السياسية:

بعضهم يشبّه المشهد بمباراة ما قبل النهائي بين الفريقين المصنفين “الأقوى” في العالم. آخرون يعتبرون المواجهة غير المباشرة وغير المتوقعة الدائرة رحاها، أقرب ما تكون إلى “أرماغادون” المنتظرة المنبئة بنهاية العالم، أما الموجودون على أرض القتال في أوكرانيا فتصدر عنهم إما حكايات جديرة بأن تكون عملاً سينمائياً يعيد لهوليوود بهاءها القائم على الخيال والمعتمد على أميركا منقذة العالم، أو فرصة ذهبية يقتنصها الروس لإثبات هيمنتهم.

الأخبار والتقارير المتواترة من أوكرانيا عن وجود ما لا يقل عن 2000 مواطن أميركي بين جنود سابقين أو أشخاص لديهم خبرات متفاوتة في الجوانب العسكرية، أو أشخاص عاديين لا ناقة لهم أو جمل في شؤون القتال، تثير القيل العسكري والقال الإعلامي التوجيهي.

عمليات توجيه حامية الوطيس تجري على قدم وساق، و”تويتر” حافل بمواد عنكبوتية واردة من أوكرانيا لأشخاص يقولون إنهم “متطوعون” أميركيون، قطعوا آلاف الأميال من أجل الدفاع عن الديمقراطية الأوكرانية وقيمها وقواعدها في مواجهة الديكتاتورية الروسية وظلمها وعدوانها.

هناك من يرتدي ملابس الجيش المموهة ويقف إلى جوار حطام دبابة بدت عليها آثار الحريق يقول إنها روسية، بينما يردد مواطن أوكراني “مرحباً بكم في أميركا” فيعيد الأميركي العبارة بصوت جهوري. وهناك مجموعة من المقاتلين “الأميركيين” يصطفون إلى جوار حائط، ويفترض أنهم في مدينة أميركية، يقولون إنهم أسهموا في تحريرها من قبضة الروس.

قبضة “المتطوعين” أو المقاتلين الأميركيين الذين تشير تقارير إعلامية وتغريدات وتدوينات شخصية لهم إلى أنهم يحاربون من أجل أوكرانيا، تثير فضولاً عالمياً مشوباً بصدمة لا تخلو من قلق عارم مما يمكن أن تسفر عنه مواجهة رهيبة بين روسيا وأميركا، ولو كانت عبر أطراف غير رسمية أو نظامية.

وبدلاً من الجلوس في بيته موصداً بابه أمام تعميم الفائدة والاستفادة بخبراته العسكرية باعتباره من المحاربين القدماء، قال أليكس كاليمبا من ولاية كينيكتيكت الأميركية لشبكة “سي بي نيوز” الإخبارية الأميركية، إنه كان على متن أول طائرة متجهة خارج الولايات المتحدة. وضمن الأسباب التي يذكرها للمشاركة في حرب تدور على مسافة 5000 كيلومتر من بلده، يقول إن هذه الحرب ستذكر في كتب التاريخ، “وأنا أريد أن أكون جزءاً من التاريخ”، وذلك “من دون وعد بمكافأة مادية”.

* حاربوا من أجل أوكرانيا

وعد المكافأة المالية وارد ذكره بشكل واضح وصريح لكل “متطوع” غير أوكراني تنطبق عليه شروط “التطوع”، ويكون راغباً في المساعدة في حماية حرية أوكرانيا ووحدة أراضيها، كما ورد على موقع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مطلع الشهر الحالي، وعلى الموقع ذاته “حاربوا من أجل أوكرانيا”.

تنضح الصفحة الرئيسة ومكونات الموقع كله بقدر هائل من المشاعر الملتهبة المفعمة بقدر هائل من القلق، وبعد المقدمة الشارحة لما جرى في أوكرانيا من قبل جارتها روسيا، تحفل الصفحة بحكايات إما منقولة عن تقارير إخبارية أو خاصة بالموقع عن “متطوعين” أجانب قطعوا آلاف الأميال وتكبدوا أفدح الصعاب لينضموا إلى “الحرب من أجل أوكرانيا”، لكن التركيز على إبراز قصص “كفاح المتطوعين” الأميركيين واضح بشكل كبير. “تعرفوا إلى الجندي الأميركي السابق الذي استوقف مقطورة في بولندا لتقله إلى أوكرانيا من أجل تحريرها”، وغيرها كثير من قصص تضحيات المقاتلين الأجانب من أجل تحرير أوكرانيا، مع تسليط أضواء مضاعفة على الأميركيين.

الحضور الأميركي في صفوف القوات الأوكرانية وأحياناً في الشوارع الأوكرانية مع مدنيين بملابس عسكرية، يطرح العديد من علامات الاستفهام والتعجب. وعلى الرغم من أن العدد ليس كبيراً، إذ تتراوح التقديرات بين 2000 و3000 أميركي، إلا أنه حضور مهم وله العديد من الدلالات، وقد تنتج منها آثار طويلة المدى. يقول مساعد رئيس تحرير مجلة “السياسة الدولية” والباحث في الشؤون الأميركية عمرو عبدالعاطي “إن القوة والخبرة العسكريتين لأميركا، بغض النظر عن هويتها، في أوكرانيا بالغة الأهمية، فنسبة كبيرة من هؤلاء المتطوعين كانوا جنوداً في الجيش الأميركي وحاربوا تنظيمات وجماعات في العراق وأفغانستان، وهي خبرة عسكرية تختلف كثيراً عن مواجهة الجيوش النظامية، وذلك عكس المقاتلين المتطوعين الأوروبيين الذين لا يحمل أغلبهم مثل هذه النوعية من الخبرات، ولذلك فوجود جنود وعسكريين سابقين أميركيين في صفوف الأوكرانيين من شأنه أن يحدث فرقاً في تكنيك التعامل مع أسلحة متقدمة غير تقليدية، لكن في الوقت نفسه فإن الروس لا يملكون فقط قوة عسكرية بالغة القوة، لكن لديهم أيضاً مرتزقة مدربين وخاضوا حروباً غير تقليدية لسنوات”.

ويشير عبدالعاطي إلى أن العامل الفارق في الوضع حالياً يكمن في الحدود التي يمكن أن تذهب إليها روسيا في حربها، ومقدار قلقها وتوجسها من الكلفة الإنسانية للحرب.

* الكلفة الإنسانية

وتطل الكلفة الإنسانية لحرب روسيا في أوكرانيا برأسها وسط أرتال الدبابات وأسراب الطائرات وكميات الذخائر والمدافع وغيرها، لتفرض نفسها عاملاً مهماً وقيداً قد يحدد ويحسم نتيجة الحرب.

ولأن الحرب غير تقليدية من ألفها إلى يائها، فإن آثار الوجود الأميركي غير الرسمي في صفوف القوات الأوكرانية بمواجهة القوات الروسية يصعب التكهن بها، وإن ظلت في خانة “المثيرة للقلق”. وما يثير القلق كذلك تناول الإعلام الغربي لهذا الوجود الأجنبي، لا سيما الأميركي في الحرب، وكأنه أمر يستحق الإشادة ولا يستوجب القلق من النتائج.

تغريدات وتدوينات “المقاتلين” الأميركيين في الجانب الأوكراني يجري تداولها ملايين المرات، سواء من قبل مستخدمين عاديين عبر منصات التواصل الاجتماعي، أو عبر إعادة النشر في وسائل إعلام غربية وأوكرانية، وإحدى أكثر التغريدات تداولاً لمقاتل أميركي في أوكرانيا وصل للدفاع عنها عبر بولندا ومعه عدد من الطائرات من دون طيار.

وتتوالى تغريدات أشبه بيوميات مقاتل أميركي في أوكرانيا، حيث السرد والفيديوهات “غير موثقة” عن تحديد موقع جنود روس وقصف منطقة وجودهم، وترجيح كفة الجانب الأوكراني المدعوم بـ “متطوعين” أميركيين تتواتر على منصات التواصل الاجتماعي، فمنها ما هو غارق تماماً في سرد تفاصيل قتالية، ومنها ما يخلط الجد بالهزل في رسائل لا تخلو من شبهة إلحاق الإحباط بالجانب الروسي، إذ قال أحدهم في تغريدته، “أشعر كأنني في إجازة رائعة وخطرة جداً”.

خطورة المعركة الأميركية في أوكرانيا ضد روسيا لا يعلمها إلا الله. ويقول عبدالعاطي إن “الكلفة الإنسانية لمثل هذا القتال ستكون فادحة، ليس من حيث عدد الجنود القتلى، فهذا ما يحدث في الحروب، لكن مقتل مواطنين أميركيين ليسوا جنوداً ضمن قوات أميركية على أرض أجنبية في حرب أجنبية، أو تعذيبهم أو أسرهم من شأنه أن يفتح أبواباً لم تكن على بال أحد، فالحكومة الأميركية تكون ملزمة أمام الرأي العام والناخب بضمان سلامة مواطنيها، ومسائل مثل النعوش العائدة أو الأسرى أو ضحايا التعذيب بالغة الخطورة”.

وتشير القاعدة رقم (108) في “القانون الدولي الإنساني العرفي” إلى أنه “ليس للمرتزقة الحق في وضع المقاتل أو أسير الحرب، ولا يدانون أو تصدر أحكام في حقهم من دون محاكم مسبقة”.

* ضبابي

الوضع ضبابي من ألفه إلى يائه، فقد صرح مسؤول أوكراني في سفارة بلاده لدى واشنطن لموقع “صوت أميركا” مطلع الشهر الحالي، أن عدد من تقدموا للانضمام إلى الكتيبة الدولية في أوكرانيا من الأميركيين بلغ نحو 3000 شخص، وهو عدد لا يمكن تأكيده أو نفيه حتى اللحظة، إذ لا يعلن “المتطوعون” عن الغرض من السفر إلى خارج أميركا، كما أن وجهتهم تكون إحدى الدول المجاورة لأوكرانيا وليس أوكرانيا نفسها.

ضبابية من نوع آخر تحلق في الأجواء الأميركية، فالرئيس الأميركي جو بايدن ينتمي لمعسكر معارضة التدخل العسكري الأميركي خارج الحدود، والإدارة الأميركية تحاول بطرق شتى وغير مباشرة إثناء عزم الأميركيين الراغبين في التطوع لأوكرانيا، ولكنها في الوقت نفسه لم تصدر تحذيرات واضحة تفيد مثلاً بمحاكمتهم أو توقيع عقوبات عليهم، وكان المتحدث باسم الـ “بنتاغون” جون كيربي دعا الأميركيين الراغبين في مساعدة أوكرانيا إلى التبرع للوكالات الإنسانية، مشيراً إلى “أننا لا نعتقد أن أوكرانيا مكان آمن للأميركيين، ونحثهم على عدم الذهاب”.

* مأزق

لكن كل ما سبق لا يعني أن الإدارة الأميركية لن تجد نفسها في مأزق جراء المتطوعين الأميركيين في أوكرانيا، وإذا كانت أعلنت بداية الأزمة أنها تستبعد إرسال قوات إلى أوكرانيا لإجلاء المواطنين الأميركيين المدنيين هناك، وسحبت مواطنيها الذين كانوا يعملون مستشارين ومراقبين عسكريين، فإن تدخلها لإعادة “المتطوعين” أمر غير وارد، لكنه يظل شوكة في حلقها، فبين انتخابات تجديد نصفي للكونغرس بعد أشهر قليلة، وضغوط داخلية متناقضة بين مطالبة بمزيد من التدخل في ما يجري في أوكرانيا وأخرى تعارض أي تدخل، وخطر يلوح في الأفق حيث غموض نيات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعما إذا كانت قائمة احتمالاته تحوي خيارات نووية، وهو ما سيعني حتمية انطلاق الحرب العالمية الثالثة بشكل رسمي وواضح ومباشر ولقاء “يوم القيامة” بين القوات الأميركية والروسية، يمثل “المتطوعون” الأميركيون شوكة في حلق أميركا.

ويحتدم أثر الشوكة بالكشف عن محتوى ذي ملامح تتأرجح بين اليمين المتطرف والعنصرية البيضاء، ويقول عمرو عبدالعاطي إن لسان حال “المتطوعين” الأميركيين لا يخلو من منطق المتطرفين البيض الراغبين في مد يد العون لمن يشبهونهم في حرب تختلف عن حروب أخرى، ربما تكون فاشلة، خاضتها أميركا وكبدتها كثيراً لمصلحة أعراق أخرى.

ويرجح عبدالعاطي أن يكون أحد المحركات الرئيسة لـ “المتطوعين” الأميركيين في أوكرانيا هو الدفاع عن “الديمقراطية”، وهو الدفاع الذي فشل فشلاً ذريعاً في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا.

وعلى الرغم من تصريحات متناثرة من أوكرانيا بأن عمليات فرز وتدقيق تجري للتأكد من أن المتطوعين الأجانب لا يحملون أيديولوجيات يمينة متطرفة أو أنهم متعطشون إلى الدماء، إلا أن الخبرات العملية كذلك تفرض نفسها في عملية الاختيار.

وبحسب قيادات لقادة أجانب مسؤولين عن فيالق قتالية تتكون من مقاتلين أجانب في أوكرانيا، فإن الخبرات الأميركية المتراكمة عبر نوعية القتال في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا، إضافة إلى المقاتلين من أصحاب الخبرات عبر “التعاقدات القتالية الخاصة” في أفريقيا، مفيدة للغاية في الحرب في أوكرانيا.

* إختبار الأسلحة

لكن قائمة محركات الرغبة لدى “المتطوعين” كثيرة. يقول عبدالعاطي، “هناك الرغبة في اختبار تقنيات وأسلحة وتدريبات جديدة في مختبر عملي، فهكذا تختبر الأسلحة الجديدة ولو كانت تقنيات أو أسلحة خفيفة، كما أن المسألة لها علاقة بصراع الشركات الأمنية الخاصة، والتي هي أشبه بجيوش خاصة سواء على الجانب الأميركي أو الروسي”.

وسواء كان المتطوعون الأميركيون في أوكرانيا دعماً لقيم الديمقراطية في مواجهة الديكتاتورية، أو دفاعاً من العرق الأبيض عن قيم يمينية، أو اختبار تقنيات وأسلحة ومجال تسويقي جديد لها، أو مزيداً من التدعيم لدور الشركات الأمنية الخاصة واشتعال المنافسة بين أميركا وروسيا في هذا المجال، أو رغبة من بعض المحاربين الأميركيين القدماء في استعادة دورهم وخبرتهم القتالية مجدداً، يظل المتطوعون الأميركيون في أوكرانيا وتغريداتهم الهوليوودية واحتفاء الإعلام الغربي بقصصهم وتغريداتهم وتدويناتهم والسكوت الحذر الرسمي الأميركي في شأنهم، أشبه باللعب بالنار. حرب الشوارع المميتة تلوح في الأفق، والقتل والأسر من دون خضوع لقوانين الحروب وقواعدها أمور واردة، وتهور الجانب الروسي وتصعيد المواجهة لتصل إلى المرحلة النووية أو البيولوجية ليسا مستبعدين، والعبرة بالخواتيم التي تظل عصية على التكهن أو الاستشراف.

* المصدر: اندبندنت عربية