السياسية :

مرَّت 80 سنة على إصدار جان جينيه قصيدته المُطوَّلة “الرجل المحكوم بالإعدام”، و70 سنة على كتابة “سجن الأشغال الشاقّة”، وعلى كتاب جون بول سارتر  الترافعي “القديِّس جينيه: المُمثّل والشهيد”، و40 سنة على مُعاينته لمذبحة صبرا وشاتيلا وتأليفه لكتاب سيظلّ شاهداً على نقطة سوداء في تاريخ الإنسانية.

العفوية الجارحة

حين سألت الصحافية الكندية مادلين غويل جان جينيه: “لماذا قرَّرتَ أن تكون لصّاً؟” لم يتردَّد في الإجابة: “كنتُ أسرق لأني كنت جائعاً”. في ذلك الحوار القديم الذي أُنجِزَ منتصف ستينيات القرن الماضي لصالح مجلّة “بلاي بوي”، كانت الصحافية تجرّه نحو مواضيع الإثارة، فيما كان يذهب بها جهة الأدب وأسبابه.

آثرتْ الصحافية أن توجِّه إليه أسئلة كثيرة عن المثليّة والسجن والسرقة والجريمة، وآثر هو بالمقابل أن يقدِّم تفسيرات ثقافية لهذه الظواهر الاجتماعية التي تورَّط فيها الكاتب الفرنسي الشهير أو ورَّط نفسه فيها. غير أن الورطة عند جينيه لم تكن في ما يراه المجتمع انحرافاً وخروجاً عن الطبيعة، بل كانت ورطة الوجود برمَّته.

حين سألته غويل عن رفاقه القُدامى من اللصوص، وإذا كان قد صار بالنسبة إليهم خائناً بدا ردّه عميقاً: “كان عليّ أن أخون اللصوصية التي تشكّل فعلاً فريداً لصالح عملية أكثر شمولاً، وهي الشعر. كان عليَّ أن أخون اللصّ الذي كنتُه، لأصبح الشاعر الذي آمل أنني صرتُه”.

تكشف إجابات جينيه (1910 – 1986) عن عفويَّته وانسجامه مع ذاته وكان معروفاً عنه أنه لا يُعاقِر الخمر، وحين سألته غوبل: “لماذا لا تشرب الكحول؟” ردّ بمكر: “لأني لست كاتباً أميركياً”، واستطرد: “هذه الإغماءات الصغيرة التي تأتي من الكحول لا تفعل بي أيّ شيء، فأنا أحيا في إغماء طويل منذ زمن بعيد”.

الحياة مشهد تراجيدي

بدأ جينيه حياته بالتراجيديا، فصرخته الأولى كانت بلا صدى. ذهبت به أمّه، التي لم يعرف إسمها إلا بعد أن تجاوز العشرين عاماً، رضيعاً إلى دار الأيتام، حيث ستودِعه الدار إلى عائلةٍ في الأرياف للتكفّل به. كان الطفل مجهول الأب. هذه الطفولة المجروحة سيزداد ليلها حلكة حين وجد نفسه في إصلاحية ميتري الخاصة بالأحداث، بعد ارتكابه للسرقة.

لقد أصبح سجيناً وهو في العاشرة من عمره. ويبدو أنه دخل إلى بهو الأدب باكراً من باب السرقة، فقد كانت معظم مسروقاته هي الكُتب والأقلام، فضلاً عن الحلوى. غادر المدرسة وهو في عامه الــ 13، بالرغم من أنه حصل على المرتبة الأولى بين زملائه في امتحانات نهاية المرحلة الإبتدائية.

 الورطة عند جان جينيه لم تكن في ما يراه المجتمع انحرافاً وخروجاً عن الطبيعة، بل كانت ورطة الوجود برمّته.

تمّ إرساله لتعلّم الطباعة في ضواحي باريس، غير أنه لم يمكث سوى أسبوعين، وأراد ان يسافر خارج فرنسا. وظلّ يفكّر في بلدين بينهما فوارق ثقافية واقتصادية كثيرة، هما مصر والولايات المتحدة. وحين عثر عليه متشرّداً في مدينة نيس أُرغم على العودة إلى الملجأ في باريس. بعدها سيتكفّل به المؤلّف الموسيقي الضرير ريني دوبكسويل، وسيختلس مبلغاً مالياً من بيته، ليكون ذلك سبباً في طرده.

عانى جان من اضطرابات نفسية منذ صغره، وأُدخل وهو في عامه الــ 15 إلى قسم الأمراض النفسية في “مستشفى القديسة آن”، وتكفلت به “جمعية العناية بالأطفال والمراهقين” في باريس، حيث خضع لعلاج عصبي ونفسي.

في عامه الــ 16 سيقضي في السجن 3 أشهر، ويوضع بعدها في الإقامة الجبرية في إحدى المزارع القريبة من مدينة آبيفيل. سيفرّ من المراقبة، لكن سيتمّ وقفه في قطارٍ بين باريس ومو، ليودَع السجن من جديد. وبعد شهر ونصف الشهر ستُقرِّر المحكمة إرساله إلى الإصلاحية الزراعية في ميتري التي قضى فيها عامين ونصف العام إلى أن بلغ سنّ الرُشد.

ورغبة منه في الخروج من هذا الوضع المضطرب التحق جان بالخدمة العسكرية، وقضى فيها 6 سنوات. خلال تلك الفترة ستبدأ علاقته مع العالم العربي بالتشكّل، حيث قضى في سوريا ما يقارب السنة متطوّعاً ضمن “قوات المشرق” ومساهماً في بناء أحد الحصون في المزّة قرب دمشق.

وبعد دمشق سيلتحق بالمغرب، خلال المرحلة الكولونيالية، متطوّعاً ضمن فريق الرُماة في مدينة مراكش ثم ميدلت وبعدها مكناس.

قوبلت أشعار جينيه التي كتبها في السجن بالكثير من السخرية والاستخفاف من قبل باقي السجناء، فعرف حينها أن سوء الفهم هذا هو الخطوة الصحيحة الأولى في طريق الأدب. ولم يستغرب أن يرفض شعره، فهو برمَّته مرفوض منذ الولادة.

عاد إلى حياة التشرّد، لكن هذه المرة خارج فرنسا، في إسبانيا أولاً ثم إيطاليا وألبانيا ويوغوسلافيا بجوازِ سفرٍ مزوَّر. واعتقل في بلغراد وباليرمو وفيينا، وطلب اللجوء السياسي إلى التشيك فأمّنت له رابطة حقوق الإنسان بها الحماية، غير أنه في طريق العودة إلى باريس سيُعتقل من جديد في بولونيا. وكانت فترات اعتقاله خلال هذه المرحلة تتراوح بين أيام وأشهر.

بعد تلك الفترة سيُلقى به في السجن أكثر من 10 مرات بسبب السرقة. كان يسرق الكُتب في الغالب، وبعد خروجه من السجن سنة 1942 سيجلس على ضفّة نهر السين ليشرع في بيع كُتبه، المسروقة طبعاً.

الزنزانة غرفة للكتابة

بدأ جينيه الكتابة في السجن خلال الحرب العالمية الثانية، وكانت قصيدته الأولى “المحكوم بالإعدام” تحدّياً لسجين آخر يكتب لأخته قصائد رديئة ويتلقّى الاحتفاء والتنويه من زملائه باستمرار. لذلك كتب جينيه رغبة منه في أن يقول للآخرين بأنه يكتب أفضل من شاعرهم المُحتفى به، غير أن نصوصه ستُقابَل من لدنّ جمهور السجن بالكثير من السخرية والاستخفاف، عرف جينيه أن سوء الفهم هذا هو الخطوة الصحيحة الأولى في طريق الأدب. ولم يستغرب أن يرفض شعره، فهو برمَّته مرفوض منذ الولادة.

جان كوكتو هو عرّاب جان جينيه ومُكتشفه، فقد بادر بنشر “المحكوم بالإعدام”، وصرخ لاحقاً في وجه القضاة: “إن جان جينيه أكبر كتَّاب عصره”، لينقذه من الحكم بالسجن مدى الحياة. تفاجأ كوكتو حين قرأ “عذراء الزهور”، فهي تنمّ عن عبقرية تحتاج إلى رعاية. لذلك طفق يبحث له عن ممر باتجاه عالم النشر، وبفضل كوكتو سيوقِّع جان جينيه عقداً مع الناشر بول موريان يشمل 3 روايات و5 مسرحيات وعملاً شعرياً.

جينيه: كانت السجون بالنسبة إليّ أشدّ امتلاء بالحنان الأمومي من الأزقّة الساخنة لأمستردام وباريس وبرلين وبرشلونة.

كان السجناء يتسلمون كميّة من الورق يومياً لصنع نسبة كبيرة من الأكياس، وكان جينيه يستعمل هذا الورق لكتابة مخطوط روايته “عذراء الزهور”، وأثناء خروجه من زنزانته تمّ تفتيشها واستدعاه مدير السجن ليخبره بتهكّم وسخرية بأن هذا الورق ليس مُخصّصاً لكتابة “الروائع الأدبية”.

أحسّ جينيه حينها بالضآلة وبأن أدبه سيصطدم مع جدران كثيرة ليس آخرها جدار السجن. غير أنه اشترى دفاتر صغيرة من كشك في السجن واستأنف الكتابة. يقول عن تلك الفترة: “كانت السجون بالنسبة إليّ أشدّ امتلاء بالحنان الأمومي من الأزقّة الساخنة لأمستردام وباريس وبرلين وبرشلونة”.

ستكون سنة 1944 هي المفصل الأساس في حياة جينيه، إذ كانت آخر عهده بحياة السجون، وفي الآن ذاته انطلاقته الكبرى في عالم الأدب كتابة وحضوراً وترجمة وانتشاراً. ومع مطلع الخمسينيات ستنشر “دار غاليمار” أعماله الكاملة في 3 أجزاء.

الكاتب هو مواقفه

كان جينيه نصيراً لتظاهرات الطلاب في فرنسا سنة 1968، وساند حركة المُثقّفين المعارضين تضامناً مع العمّال سنة 1970، وانخرط في حراك دعم المساجين، ودعم “حركة الفهود السود” في الولايات المتحدة، وخرج في تظاهرات سان فرانسيسكو ضدّ الغزو العسكري الأميركي لفيتنام، ووقف ضدّ استعمار فرنسا للجزائر، فضلاً عن انخراطه في الدفاع عن الحق الفلسطيني.

فقد التقى بياسر عرفات مع مطلع السبعينيات في مخيّم الوحدات القريب من عمّان، ووعده بأنه سيكون صوتاً للقضية الفلسطينية. وكتب مقالاً مطولاً نشر بأكثر من لغة عنوانه “الفلسطينيون”. وعاين بشاعة الجريمة الإسرائيلية في  مجرزة صبرا وشاتيلا، وصوَّر مشاهدها الجحيمية في كتابه اللافت “أربع ساعات في صبرا وشاتيلا”.

العرائش المضافة الأخيرة

 

  • قبر جينيه بالعرائش المغربية
    قبر جينيه بالعرائش المغربية

كان جينيه يجلس بين الفينة والأخرى على صخرة، ويتأمَّل بحر العرائش. أحبّ هذه المدينة الشمالية على نحو فريد، لذلك توجّهنا بالحديث في “الميادين الثقافية” إلى إثنين من أهمّ كُتّاب المدينة التي أحبّها جينيه واختارها مضافة أخيرة له، وأردنا أن نتعقّب معهما أثَر الرجل فيها.

يخبرنا الشاعر محمّد عابد أنه كان يعرف جان جينيه جيداً، ولكنه لم يكن يعرف أنه هو ذلك الكاتب الكبير والمختلف إلا يوم رحيله: “يوم 15 نيسان/أبريل من سنة 1986، مات جينيه في أحد فنادق باريس، واحتلّت صوَره الصفحات الأولى للصحف والمجلات العربية والدولية، لأنتبه إلى أنه الرجل الذي كان يمرّ بمُحاذاة منزلنا الكائن في شارع إبن زيدون، رفقة شباب حيّ “جنان بوحسينة” و”الناباص” و”القشلة”، أو أصادفه في مكتبة “دميان” لصاحبها محمّد الشرقي لاقتناء جريدة لوموند الفرنسية”.

 إقامة جان جينيه في العرائش كانت هروباً من مراكز الثقافة ومن الحياة الرسمية للمُثقّفين.

أكَّد لنا محمّد عابد أن جينيه لم يكن يبوح لمرافقيه ويخبرهم بأنه كاتب، ولم يكن يحب أن يعرف الناس أنه كذلك. ففي صداقته للهامشيين فقط في مدينة العرائش نوع من التخفّي، معظم الذين كان يرافقهم في العرائش تعرَّف عليهم من خلال رفيقه محمّد القطراني، الذي بنى له بيتاً في حيّ جنان بوحسينة صمَّمه مهندس فرنسي بنوافذ كبيرة تطلّ على البحر والمقبرة الإسبانية التي يرقد فيها الآن، ودفعه للزواج من أمينة التي أنجبت طفلاً سمّاه عزّ الدين تكريماً للشهيد الفلسطيني عز الدين القلق.

يُضيف الشاعر المغربي محمّد عابد: “تعرَّفت على جان جينيه بعد وفاته، هو الذي كنت أصادفه عابراً  شوارع وأزقّة المدينة أو جالساً في مقهى ليكسوس أو النجمة الخضراء، وعبوره من أمام بيتنا كان ضرورياً للوصول إلى بيته. كنت أحسبه سائحاً يرافق الشباب من أجل الحشيش، لكني اكتشفت يوم موته فقط بأنه كان الكاتب الكبير جان جينيه”.

أما الشاعر إدريس علوش المقيم في مدينة العرائش فقد رأى أن إقامة جان جينيه في العرائش كانت هروباً من مراكز الثقافة ومن الحياة الرسمية للمُثقّفين.

ويقول في هذا الصَدَد: “اختار جان جنيه أن يعيش جانباً من حياته في العرائش باحثاً عن سكينة تبعده عن جوّ المُشاحنات الثقافية ومتاهات الكُتّاب ورهانهم على تناقضات المرحلة، قريباً من صديقه محمّد القطراني، غير مُنتبه وبالمرة لمجده الأدبي وبالصورة التي رسمتها الثقافة العالمية عن شخصه. في رسالته لــ  أندريه جيد سنة 1933، والتي نُشِرَت سنة 1935، يكتب جان جنيه: (إن تجربتي القليلة تدفعني إلى الاعتقاد بوجود تأثير يغلب على الثقافة الحالية لنوعٍ من الأدب – من أين جاء؟ أريد أن أسمّيه أدب اللاوعي، مع أنني لا أُقيم مع عالم المُثقّفين إلا أدنى العلاقات، أعتقد أن الثقافة موجهة باتجاه ما)، واصفاً بهذا رأيه في الثقافة وعلاقته بالمُثقّفين”.

ويضيف علوّش: “لقد دُفِن جينيه في المقبرة الإسبانية القديمة في العرائش، بالرغم من أنه  توفّي في غرفة صغيرة في أحد الفنادق قرب ميدان إيطاليا،19  شارع ستيفن بيشوت في باريس. وفي اختياره للعرائش مرقداً أخيراً وفاء كبير لمدينة عشقها إلى درجة تفضيلها على عاصمة الأنوار. وبوفاته تتوقّف رحلة كاتب عظيم لم يكن يشبه الكُتَّاب الآخرين في شيء، لأنه فعلاً كاتب استثنائي، والشاهد ما أبدعه من نصوص لاتزال تترجم إلى كل لغات الكون، وما راكمه من حيوات مفعمة بالمغامرة والمخاطرة، كانت كل رأسماله ليعلن إلى العالم: (كم أنا مختلف)”.

* نقلا عن :الميادين نت