ليس أمن روسيا أهم من أمن مواطني جورجيا ومولدوفا وأوكرانيا
السياسية:
لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثير من الشكاوى. فهو غاضب، على ما يبدو، من احتمال توسع حلف الناتو وصولاً إلى الحدود الروسية. كما يظهر أنه مستاء من عدم اكتراث الغرب بأمن روسيا بقدر اهتمامه بالموضوع. ويقول إنه متعب من تجاهل الولايات المتحدة والناتو لروسيا حين تطرح مطالبها.
صحيح أنه لدى روسيا بعض المسوغات التي تبرر قلقها على أمنها. فقد تعرضت لهجوم من ألمانيا منذ 80 عاماً، ومن جيش “الحركة البيضاء” المدعومة من الغرب منذ أكثر من 100 عام، كما واجهت هجوماً من فرنسا منذ أكثر من 200 عام. وطوال 45 عاماً، سلطت كل من واشنطن وموسكو أسلحة نووية على مدن بعضهما البعض.
ولكن من ناحية أخرى، يحفل التاريخ الأوروبي بالغزوات والاحتلالات الأجنبية السابقة، التي لا تزال أصداء تبعاتها ومآسيها تتردد إلى يومنا هذا. وفي هذا الإطار، قال المستشار الألماني أولاف شولتز، السبت: “لو راجعتم كتب التاريخ وعدتم ردحاً كافياً من الزمن إلى الوراء، ستجدون ما يبرر نشوب حروب تمتد مئات السنين وتدمر قارتنا بأسرها”.
كما أن الأمن القومي مهم كذلك بالنسبة لشعوب دول مثل بولندا ورومانيا وإستونيا وجورجيا وأوكرانيا، التي ظلت تواجه طيلة عقود من الزمن تهديدات من عدة بلدان أخرى- وغالباً من روسيا. وليس أمن وسلامة المواطنين الجورجيين والمولدوفيين والأوكرانيين بالطبع أقل شأناً من سلامة وأمن الروس.
يتذرع بوتين ومناصروه بالعلاقات التاريخية مع الأراضي التي كانت واقعة تحت الهيمنة الروسية سابقاً. ولكن الرئيس الروسي ليس تواقاً للحفاظ على تلك العلاقات الثقافية. فهو عميل سابق في جهاز الاستخبارات الروسي كي جي بي، عملي وصعب المراس، يسعى إلى تعزيز موقعه الخاص وضمان إرثه [أن بصمته في التاريخ]. لو أراد تعزيز الأواصر الثقافية، لزاد معدل التبادل الطلابي أو مول معارض فنية. ولكن عوضاً عن ذلك، ها هو يرسل الأسلحة والجنود غرباً، وليس إلى حدود أوكرانيا فحسب، بل كذلك إلى وكلائها في منطقة البلقان.
يجب ألا يستغرب أي أحد المحاولات الحثيثة التي تبذلها الدول الصغيرة في أوروبا الشرقية والبلقان منذ 30 عاماً للانضمام إلى حلف الناتو. لا شك في أن المسؤولين الغربيين قد حاولوا خلال السنوات الأولى بعد سقوط جدار برلين أن يستقطبوا بعض الزعماء لكي ينضموا إلى الحلف. ولكن كان من السهل جداً إقناع العديد من الدول بالانضمام. لم يجر أي كان بلغاريا أو رومانيا أو جمهورية التشيك أو سلوفاكيا أو بولندا إلى الناتو رغماً عنها. ولم يعرض أي أحد رشوة على مقدونيا الشمالية أو مونتينيغرو أو ألبانيا لكي تنضم هي الأخرى.
بل على العكس، على الدول الراغبة بدخول عضوية الناتو والاتحاد الأوروبي الالتزام بمعايير من الشفافية والحوكمة الجيدة. وقد التزمت هذه الدول لأنها كانت تستميت للخروج من قبضة روسيا، وعلى حد تعبير أحد المواطنين الرومانيين الذين تكلمت معهم في الآونة الأخيرة، كانت هذه الدول تسعى لدخول كل النوادي [تكتلات سياسية] والأحلاف الممكنة قبل أن تتماسك روسيا من جديد وتبدأ بفرض نفوذها على البلدان التي يصدف أنها تقع ضمن نطاق سيطرتها المزعوم.
ولو كان السبب الرئيس وراء الأزمة الأوكرانية هو توسيع الناتو وصولاً إلى حدود روسيا، فسلوك بوتين خلال السنوات القليلة الماضية قد أثبت أن الزعماء الذين اتجهوا إلى الناتو كان لديهم كل الحق بفعل ذلك. فتصرفات روسيا مع أوكرانيا خلال الأعوام الثمانية الماضية تبدو كأنها فيديو دعائي [ترويجي] كبير للانضمام إلى عضوية الناتو. قبل شن روسيا غزوها واحتلالها شبه جزيرة القرم، لم تتعد نسبة الأوكرانيين الراغبين بالانضمام إلى الناتو 35 في المئة. ولكن هذا المعدل ارتفع الآن إلى 60 في المئة، ولا يزال في تصاعد.
وقالت جوليان سميث، المبعوثة الأميركية لدى الناتو، خلال إحاطة للإعلاميين، الأسبوع الماضي، إن الروس “قضوا سنوات طوال في التذمر من اقتراب الناتو من حدودهم، إنما للأسف، تصرفاتهم– الخطوات الروسية، والعدوان الروسي- هي التي أدت إلى انتقال المزيد من القوات العسكرية إلى أوروبا الوسطى والشرقية”.
وشرحت أن الناتو عزز وجوده في بولندا ودول البلطيق بعد اجتياح روسيا لشبه جزيرة القرم، وهو يعزز أعداد قواته في أوروبا الوسطى والشرقية الآن رداً على أفعال روسيا.
منذ سنوات، تصدر دول أوروبا الشرقية تحذيرات في هذا الصدد. عرفت مؤسسة الأمن القومي في بولندا “أكبر خطر” عليها على أنه “سياسة الإمبريالية الجديدة التي تنتهجها سلطات روسيا الاتحادية، وتطبقها عبر القوة العسكرية”. بينما نبهت رومانيا من جهتها إلى أن “السلوك العدواني” الروسي، الذي يشمل تسليح منطقة البحر الأسود، هو ما حدا بها إلى تعزيز قدراتها العسكرية والدفاعية.
تتخذ الدول التي وقعت تحت سيطرة الإمبريالية الأميركية في أميركا اللاتينية طيلة القرنين الماضيين موقفاً عدائياً مشابهاً من السلطة العسكرية والغرور اللتين تتسم بهما الولايات المتحدة، وينسحب هذا الموقف كذلك على المملكة المتحدة في شبه القارة الهندية، وعلى فرنسا في شمال أفريقيا.
ولكن، خلافاً للولايات المتحدة وأوروبا، تعاني روسيا من مشكلة كبيرة أخرى، وهي مشكلة من صنع بوتين وحده.
ربما احتقر المكسيكيون والجزائريون والهنود الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة بسبب تجاوزاتها الإمبريالية السابقة والحالية، ولكنهم لا يكرهون معذبيهم السابقين أنفسهم ويخشونهم- ما عليكم سوى ملاحظة معدلات الهجرة للأفراد من الدول الجنوبية حول العالم، المتجهين بأعداد كبيرة نحو الدول الغربية التي يعتبرونها مساحات للازدهار والحرية، على الرغم من عيوبها.
ولكن روسيا لا تقدم للدول التي تريد إبعادها عن الناتو ما يعتد به أبداً- لا أمن ولا ازدهار ولا حكم قانون. فعلى غرار روسيا، تتسم الدول الواقعة تحت تأثير موسكو بالرتابة الكئيبة وهي دول استبدادية فاسدة، تدوس شرطتها السرية على حقوق مواطنيها، فيما تهيمن حفنة من رجال الأعمال المتنفذين على قطاع التجارة.
إن لم يرغب بوتين بانضمام دول مثل مولدوفا وجورجيا وأوكرانيا إلى الحلف الغربي، ربما عليه تقديم شيء أكثر من الأنباء الكاذبة التي تبثها المواقع المشبوهة، أو التدخل السافر في الانتخابات، أو رأسمالية المحسوبيات، ومرتزقة جهاز الاستخبارات جي آر يو الذين يتنقلون وبحوزتهم قوارير سم نوفيتشوك.
لا يقتصر تفضيل الانضمام إلى تحالف الدول الغربية بدل روسيا على الحكومات في أوروبا الشرقية فحسب. بل إن الشعوب هي الأخرى تهاجر لكي تبتعد عن الدول والأراضي الواقعة ضمن رقعة نفوذ الكرملين.
هرب نحو 5 ملايين روسي من بلادهم في ظل حكم بوتين، ومعظمهم شباب متعلمون يبحثون عن سبل العيش في الخارج حيث يمكنهم التعبير عن أنفسهم بحرية وكسب قوتهم بلا خوف من الغضب الاعتباطي للنسخة العصرية التي صنعها بوتين عن وكالة الأمن القومي القديمة (تشيكا).
وجاء في تقرير عام 2022 الذي أصدرته الاستخبارات السرية الإستونية، الأسبوع الماضي، “وجد كل أطراف المعارضة ومنتقدو الحكومة (الروس) الذين يبرزون في العلن أنفسهم عرضة لضغوطات متزايدة من السلطات في عام 2021. ودارت عجلة الترسانة الكاملة من الإجراءات الإدارية، ومن ضمنها التهم الإدارية والجنائية الملفقة، واعتبار المستهدفين عملاء للخارج أو منظمات غير مرغوب بوجودها”.
سجل عدد الروس المستعدين لمغادرة البلاد لو سنحت لهم الفرصة نسبة قياسية هي شخص من كل خمسة أشخاص، وفقاً لاستطلاع آراء أجرته شركة “غالوب” منذ سنتين. في بيلاروس، اضطر نظام ألكسندر لوكاشينكو العميل لبوتين أن يقيد سفر المواطنين بأعداد كبيرة من البلاد، حتى أنه منع حملة الإقامة الأجنبية من المغادرة. والوضع أسوأ بعد في المناطق الميتة [حيث النزاعات المجمدة] التي يسيطر عليها الروس مثل ترانسنيستريا وأوسيتيا الجنوبية، وهي جيوب مهملة تزدهر فيها عمليات تهريب السجائر وعمليات الاحتيال المصرفي الصغيرة.
ويبدو في الواقع أن معجبي بوتين يتركزون داخل الجامعات الغربية أو المناطق الثرية في المدن الغربية الكبرى- بعيداً جداً عن فلاديفوستوك أو مينسك.
سوف يزيد رد فعل الناتو على أي هجوم روسي كبير على أوكرانيا المخاطر الأمنية على روسيا كما عزلتها. ويكتب هارلان كينيث أولمان، الضابط السابق في البحرية الأميركية الذي وضع وحده تقريباً استراتيجية “الصدمة والترويع” [هجوم صاعق] التي استخدمت ضد العراق أن الناتو “سوف يعزز قدراته العسكرية وعديد قواته في أوروبا. وسوف يطور أعضاء الناتو أسلحة أكثر تطوراً، وينشرونها، ومنها أنواع جديدة من القذائف المزودة برؤوس حربية نووية منخفضة القوة”.
قد لا تكون أوكرانيا أو حتى الناتو، أكبر المخاطر التي تتهدد أمن المواطنين الروس. وربما يكون أكبر تهديد للروس هو فلاديمير بوتين نفسه.
* بقلم : بورزو درغاهي مراسل مختص في الشؤون الدولية
* المادة الصحفية تعبر عن راي الكاتب
* المصدر : صحيفة The Independent ـ ترجمة موقع اندنبدنت عربية