف الغربية خلف هذا الخيار؟ وماذا سيكون موقف الصين من ذلك؟
المشهد الثالث: مشهد التسوية بين الأطراف المتصارعة
يقوم هذا المشهد على قاعدة رابح رابح. وبموجبه، تنهي روسيا عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وتضمن لها مقداراً من السيادة على أرضها، مقابل تحقيق أهداف روسيا المتصلة بضمان أمنها الاستراتيجي، وإرساء قاعدة الأمن الواحد بينها وبين أوروبا بصفة خاصّة، وبينها وبين حلف الأطلسي بصفة عامة، وتضمن لها الأمن في مجالها الحيوي مع مقدار ما من التوازن الدولي بين الأطراف الدولية، في إطار تفاهم دولي جديد يمنح روسيا والصين امتيازات جديدة على صعيد القرار الدولي في بعده السياسي والدبلوماسي، وعلى الصعيد الاقتصادي والمالي، بما ينتج واقعاً جديداً في التعاطي الدولي مع قضايا المال والاقتصاد، يضع لبنات معتبرة في بناء التعددية دولية في المجالات كافة.
ختاماً، إنَّ المشهد الأكثر احتمالاً هو المشهد الثالث؛ مشهد التسوية الاستراتيجية بين الأطراف المتصارعة، لأنّ حلف الأطلسي لن يدع المشروع الروسي يبلغ نهايته، ليحصد خسائر استراتيجية فادحة، ولأنّ الطرفين لن يمضيا إلى الحرب الشاملة، وسيحرصان على عدم تصاعدها، لئلا تبلغ حد استخدام الأسلحة النووية المدمرة للكون، لأن اللجوء إلى هذا الخيار هو لجوء إلى معادلة خاسر خاسر، ولجوء إلى الفناء.
إنّ التسوية تؤمن للأطراف المتصارعة مكاسب لا تتحقق لروسيا في حالة انتصارها إلا بثمن غالٍ، ولا تتحقّق لحلف الأطلسي في حالة المشهد الثاني، ما دام تراجع روسيا وانكسارها يعني فناءها ونهاية مستقبلها. إنّ تجربة الصراعات بين الدول النووية تشير إلى أنها تنتهي بالتسوية حين تتيقَّن أن الصدام المباشر هو الخيار الأكثر احتمالاً، وخير شاهد على هذا أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا في العام 1962.
ولهذا، يرجّح المقال حدوث تسوية بين الأطراف الدولية المتصارعة، بما يجعل مشهد التسوية في مقدمة المشاهد، وهو المشهد الَّذي سيتحقق في مدى زمني ليس أقصر من زمن الحرب الكونية الثانية، وهي فترة زمنية ستكون مفصلية في تاريخ العلاقات الدولية، يضع خلالها بوتين الكون على حافة الحرب الكونية الجديدة، ليستشرف مستقبل علاقات دولية جديدة، ونظام دولي جديد، ونظام مدفوعات مالي دولي جديد.
* بقلم : محمد حسب الرسول
* المصدر : الميادين نت ـ المادة الصحفية تعبر عن رأي الكاتب