سباق خليجي مع الزمن لدحر قضية فلسطين
تذهب الأنظمة الخليجية (الإمارات والبحرين، ومن ورائهم السعودية ضمناً) إلى التعامل مع "إسرائيل" مع تجاوز المصلحة الفلسطينية.
عباس الجمري*
منذ أن فتحت دول الخليج مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني في ما عُرف بـ”صفقة القرن” و”اتفاقيات أبراهام”، باتت المقاربة الخليجيّة لقضية فلسطين مختلفة تماماً، وبشكل علني وصريح، عن كل المطبعين الآخرين الذين سبقوا الخليجيين في هذه الخطيئة التاريخية.
وإذا كان التطبيع يعطي في الدلالة الأولى الاعتراف بالكيان المحتل وحقه في الشطر الأكبر من أرض فلسطين، إلا أن المقاربة الخليجية زادت على ذلك الرزء القيمي عنصراً إضافياً في ظلم الأرض المحتلة، يتمثل بفصل التطبيع عن القضية الأساس، ما يعني التعامل مع الكيان المؤقت من باب العلاقة الطبيعية، لا من باب الضرورة الجيوسياسية والتموضع الاضطراري من الراعي الأميركي، وهي المقاربة التي صدّع رؤوسنا بها المطبعون الأوّلون في ثيمة “عملية السلام”.
بمعنى آخر، تذهب الأنظمة الخليجية (الإمارات والبحرين، ومن ورائهم السعودية ضمناً) إلى التعامل مع “إسرائيل” مع تجاوز المصلحة الفلسطينية، والنظر إلى العلاقات الثنائية بين الدول الخليجية المطبعة والكيان على أساس مصالح مشتركة، بقطع النظر عما يعانيه الفلسطينيون من توسع استيطاني أو انتهاكات أو منع من حقوق أساسية أو تهجير أو غير ذلك.
من المهم أن يكون هذا التوضيح مرسى لمعالجة موضوع: لماذا ظلت الأحداث الفلسطينية الأخيرة خارج التغطية الخليجية، ولو في حدها الأدنى من التعليق أو الإدانة المعمول بها سابقاً خليجياً وعربياً؟
لعلنا نفتح قوساً صغيراً هنا، ونجيب عمَّن سيستدعي الموقف التركي الحادّ في موقفه، والذي أدان المجاهدين الفلسطينيين بدلاً من أن يدين الكيان الصهيوني، وهو استدعاء لا يتناسب مع المقام، إذ إنّ الجمهورية التركية هي أوّل من اعترف بما تُسمى “دولة إسرائيل” على مستوى المنطقة. أما ما قد يثار عن مواقف إردوغان المتناقضة عموماً، والمتناقضة تجاه فلسطين خصوصاً، فتلك قصة أخرى، ليس هذا المقال مكان معالجتها.
إعادة ضبط الوعي الخليجي من جديد
لم تحظَ العمليات الفدائية في الإعلام الخليجي بما تستحقه من تغطية، على الأقل كحدث أمني لافت، إذ غُطيت بطريقة تجعل الخبر ثانوياً، ولم تحظَ عمليات الخضيرة و”بني براك” و”تل أبيب” بأي تغطية مكثفة، إلا إذا كانت المعالجة نقداً لها أو لتقديم الرواية الغربية عن مثل تلك العمليات.
يجري العمل على إعادة ضبط وعي شعوب الخليج، لعلّ هذا الضبط الجديد يساعد على تقبل سلوك الحكومات في تعاملها المفرط مع الكيان الصهيوني. ومن أوجه هذه البرمجة:
1- الضخ الإعلامي باتجاه أنَّنا لم نفهم “إسرائيل” كما ينبغي.
2- نشر أكثر النماذج الفلسطينية انبطاحاً، وهو نموذج محمود عباس، بوصفه واجهة لفلسطين.
3- تصوير أنَّ المصلحة القومية تقتضي التعامل بـ”واقعية” مع “دولة إسرائيل”، للرخاء الاقتصادي والنعيم الأمني.
4- المضي سياسياً وأمنياً في صنع واقع معقّد، يكون فيه الصهيوني عنصراً متجذراً، وإفهام الشعوب بأنّ ذلك بات أمراً لا يمكن الفكاك منه، وعلينا التعايش معه.
هدر مالي غير مسبوق لبناء شراكة مع “إسرائيل”
هناك خطوات فعلية اتّخذها الإماراتي والسعودي والبحريني في هذا الاتجاه، بعضها أَشرْتُ إليه في مقالات سابقة، وبعضها الآخر يظهر لنا بين حين وآخر كمستجد من المستجدات التي تؤكّد هذا الفهم.
ومما استُجد هو ما كشفته صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية يوم الاثنين 11 أبريل/نيسان الجاري، بأنّ صندوق الثروة السعودي الذي يشرف عليه ولي العهد محمد بن سلمان استثمر ملياري دولار في شركة أسسها جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، رغم مخاوف أبدتها اللجنة الاستشارية للصندوق من الصفقة.
ووفق تقرير الصّحيفة، فإنّ السعوديين استثمروا في شركة الأسهم الخاصة التي تحمل اسم “أفينتي بارتنرز”، بعد خروج كوشنر من البيت الأبيض بستة أشهر، بل ما يزيد القناعة بسخاء محمد بن سلمان على شخص كوشنر، هو أنَّ الشركة المذكورة، ووفقاً لملفاتها العامة لدى لجنة الأوراق المالية والبورصات، بتاريخ 31 مارس/آذار، تؤكد أن صندوقها الرئيسي يدير 2.5 مليار دولار، معظمها من مستثمرين مقيمين في الخارج، ما يعني أن الشركة تُدار عملياً بالمال السعودي.
العلاقة مع “كوشنر الصهيوني” ليست عابرة
هذا التمويل الّذي كشفته صحيفة “نيويورك تايمز” لا يمكن قراءته مجرداً كاستثمار يُراد منه الربح، رغم أن خبراء صندوق الثروة السعودي حذروا محمد بن سلمان من أن هذا النوع من الاستثمار ليس آمناً من وجهة النظر التقنية، وفق ما جاء في التقرير نفسه.
كما أن هذا الاستثمار وغيره من المال السياسي الذي يُهدر على قضايا مختلفة، يقدم على أمور قد تعتبر أول الأولويات في الدول التي تحافظ على مكانتها وريادتها، فقد خلص تقرير لمؤسسة التصنيف الائتماني “S&P Global Ratings” إلى أنّ شركات الطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي تحقق تقدماً أبطأ نحو أهداف الاستدامة البيئية، مقارنة بنظيراتها حول العالم.
التقرير أشار إلى أنّ شركات الطاقة الخليجية الكبرى –مثل أرامكو- وهي شركات كثيفة التوليد للانبعاثات الكربونية الضارة، غير مهتمة بتغيير سياساتها، ولم ترصد ميزانيات للتحول إلى الطاقة النظيفة أو على الأقل العمل على حماية المناخ وحفظه، مما هو معروف من الأهداف البيئية التي تسعى لها عدد من الدول الغنية.
هذا الهدر المالي الكبير الّذي يصبّ في جيب المصلحة الصهيونيّة بشكل مباشر أو غير مباشر يؤشر إلى اهتمام نوعي بتحويل الخليج إلى نموذج آخر من كلّ النواحي. قد لا يكون هذا النموذج يسير في مصلحة الدول المعنية بالضرورة، وقد يكون وجهاً مشوهاً لإمبريالية يراد استيرادها عربياً وترسيخها، لكن من دون مقومات حقيقية. هذا الحال يبدو كمن يريد أن يذنب ذنباً ما ويسعى جاهداً لذلك، لكنه يفتقد الاستفادة من هذا الذنب أو الاستمتاع به، فهو مضروب من الجهتين؛ من جهة المصلحة، ومن جهة القيمة القيمية لفعله.
ماذا يعني أن يضخّ محمد بن سلمان ملياري دولار في شركة لكوشنر حتى بعد خروجه من البيت الأبيض، لولا علمه بأنَّ الأخير متغلغل في اللوبي الصهيوني الأميركي، وهو عراب لجعل ابن سلمان ملكاً خلفاً لأبيه؟ ثم ماذا يعني أن ترسل حكومة البحرين رئيسة جمعية الصحافيين السابقة عهدية أحمد إلى الأرض المحتلة، وتقابل أفيخاي أدرعي في مقطع مصور، وتهديه الحلوى البحرينية، وتقول له: أنا معجبة بدور جيش “إسرائيل” الداعم إلى المرأة؟ في حين أنَّ هذا الجيش الغاشم، وخلال وجود عهدية في “تل أبيب”، قتل الأرملة غادة سباتين بدم بارد، ليظلّ أولادها الستة من دون أب أو أم!
وفي كلّ مرة، تتكشّف علاقة الإمارات والبحرين مع الكيان الغاصب، فقد كشفت وزارة الدفاع الإسرائيلية يوم الثلاثاء 12 نيسان/أبريل حجم مبيعات الأسلحة، والتي سجلت رقماً قياسياً جديداً في العام 2021، وبلغت 11.3 مليار دولار، بزيادة 30% عن العام السابق.
وبحسب الوزارة، فإن حصة الإمارات والبحرين، الطرفين في اتفاقيات التطبيع، شكّلت 7% من مبيعات الأسلحة الإسرائيلية، وقال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس في بيان نشرته الوزارة: “العلاقات الأمنية جزء لا يتجزأ من العلاقات السياسية لإسرائيل وقدرتنا على التعاون مع الدول الأخرى، ونحن نعمل على تعزيز هذه العلاقات وخلق شراكات أمنية جديدة”.
وإلى جانب ذلك الهدر المالي على تعزيز الشراكة الأمنية بين دول الخليج والكيان المؤقت، تجري تصفية الوعي بالكيفية التي أشرتُ إليها في النقاط الأربع السابقة، لأن عقبة تقبل الشعوب لهذه الفكرة لا تزال صخرة قويّة تقف في طريق التطبيع الرسمي.
معركة الوعي عند الشعوب الخليجية
صحيح أنَّ معظم الحكومات الخليجيّة، تريد أن ترسم واقعاً مختلفاً ينظر إلى الكيان المؤقت على أنَّه “دولة طبيعية” يمكن التعايش معها، لكن لدى الشعوب الخليجية من الوعي ما يجعل من هذا السيل الإعلامي والهدر المالي الذي تضخّه الحكومات باتجاه تغيير القناعات يفشل في أكثر الأحيان، ويتعثر في بعض المحطات.
طبعاً، لا يمكن إنكار أنَّ عدداً من الخليجيين تأثروا بهذا الخطاب، وأخذوا يبررون للتطبيع، وعبّر بعضهم عن غرامه بـ “إسرائيل”، لكنَّ معركة الوعي بين الأنظمة الرسمية والشعوب الخليجية محتدمة، وإن لم يسمع الإعلام حسيسها، وأحد وجوهها هو طمس خبر العمليات الفدائية في ما يُسمى “الخط الأخضر”، بغية خلق واقع منفصل تمام الانفصال عن فلسطين وآهاتها والقدس وما يحمله من دلالة مركزية.
* المصدر :الميادين نت