أين تقف الدول العربية في التوتر بين روسيا والغرب؟
السياسية:
يعيد التوتر القائم بين الدول الغربية وروسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية أجواء الحرب الباردة إلى الأذهان، إذ كانت الأجواء مشحونة بشكل مستمر بين الاتحاد السوفياتي السابق ودول حلف شمال الأطلسي، وعلى رأسها الولايات المتحدة. وخلال هذه الفترة اصطفت الدول العربية في هذا المحور أو ذاك، وشكلت إحدى الساحات الرئيسية للنزاع بين المعسكرين. فأين تقف هذه الدول خلال الأزمة الراهنة؟
يستمر التوتر بين روسيا والغرب في التصاعد بسبب الأزمة الأوكرانية، خصوصا بعد اعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك عن كييف، ونشر موسكو قوات في الإقليمين الانفصاليين، والحشد العسكري على الحدود الشرقية لأوكرانيا الذي يرى فيه الغرب تمهيدا لاجتياح لهذا البلد.
تذكر هذه التوترات بأجواء الحرب الباردة (من نهاية الحرب العالمية الثانية لعام 1989) التي لم يكن خلالها الصدام مباشرا في أحيان كثيرة بين المعسكر الغربي والاتحاد السوفياتي السابق. ولفترة طويلة شكلت المنطقة العربية إحدى المحاور الأساسية لهذا النزاع. فمن الصراع العربي-الإسرائيلي إلى الحرب العراقية الإيرانية، والحرب الأهلية اللبنانية، وحرب اليمن، وقضية الصحراء الغربية، تركت الحرب الباردة بصمتها على الدول العربية التي اصطفت خلف هذا المحور أو ذاك.
ومرة أخرى، بعد أكثر من ثلاثة عقود على انهيار جدار برلين (في نوفمبر/تشرين الثاني 1989)، تجد هذه الدول نفسها وسط صراع نفوذ ومصالح بين الشرق والغرب ستكون له دون شك تداعياته عليها بسبب موقعها الجغرافي بينهما، وبسبب ارتباطاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو روسيا.
فما إن أعلن الرئيس الروسي الاعتراف باستقلال إقليمي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليين الأوكرانيين حتى سارع الرئيس السوري بشار الأسد لدعم قرار بوتين والاعتراف باستقلال “جمهورية دونيتسك الشعبية” و”جمهورية لوغانسك الشعبية”. ولم يكن ذلك مفاجئا، إذ لعب الدعم الروسي دورا رئيسيا في الحفاظ على الأسد في منصبه بعد الانتفاضة الشعبية التي واجهها نظامه عام 2011 والتي تحولت إلى نزاع مسلح كانت موسكو خلاله الحليف الأساسي للرئيس السوري الذي اتسمت علاقته مع الغرب بالتوتر منذ توليه منصبه عام 2000 خلفا لوالده.
ولا يغيب عن الأذهان الدور الروسي في الصراع الليبي، سواء عبر تسليح “الجيش الوطني” الذي يقوده المشير خليفة حفتر، أو عبر مجموعة “فاغنر” شبه العسكرية التي انتشرت على الأرض في البلد الغني بالنفط الذي يعاني صراعا مستمرا منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي في 2011.
يأتي كل هذا في وقت ينحسر فيه الدور الأوروبي والأمريكي في هذه الدول، ففي سوريا والعراق انحصر الدور الغربي مؤخرا على عمليات محدودة ضد المجموعات الإسلاموية المتطرفة التي استغلت الصراعات السياسية والعسكرية لتعزيز وجودها. وكذلك الأمر في ليبيا حيث تبدو روسيا ومصر والسعودية والإمارات وتركيا هي الدول التي تلعب دورا أساسيا في النزاع في هذا البلد.
وسيكون لتجارة الأسلحة الروسية دون شك دورا في حسم مواقف الدول العربية، إذ عملت موسكو خلال السنوات الأخيرة على استعادة مكانتها في دول عربية كان لديها نفوذ فيها في الحقبة السوفياتية، واعتمدت على تجارة الأسلحة بشكل كبير لتحقيق هذا الهدف.
إذ ضاعفت روسيا صادراتها من الأسلحة إلى الجزائر، أكبر الدول العربية والأفريقية مساحة، محافظة على مكانتها كأول مزود للجيش الجزائري الذي تبلغ ميزانيته السنوية الخاصة بالتسليح نحو عشرة مليارات دولار، تحصل روسيا على نصيب الأسد منها.
كذلك عادت روسيا لتزويد العراق بالسلاح على الرغم من التحولات التي شهدها بعد الغزو الأمريكي وإعادة بناء الجيش الذي اعتمد منذ ذلك الحين على الأسلحة القادمة من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
وظهرت خلال السنوات الأخيرة بعض “الفجوات الاستراتيجية” في علاقات واشنطن مع دول عربية حليفة لها تقليديا للولايات المتحدة مثل مصر والسعودية، التي أسست علاقات تعاون عسكري وتجاري مع روسيا.
فقد عادت موسكو لتكون مزودا أساسيا لمصر بالسلاح لأول مرة منذ حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، ونمت المبادلات التجارية الروسية المصرية عموما بنسبة 10 بالمئة عام 2021.
ودفعت الحرب في اليمن، السعودية والإمارات لعقد صفقات أسلحة مع روسيا، رفعت إدارة جو بايدن تحفظاتها عليها في تحول واضح في الموقف الأمريكي. فعلى عكس واشنطن وحلفائها الغربيين، لا تضع موسكو شروطا متعلقة بحقوق الإنسان على صادراتها من الأسلحة، وهو ما يجعلها موردا مغريا للنظم العربية التي غالبا ما تغيب عنها الديمقراطية، وتتعرض لاتهامات واسعة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
ففي الوقت الذي كان بوتين يعلن خلاله عن قراره، كانت قطر تستضيف مؤتمرا للدول المصدرة للغاز طغت عليه قضية تعويض إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا في حال انقطاعها. ففي حال نشوب صراع مسلح سيكون من الصعب استمرار تدفق الغاز الروسي عبر أوكرانيا، أو بيلاروسيا الحليفة لموسكو.
وحول هذا الموضوع اعتبر وزير الطاقة القطري سعد الكعبي الثلاثاء أنه لا قطر ولا أي دولة منفردة أخرى لديها القدرة على أن تسد الفراغ أو تحل محل إمدادات الغاز الروسية لأوروبا.
وقال الكعبي للصحافيين: “أعتقد أن روسيا مسؤولة عن توريد ما بين 30 و40 بالمئة تقريبا من الإمدادات لأوروبا. لا تستطيع دولة بمفردها تعويض هذا الكم، لا توجد مقدرة للقيام بذلك فيما يتعلق بالغاز الطبيعي المسال”.
وأضاف: “أغلب الغاز الطبيعي المسال مرتبط بعقود طويلة الأجل ووجهات واضحة للغاية. لذلك فإن تعويض هذا الكم بهذه السرعة شبه مستحيل”.
وتعد الجزائر، بحسب تحليل لوكالة بلومبرغ الأمريكية، في مقدمة الدول التي يمكن الاعتماد على إنتاجها من الغاز لتعويض هذا النقص، فهي ثالث أكبر مصدر له إلى الاتحاد الأوروبي بعد روسيا والنرويج، ومزود رئيسي لكل من إيطاليا وإسبانيا. ولكن هذا الخيار يمكن أن يضع الجزائر في موقف محرج مع حليفها التقليدي الروسي، على الرغم مما يمكن أن يوفره من مردود مالي كبير واحتمال أن يمنحها نفوذا دبلوماسيا في أوروبا.
كذلك فإن الصراع الليبي المستمر والأزمة السورية والوضع في العراق، تلقي بظلالها في هذا المجال. إذ إنها تحد من قدرة الدول العربية على رفع صادراتها من الغاز إلى أوروبا. فإنتاج النفط والغاز الليبي يعاني بسبب عدم الاستقرار في البلاد، وإمكانية إقامة خطوط أنابيب نفط وغاز من دول الخليج أو من مصر باتجاه أوروبا ستكون معقدة لأنه سيكون من الصعب جدا مرورها عبر الأراضي السورية أو العراقية.
وبجانب كل ما تقدم، فإن روسيا وأوكرانيا من أهم مصدري القمح لعدد كبير من الدول العربية. وتمر معظم هذه الصادرات عبر البحر الأسود الذي يقع في محور الأزمة الحالية.
وحسب مقال نشره الخبير الزراعي في معهد بريكثرو الأمريكي أليكس سميث في مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، فإن التهديدات لصادرات القمح الأوكرانية تشكل “أكبر خطر على الأمن الغذائي العالم”.
إذ اشترت مصر نحو نصف وارداتها من القمح في 2021 من روسيا وحوالي 30 في المئة من أوكرانيا. ومصر من أكبر مستوردي القمح في العالم، ويمكن أن تتسبب الأزمة في تراجع وارداتها من هذه المادة الأساسية التي يعتمد عليها نحو ثلثي سكان البلاد.
كذلك فإن روسيا هي المزود الرئيس للجزائر بالقمح وتليها أوكرانيا، بينما أدى توتر العلاقات مع باريس لتراجع صادرات القمح الفرنسية إلى هذا البلد. ويعتمد لبنان على أوكرانيا في تغطية نحو 50 بالمئة من احتياجاته من القمح. كذلك تزود كييف ليبيا بـ43 بالمئة من وارداتها من هذه المادة، واليمن بـ22 في المئة، والمغرب بـ26 بالمئة.
وأدت العوامل المناخية والسياسية إلى تراجع الإنتاج الزراعي في الدول العربية، وبشكل خاص القمح. وتشير تقارير رسمية إلى أن مصر والمغرب تملكان احتياطيا من القمح يكفي من أربعة إلى خمسة أشهر. بينما أدت الأزمة السياسية في تونس إلى نقص كبير في الحبوب.
كل هذا يجعل إيجاد بدائل لاستيراد هذه المادة أمرا ضروريا. وهنا تأتي الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وكندا وفرنسا على رأس الدول التي يمكن أن تغطي هذا النقص، ولكن هذا يمكن أن يكون أيضا عرضة لضغوط تفرضها المتغيرات السياسية.
وفي الختام، إذا كان نظام الرئيس السوري بشار الأسد قد حسم أمره منذ البداية وبوضوح في اتخاذ موقف داعم لموسكو خلال الأزمة الراهنة، فإن الوضع بالنسبة لباقي الدول العربية أكثر تعقيدا وضبابية، ومحكوم بعوامل عدة، ويبقى مرهونا بسير الأحداث وتطورها الذي ستكشف عنه المرحلة القادمة.
* بقلم : فؤاد حسن ـ صحفي
* المادة الصحفية تعبر عن وجهة نظر الكاتب ـ موقع فرانس 24