السياسية:

يشير التحليل الاجتماعي والاقتصادي لتوزع التصويت في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية إلى انقسام عميق ويزداد عمقاً باضطراد بين الفئات الاجتماعية بحسب انتشارها الجغرافي وأوضاعها المهنية وموقعها الجيلي. وبحسب هذه المؤشرات، يكون إيمانويل ماكرون عموماً مرشح سكان المدن الشباب من ذوي الامتياز المهني بينما تكون مارين لوبان مرشحة المناطق شبه الحضرية والريفية لدى الأكبر سناً من العمال الأفقر أو العاطلين.

وبحسب مقاربة قامت بها صحيفة لوفيغارو الفرنسية اعتماداً على بيانات ورسوم لـ1000 بلدية أو منطقة في فرنسا وبالاستناد إلى مؤشرات اجتماعية واقتصادية رسمية، فإن المعارضة ضد ماكرون تتميز قبل كل شيء بكونها ذات بعد مناطقي وإقليمي واضح.

فقد شهدت فترة ماكرون الرئاسية الأولى فصلاً قاسياً بين سكان المدن وبقية السكان في فرنسا والذي تحول ما يشبه هاوية سحيقة تجسدت بشكل خاص من خلال تمرد “السترات الصفراء”.

أصبحت المساحة شبه الحضرية أو الريفية أرضاً خصبة لمعارضة شرسة للرئيس وأفكاره عن البلاد وطموحاتها حول تغييرها. بالنسبة للكثيرين، فإنه يرمز إلى تجاوزات وانحرافات العولمة الظافرة، والتي بنيت بشكل جزئي على ظهور السكان الذين تركوا في الخلف لمصيرهم.

وتوزع التصويت بين المرشحين للرئاسة في المناطق بحسب عدد سكانها واضح بشدة. يرتفع التصويت لصالح ماكرون بارتفاع عدد السكان والعكس بالعكس بالنسبة للوبان، فقد صوتت مثلاً المدن التي يزيد عدد سكانها عن 100 ألف نسمة لصالح ماكرون بنسبة 47.3% مقابل 16.5% للوبان، بينما حصلت هذه الأخيرة على 36.8% في القرى التي يقل عدد سكانها عن 1000 نسمة مقابل 35% لماكرون.

وحين الانتقال من العامل الجغرافي المهم إلى العامل الاقتصادي الذي قد يكون أهم، فإن جميع المؤشرات تزيد من حدة الانتقادات التي توجه إلى ماكرون باعتباره “رئيس الأغنياء”.

يظل ماكرون المرشح المفضل لدى الفئات الاجتماعية المهنية العليا وهو اعتمد في الانتخابات الأخيرة بشكل شبه كلي على هذه الفئة لتحقيق انتصاره. وإذا لم يؤخذ ارتفاع نسبة الامتناع عن التصويت بين الموظفين الصغار والعمال والعاطلين، والذي كان مؤاتياً له، باعتباره دعماً غير مباشر لمشاريع الرئيس، فإنه يبقى بالفعل مرشح المرتاحين مادياً.

أما مارين لوبان فلم تنجح مجدداً في تحفيز وتحميس الطبقات الأكثر امتيازاً للتصويت لها، وذلك على عكس إريك زمور في الجولة الأولى مثلاً، ووجه الأمر أن نسبة الامتناع عن التصويت في أوساط هذه الفئة ضعيفة مما يجعل لوبان تخسر كمية كبيرة من الأصوات المضمون تحركها إلى صناديق الاقتراع. لكن ميزتها طبعاً هي في ارتفاع نسبة العمال والعاطلين الذين صوتوا لها.

عنصر آخر هام في التحليل هو الفئات العمرية والفجوة بين الأجيال وتضارب مصالح الشباب وكبار السن. نجحت مارين لوبان، هذه المرة، في حشد أكثر الأجيال دأباً على التصويت أي الناخبين الذين تبلغ أعمارهم 45 عاماً فأكثر، والعكس تماماً لدى ماكرون حرّك المصوتين الشباب ممن تقل أعمارهم عن 44 عاماً.

ويبدو بشكل عام أن الشباب الذين أغراهم جان لوك ميلانشون خلال الجولة الأولى نقلوا أصواتهم إلى الرئيس المنتهية ولايته ولكن دون حماس مفرط.

* فوز ماكرون
وفاز إيمانويل ماكرون الأحد الفائت بولاية رئاسية ثانية، بعد حصوله على نسبة 58.54 بالمائة من أصوات الناخبين، مقابل 41.46 لصالح منافسته مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان. ورغم تقدم ماكرون في الاستحقاقات الرئاسية، فإن “دورة ثالثة” لا تقل أهمية تنتظره وخصومه السياسيين وتتمثل في الانتخابات التشريعية المقررة في 12 و19 حزيران/يونيو المقبل. فسيتوجب على الرئيس ضمان أغلبية برلمانية مريحة لتجنب الدخول في تحالفات والاضطرار إلى التفاوض من أجل المصادقة على مشاريع القوانين.

بعد الإعلان عن فوز إيمانويل ماكرون بولاية رئاسية ثانية، يسابق مختلف الفرقاء السياسيين الزمن لتكثيف جهودهم، استعدادا للانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في 12 و19 حزيران/ يونيو المقبل، إذ لا يقل هذا الاستحقاق أهمية عن سابقه، اعتبارا للصلاحيات الممنوحة للنواب البرلمانيين ودورهم في تمرير القوانين المرتبطة بخطط الإصلاح في البلاد.

وعلى بعد حوالي سبعة أسابيع من موعد هذه الانتخابات، يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون تحديا كبيرا يتمثل في الحصول على أغلبية برلمانية مريحة تمكنه من تجنب الدخول في تحالفات سياسية قد تعرقل العمل التشريعي وتحول دون تنفيذ برنامجه. إذ يرتقب أن تحدد الانتخابات البرلمانية تركيبة الحكومة التي سيعتمد عليها ماكرون في خطط الإصلاح، خاصة وأن منافسته مارين لوبان، اعتبرت أن ما حصدته من أصوات في الانتخابات الرئاسية يشكل “انتصارا مدويا” وتعبيرا من جانب الفرنسيين عن “رغبة” في إقامة “سلطة قوية مضادة لإيمانويل ماكرون”. معلنة أن “المعركة الكبيرة من أجل الانتخابات التشريعية بدأت”.

خطاب لوبان الذي أعقب الإعلان عن نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ينم عن استشعار اليمين المتطرف حظوظه الكبيرة في إمكانية الفوز في الانتخابات التشريعية وسعيه الجاد لقطع الطريق أمام ماكرون نحو تشكيل أغلبية برلمانية، خاصة إذا تكونت كتلة ائتلافية مع زعيم حزب “الاسترداد” إيريك زمور، ونيكولا ديبون إينيان زعيم حزب “انهضي فرنسا”.

من جهته، يسعى جان لوك ميلنشون، مرشح أقصى اليسار في الدورة الأولى للانتخابات، لأن يصبح رئيس الحكومة المقبلة عبر الحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد في الانتخابات التشريعية. وهو ما يرى مراقبون أنه أمر غير مستبعد نظرا للنتائج المتقدمة التي حققها في الدورة الأولى من الاستحقاقات، واعتبارا أيضا لإمكانية تحالف أحزاب اليسار التي تتوفر على خزان أصوات مهم.

وخلال خطاب النصر، أقر الرئيس إيمانويل ماكرون أن تصويت كثير من المواطنين لصالحه، لم يكن اقتناعا ببرنامجه الانتخابي، أو إيمانا بأفكار حزبه، لكن منعا لفوز اليمين المتطرف، مشيرا إلى أن كثيرا من المصوتين أصحاب توجه يساري في الأصل. غير أن المشكل الذي يطرحه هذا النوع من التصويت بالنسبة لماكرون، هو كون هذه الكتلة الناخبة لا ترغب بالضرورة في حصول ماكرون على أغلبية برلمانية، وهو ما يعني نسبية تصويتها لصالح حزبه خلال الانتخابات التشريعية. لذلك فإن النتائج التي ستظهر التوزيع الحاسم “للسلطة” تحسم بعد نحو شهرين من الآن.

* أنصار لوبان:سننتظر الانتخابات التشريعية

أمام هذا الوضع القائم، وفي حال لم يفز بأغلبية برلمانية مريحة، سيضطر الرئيس المنتخب للتحالف مع أحزاب معارضة لبرنامجه والحكم من خلال تعايش سياسي، وهي عملية لم تشهدها فرنسا في السابق سوى مرتين اثنتين، آخرهما كانت في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك، الأمر الذي يخشى أن يتسبب في جمود تشريعي داخل البلاد.

في هذا السياق، يرى المحلل السياسي عبد المجيد بودن في حديثه لفرانس24 أن فوز ماكرون بولاية رئاسية ثانية أمر مهم، لكنه ليس كافيا، نظرا للنسبة التي حققتها منافسته مارين لوبان، الأمر الذي ينذر بصعوبات في مفاوضات تشكيل أغلبية برلمانية، مضيفا أن وعي الرئيس بهذا التحدي سيدفعه لا محالة لاستدراك نقائصه واستثمار الفترة الفاصلة بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية لتلبية مطالب الممتنعين ومحاولة إقناعهم”.

* فهم الانتخابات التشريعية

تجرى الانتخابات التشريعية الفرنسية كل خمس سنوات لاختيار أعضاء الجمعية الوطنية، وهي الغرفة الثانية في البرلمان الفرنسي إلى جانب مجلس الشيوخ. وتكتسي هذه الانتخابات أهميتها في كونها تحدد الأغلبية البرلمانية في الجمعية الوطنية، وهي أغلبية لها وزن في المصادقة على مشاريع القوانين من عدمها، وبالتالي فإن لها تأثير مباشر في رسم سياسة البلاد.

يتنافس المرشحون في هذا الاستحقاق من أجل نيل مقاعد الجمعية الوطنية، وعددها 577 مقعدا والتي تمثل الدوائر الفرنسية في كامل فرنسا، وقد باتت هذه الانتخابات تجرى بعد أسابيع من الرئاسيات بمقتضى قانون صادر عام 2001 كي تتزامن الفترة التشريعية مع الولاية الرئاسية.

* الانتخابات التشريعية

وتتم الانتخابات التشريعية الفرنسية وفقا لطريقة قائمة الأغلبية في دورتين في كل دائرة على حدة، لولاية تستغرق 5 سنوات. للفوز في الدورة الأولى ينبغي الحصول على الأغلبية المطلقة من أصوات الناخبين، بشرط ألا يقل عدد المصوتين عن 25٪ من عدد الناخبين المسجلين في القوائم الانتخابية.

ويتم إجراء الدورة الثانية، في حال عدم حصول أي من المرشحين على الأغلبية المطلقة، بين المرشحين الذين حصلوا على 12.5٪ من أصوات الناخبين، كحد أدنى، ويكتفى بالأغلبية النسبية في الدورة الثانية لاختيار الفائز.

وفي مقابل بحث إيمانويل ماكرون عن تحالفات، تسعى أحزاب اليسار للبحث بدورها عن تعايش سياسي، إذ صرح زعيم حزب فرنسا الأبية المحسوب على اليسار الراديكالي، جان لوك ميلنشون: “أنا لا أريد للسيدة لوبان أن تتولى البلاد، ولا أريد أن يحتفظ السيد ماكرون بالسلطة، ويجب أن أحل هذا التناقض، وأنا أحله بطريقة واحدة فقط، وأقول إن هناك جولة ثالثة”.

رغم الإقرار بصعوبة الجزم بطبيعة المشهد السياسي التشريعي المستقبلي، رجح المتحدث “أن يتحالف حزب الرئيس الفائز في الانتخابات الرئاسية مع أحزاب اليمين المعتدل وأحزاب يسارية معتدلة التوجه، مثل حزب الخضر الذي يملك رصيدا لا بأس به من الأصوات، مستبعدا في الوقت ذاته إمكانية حصول أي اتفاق بين اليمين المتطرف وأحزاب الوسط”.

* ماذا بعد؟

ويرى مراقبون أن صعوبة عملية تشكيل التحالفات البرلمانية تطرح مخاوف من حدوث شلل تشريعي يحول دون المصادقة على مشاريع القوانين ويدخل البلاد في حالة جمود، أو أن يحدث إرباكا في التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية للبلاد. هذا الأمر في نظر بودن مستبعد، أخذا بعين الاعتبار المخارج الدستورية والقانونية التي تسمح في جميع الأحوال ببناء تركيبة سياسية منسجمة، ولو جزئيا، بما يسمح بتجنب تلك الحالة، كالاتفاق بين التشكيلات السياسية الأكثر قربا وتوافقا على مستوى الأفكار، ولو تسبب ذلك في التنازل عن بعض بنود برنامجه، مشيرا من جهة أخرى إلى أن صلاحيات الرئيس الدستورية المريحة فيما يتعلق برسم وتنفيذ السياسة الخارجية تجعل مشكل التحالفات منتفيا”.

* من يفضل الفرنسيون؟

بحسب استطلاع رأي أنجزته الأحد مؤسسة “إبسوس” الفرنسية لصالح قناة France TV وصحيفة Le Parisien وإذاعة Radio France، فإن 56٪ من المواطنين الفرنسيين المستطلعة آراؤهم يريدون خسارة إيمانويل ماكرون في الانتخابات التشريعية، مقابل 20٪ يريدون أن يحصل على أغلبية مريحة تتيح له “تطبيق برنامجه” و24٪ يرون أنه من الأفضل الحصول على أغلبية لتجنب اضطراره إلى “تعايش سياسي”.

وفي تفاصيل الاستطلاع، فإن نسبة 84٪ من ناخبي جان لوك ميلنشون، و49٪ من ناخبي يانيك جادو، و 40٪ من ناخبي فاليري بيكريس، و 87٪ من ناخبي مارين لوبان و 80٪ من ناخبي إيريك زمور يريدون هزيمة ماكرون في الانتخابات التشريعية.

* أبرز ردود الفعل الدولية

أثار فوز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية بحصوله على 58,5 بالمئة من الأصوات مقابل 41,5 لزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، وفق تقديرات أولية، موجة من الارتياح وسط قادة الاتحاد الأوروبي والعالم الغربي الذين اعتبروه انتصارا للاتحاد وأعربوا عن سعادتهم بالتعاون مع فرنسا لمدة خمس سنوات أخرى هي مدة ولايته الرئاسية الثانية.

توالت ردود الفعل الدولية وبخاصة الأوروبية منها على فوز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بولاية ثانية بعد أن حصد 58,5 بالمئة حسب التقديرات الأولية في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي جرت الأحد، وذلك في مواجهة خصمته الشرسة زعيمة اليمين المتطرف ورئيسة حزب “التجمع الوطني” مارين لوبان التي حصدت 41,5 بالمئة من الأصوات.

الاتحاد الأوروبي

هنأ قادة الاتحاد الاوروبي إيمانويل ماكرون بإعادة انتخابه رئيسا لفرنسا، ورأى رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال أن أوروبا يمكنها “التعويل على فرنسا لخمسة أعوام إضافية”.

وكتب ميشال على تويتر “في هذه المرحلة المضطربة، نحتاج إلى أوروبا صلبة وإلى فرنسا ملتزمة تماما من أجل اتحاد أوروبي أكثر سيادة وأكثر استراتيجية”، فيما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين “أبدي ارتياحي إلى التمكن من مواصلة تعاوننا الممتاز. معا، سنمضي قدما بفرنسا وأوروبا”.

بينما غردت رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين بأنها “مرتاحة” إلى “مواصلة التعاون الممتاز” مع فرنسا بعد إعادة انتخاب ماكرون.

إيطاليا

واعتبر رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي أن فوز إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية هو “خبر رائع لكل أوروبا”. وعلق دراغي في بيان رسمي أن “انتصار إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية هو خبر رائع لكل أوروبا”.

ألمانيا

وهنأ المستشار الألماني أولاف شولتز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على فوزه في الانتخابات الرئاسية، معتبرا أن الذين صوتوا له أرسلوا “إشارة قوية لصالح أوروبا”.

وكتب على تويتر بالفرنسية “تهانينا”، وتابع بالألمانية قائلا “تهانينا، عزيزي الرئيس إيمانويل ماكرون. لقد أرسل ناخبوك اليوم إشارة قوية لصالح أوروبا. يسعدني أننا سنواصل تعاوننا الجيد!”

بريطانيا

هنأ رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إيمانويل ماكرون بإعادة انتخابه رئيسا لفرنسا، مبديا “سروره بمواصلة العمل” معه، ومؤكدا أن فرنسا هي أحد حلفاء المملكة المتحدة “الأكثر قربا”.

وغرد جونسون بالفرنسية الأحد “أهنىء إيمانويل ماكرون بإعادة انتخابه لرئاسة الجمهورية الفرنسية. فرنسا هي أحد الحلفاء الأكثر قربا والأكثر أهمية. أنا مسرور بأن نواصل العمل معا على موضوعات رئيسية بالنسبة إلى بلدينا وإلى العالم”.

كندا

فيما قال رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو أنه “يتطلع إلى مواصلة العمل” مع ماكرون بعد إعادة انتخابه.

* المصدر: وكالات ـ مونت كارلو