كيف بدأت “المُؤامرة” الأمريكيّة في أوكرانيا تُواجه مُقدّمات الفشل بعد أسبوعين فقط من الحرب؟
ولماذا ستُدمّر أوروبا بعد أن فرغت من تدمير الشّرق الأوسط؟ وكيف سيكون جشعها للنفط هو السُّم القاتل الذي سيُنهي غطرستها وعلى يد “البِلدوزر” بوتين؟
عبدالباري عطوان
أثناء الحرب الأمريكيّة الثانية على العِراق في آذار (مارس) عام 2003، وما ترتّب عليها من غَزْوٍ واحتِلال، كتبت مقالًا في صحيفة “الأوبزيرفر” البريطانيّة الشّهيرة بتكليفٍ من رئاسة تحريرها، بعُنوان: “America is Expert in Destruction not construction “، أيّ أن “أمريكا خبيرة بالتّدمير وليس بالتّعمير”، وهذا ما حصل فِعلًا عندما قصفت الطّائرات الحربيّة الأمريكيّة جميع مُنشآت البُنى التحتيّة العِراقيّة من جُسور ومحطّات ماء وكهرباء، وقتلت أكثر من مِليون عِراقي حسب تقرير مجلة “لانست” الطبيّة العالميّة في حينها.
المقال أحدث رُدود فِعل عالميّة لم أتوقّعها، حتى أن دار نشر بريطانيّة كُبرى اتّصلت بي في اليوم التّالي طالبةً أن أؤلّف كتابًا يحمل هذا العُنوان، وطلب رئيس مجلس إداراتها اللقاء من أجل بحث التّفاصيل اللوجستيّة والماليّة، ولكنّي اعتذرت بسبب انشِغالي بمشاغلي الصحافيّة، وارتِباطات تلفزيونيّة مُلزمة في ذلك الوقت.
***
تذكّرت هذا المقال بعد ما يَقرُب من العشرين عامًا، بمُناسبة مُتابعتي لتطوّرات الحرب الأوكرانيّة، العسكريّة والدبلوماسيّة، وعدم استِبعاد إشعال فتيل حرب عالميّة نوويّة قد تُؤدّي إلى دمارِ العالم، بدءًا من أوروبا التي قد تكون المسرح الرئيسي لها اللهمّ إلا إذا اسفرت الوِساطات الحاليّة عن حلٍّ سياسيّ يَحول دُونَ ذلك، وفي هذه الحالة سيَخرُج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مُنتَصِرًا لأنّه لن يقبل بهذا الحل إلا بعد حُصوله على جميع شُروطه أو مُعظمها على الأقل.
الولايات المتحدة هي التي حرّضت وأشعلت فتيل هذه الحرب، وورّطت أوكرانيا وشعبها الطيّب الضحيّة فيها في إطار مُخطّطات إدارتها الديمقراطيّة الحاليّة، وربّما يُفيد التّذكير بأن الرئيس جو بايدن أعلن أثناء حملته الانتخابيّة، وبعد دُخوله البيت الأبيض مُباشرةً، أن روسيا هي العدوّ الأوّل للولايات المتحدة، وتأتي بعدها الصين، ولهذا جعل من أوكرانيا “الطُّعم المَسموم” لتوريطها في حرب استنزافٍ طويلة.
التّهديد الأمريكي الأوروبي بالعُقوبات غير المسبوقة كانت خطّةً مُزدوجة: إمّا ردع الرئيس بوتين وإرهابه ومنعه من اجتِياح أوكرانيا، أو استِفزازه للإقدام على هذا الاجتِياح، وإغراقه في حربِ استنزافٍ طويلة، بالتّوازي مع عُقوبات اقتصاديّة شرسة تُؤدّي إلى تثوير الشعب الروسي ضدّه وإسقاطه في نهاية المطاف، ولكن، وبعد حواليّ أسبوعين من دُخول أوّل دبّابة روسيّة الأراضي الأوكرانيّة، ثَبُتَ مدى “سذاجة” هذه الخطّة، وإعطائها نتائج عكسيّة بالتّالي ليست في صالح أمريكا ولا حُلفائها الأوروبيين.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي بدأ يفوق من الصّدمة بات يَصرُخ ويُوُلوَل ويشتكي لطُوب الأرض، ويعيش حالةً من الهذيان بعد اكتشافه أنه أصبح يُواجه الاجتِياح الروسي وحده، بعد أن تخلّى عنه الجميع خاصَّةً الولايات المتحدة التي قالت مندوبتها في الأمم المتحدة أمس إنها لن تُرسل جُنديًّا أو طائرة واحدة إلى أوكرانيا، وأعلنت العديد من الدّول الأوروبيّة بينها ألمانيا وبلغاريا وفرنسا بأنّها لا تستطيع الاستِغناء عن النفط والغاز الروسيين، بمعنى آخَر أن المُؤشّرات الأُولى تُفيد بحُدوث تشقّق في التحالف الأوروبي الأمريكي من المُتوقّع أن يمتدّ إلى حِلف الناتو.
أوروبا تستمدّ قُوّتها من قُوّة اقتصادها، وقيم الديمقراطيّة وحُقوق الإنسان والعدالة الاجتماعيّة، وهذه العناصر تتآكَل الواحدة تِلو الأُخرى، وتحل مكانها “شُرور” العُنصريّة والحركات اليمينيّة النازيّة الجديدة، وسيكون رخاؤها الاقتصادي وأمنها واستِقرارها الذي تنعّمت به شُعوبها مُنذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، هو الضحيّة الأولى لهذه المُواجهة المُتجسّدة في الحرب الأوكرانيّة وحالة الانهِيار والفوضى والتفتّت التي قد تترتّب عليها.
جميع العُقوبات التي فرضتها أمريكا كبَديلٍ لتجنّب التدخّل العسكريّ المُباشر في كوريا الشماليّة وإيران وسورية وكوبا وفنزويلا لم تُحقّق أهدافها، وجاءت بنتائج عكسيّة، ولم تُسقِط أيّ نظام، ولا نعتقد أن العُقوبات الحاليّة على روسيا، في حالِ فرضها (حتى الآن يتدفّق النفط والغاز الروسيين ويتم تسديد ثمنه بنظام سويفت المالي) كُلِّيًّا أو جُزئيًّا، على روسيا لن يكون استِثناء.
ألكسندر نوفاك، نائب رئيس الوزراء الروسي المُكلّف بملف الطاقة، حذّر مساء الاثنين من عواقبٍ “كارثيّة” على أسواق النفط والغاز العالميّة، في حال تنفيذ أمريكا لتهديداتها في فرض حظر على الصّادرات النفطيّة في هذا القِطاع، وتنبّأ بأن يصل سِعر برميل النفط 300 دولار (سعره اليوم 150 دولار)، وارتفاع سعر المتر المُكعّب من الغاز عشرة أضعاف، وهدّد بأنّ بلاده ستُوقِف إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر (نورد ستريم 1) الذي يعمل حاليًّا بنسبة 100 بالمِئة، ويضخ 60 مِليار متر مكعّب سنويًّا، خاصَّةً إذا استمرّت ألمانيا بوقف نظيره (نورد ستريم 2) تجاوبًا مع الضّغوط الأمريكيّة، وفرضت واشنطن حظرًا على النفط الروسي.
***
أمريكا دمّرت العِراق وسورية وأفغانستان وليبيا، ولم تُشارك في إعمار أيٍّ منها، ولن تشارك، والآن جاء الدّور على أوروبا بعد أن فرغت من تدمير “الشّرق الأوسط”، مع فارقٍ أساسيّ، أنها في الدّول المَذكورة آنفًا كانت تُواجه أنظمة ضعيفة عالمثاليّة، أمّا الآن، فإنها تُواجه قُوّةً عُظمى، اسمها روسيا، ورئيس داهية “بِلدوزر” اسمه فلاديمير بوتين، ويستند إلى حُلفاء مِثل الصين والهند وكوريا الشماليّة وثلاثتها قِوى نوويّة، ولهذا لا نستبعد أن ينقلب السِّحر على السَّاحر، ويَصِل الدّمار إلى أمريكا.. والأيّام بيننا.
* المصدر : رأي اليوم
* المادة الصحفية تعبر عن وجهة نظر الكاتب