السياسية:

رغم العلاقة الوثيقة بين الصين وروسيا، إلا أن التاريخ المشترك بينها مليء بالتنافس والحروب، ولكن اليوم يجمعهما العداء للغرب، فهل يؤدي ذلك إلى تحول الشراكة الصينية الروسية إلى تحالف ضد أمريكا والغرب.

رغم تحاشي روسيا والصين تشكيل تحالف مشترك، فإن الشراكة الاستراتيجية بينهما تزداد قوة، حتى إن الرئيس الصيني شي جين بينغ قال مؤخراً إن العلاقة بين البلدين “في قوتها ومتانتها تتفوق على أي تحالف”، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.

علاقة شخصية وثيقة بين بوتين وشي
ولم تسعَ روسيا والصين إلى حرب باردة جديدة مشتركة أو تصاعد العداء مع الغرب، ولكن لا شك في أن هذا الواقع سرَّع من وتيرة نمو العلاقة بينهما. وقد أفادت علاقتهما من العلاقة الشخصية بين زعيمي البلدين.

ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شي بأنه “شريك يُعتمد عليه” وقال في مقابلة إن شي “ربما هو الزعيم العالمي الوحيد الذي احتفلتُ معه بأحد أعياد ميلادي”. ووصف شي بوتين بأنه “أقرب أصدقائي”.

التاريخ المعقَّد للعلاقات بين الصين وروسيا من التحالف لحرب محدودة
اللافت أن البلدين على علاقتهما الوثيقة حالياً، لديهما تنافس أقدم بكثير من تنافسهما مع الولايات المتحدة، إذ توسعت روسيا في الشرق الأقصى على حساب الصين، كما تواجَه البلدان عسكرياً خلال ستينيات القرن الماضي، رغم أن كليهما كان شيوعياً.

ووصلت العلاقات لذروتها بين البلدين في أواخر الأربعينات، بعد وصول الحزب الشيوعي للحكم في الصين بدعم من الاتحاد السوفييتي الذي ساند التدخل العسكري الصيني في الحرب الكورية ضد أمريكا.

ولكن التعاون الوثيق بين البلدين الذي انطلق بعد انهيار الاتحاد السوفييتي له نسخة أقدم وأوثق خلال فترة مواجهة التوسع الياباني في آسيا، كان الاتحاد السوفييتي خلاله أبرز حليف للقوى الصينية التي تتصدى للغزو الياباني، وواصلت موسكو دعم بكين بعد تحول الأخيرة للشيوعية في نهاية أربعينيات القرن العشرين بفضل الدعم السوفييتي للحزب الشيوعي إلى حد كبير.

وكان أكثر مجالات التعاون بينهما في فترة الصداقة الشيوعية هو مجال التقنية العسكرية حيث نقلت موسكو بعد أهم تقنياتها مثل تكنولوجيا الطائرات ميغ 19 وميغ 21 وغيرهما التي ظلت تنتجها الصين لفترة قريبة، إلى أن توترت العلاقات بينهما خلال الستينيات، وتحولت إلى صراع حدودي تفوَّق فيه الروس (الاتحاد السوفييتي)، كاد يتحول إلى حرب كبرى.

وبسبب القطيعة بين البلدين توقفت الصين عن تحقيق تقدم بارز في التكنولوجيا العسكرية، وخلال السبعينات بدأت الصين تنفتح على الولايات المتحدة نكاية في الاتحاد السوفييتي.

ولكن قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي بدأت العلاقة بين بكين وموسكو تتحسن.

ففي كتابه “China and Russia: the New Rapprochement”، يقول ألكسندر لوكين إن تعافي العلاقات بين الصين وروسيا بدأ “في مطلع السنوات الأخيرة من فترة ليونيد بريجنيف”. وكان تحسين العلاقات مع الصين من أولويات غورباتشوف.

ففي عام 1986، اقترح غورباتشوف لأول مرة فكرة التحول إلى آسيا واعتبر تطبيع العلاقات مع الصين أولوية. وقبل أيام من استقالة غورباتشوف من رئاسة الاتحاد السوفيتي نهاية عام 1991، أجرى نائبا وزيري خارجية البلدين محادثات عن علاقة جديدة بين روسيا والصين. وخلال العام الذي سبقه، مع ظهور عالم جديد أحادي القطب والحاجة إلى التنمية الاقتصادية، قرر الزعيم الصيني السابق دنغ شياو بينغ بالفعل أنه “مهما كانت التغييرات التي حدثت في الاتحاد السوفييتي، يجب علينا تشكيل علاقات معه بهدوء، ومن ذلك العلاقات السياسية”.

الصين دولة ذات أهمية قصوى لروسيا منذ عهد يلتسين
واستمر العمل على تحسين العلاقات بين البلدين بعد الانتقال من الاتحاد السوفييتي إلى روسيا.

وبحلول عام 1995، أصبحت الصين “دولة ذات أهمية قصوى” لروسيا. وقال الزعيم الروسي بوريس يلتسين: “العلاقات مع الصين شديدة الأهمية بالنسبة لنا في السياسة العالمية. فبإمكاننا الاتكاء على الصين في العلاقات مع الغرب. وعندها سيعامل الغرب روسيا باحترام كبير”.

وفي أبريل/نيسان عام 1997، وقّع يلتسين والزعيم الصيني آنذاك جيانغ زيمين “الإعلان الروسي الصيني المشترك لعالم متعدد الأقطاب وإقامة نظام دولي جديد”.

ثلاث محرمات في العلاقة بين الصين وروسيا
وخلال ذلك العام، وصف أحد الكتاب الصينيين، شي لايوانغ، أساس هذه العلاقة بين البلدين بأنه قائم على ثلاثة ممنوعات وثلاثة مباحات، فـ”ممنوع تشكيل تحالف، وممنوع الخلاف، وممنوع اتخاذ أي إجراء بحق طرف ثالث” وأما المباحات فـ”جيرة صالحة، وشراكة قوية، وصداقة متينة”. وفي العام نفسه، أطلق يلتسين على هذه العلاقة لأول مرة “شراكة استراتيجية”. ويقول لوكين إن هاتين الكلمتين لا تزالان تستخدمان حتى اليوم في السياسة الرسمية.

وبعدها بعامين، كان جيانغ زيمين يصف العلاقات الروسية الصينية بالفعل بأنها “علاقات دولية من نوع جديد”.

بوتين يبرم مع الصين معاهدة حسن جوار
وصعود بوتين زاد من رسوخ العلاقة. يقول لوكين: “الصين كانت تشعر دوماً ببعض القلق من بوريس يلتسين لعدم استقرار سياساته وحتى سلوكه الشخصي”. أما بوتين فسيعمل على تثبيت هذا الأساس.

فعام 2001، حولت روسيا والصين علاقتهما إلى علاقة رسمية ووقعتا معاهدة حسن الجوار والتعاون الودي، وهذا أعطى بعداً قانونياً للعديد من الوثائق التي وقعتاها في العشر سنوات التي سبقت بوتين. وقال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إن المعاهدة “أرست أساساً سياسياً وقانونياً قوياً لعلاقات مستقرة وثابتة ومتعددة الأوجه بين البلدين”.

وأشار لوكين إلى أن “انتخاب ميدفيديف.. في مارس/آذار عام 2008 لم يؤثر على سياسة روسيا تجاه الصين”.

وفور وصول بوتين إلى السلطة، قال إن “الصين والاتحاد الروسي يتبنيان المواقف نفسها من مجموعة واسعة من القضايا الدولية ويلتزمان بمبادئ متشابهة. وأنا أشير، قبل كل شيء، إلى هدفنا المتمثل في الحفاظ على العالم متعدد الأقطاب وتعزيزه”.

شبه تحالف وليس تحالفاً
وهذه العلاقة، رغم قوتها، لم تتحول إلى تحالف، تماشياً مع خطط وسياسات البلدين؛ لكنها تقترب من مستوى شبه تحالف. ورغم القوة الاستثنائية لهذه العلاقة، فهي لا تخلو من التحديات.

فالبلدان يختلفان على بعض الأمور.

فصحيح أن الصين تحمّل مسؤولية الأزمة الأوكرانية لانتهاكات الولايات المتحدة وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، إلا أنها لا توافق على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. ولكن، حتى في هذه الأزمة، كانت الصين داعمة لروسيا.

التعاون في الصناعات العسكرية
المفارقة أنه بعد تراجع المشكلات بين البلدين التي فرَّقت بينهما خلال العهد الشيوعي، فإن التعاون في مجال الصناعات العسكرية تحديداً، كان بداية توثيق العلاقات بينهما للمستوى الذي نراه حالياً.

إذ إن شراء الصين المعدات العسكرية سمح لبرامج التسلح الروسية بالنجاة والبقاء بعد الأزمة المالية التي أصابت البلاد إثر انهيار الاتحاد السوفييتي خلال أوائل تسعينيات القرن العشرين.

إذ باعت روسيا أسلحة حديثة للصين، على الرغم من مخاوفها من أن بكين سوف تكون قادرة على “نسخ” الأسلحة المتلقاة ومن ثم تحسينها.

لكن الحاجة إلى المال كانت أكبر بكثير من القلق بشأن مثل هذه الأشياء، إذ اعتادت الصين شراء أنظمة الأسلحة الروسية وهندستها العكسية، مما وفر لها قاعدة صحية لبدء بناء جيشها، وهو الأكبر في العالم، لكنها الآن تفوقت بوضوح على روسيا من حيث القتال المتطور.

ونتيجة لذلك، تفوقت الصين أوائل عام 2020 على روسيا في تطوير كثيير من الأسلحة.

كما أن روسيا تعد مزود طاقة رئيسياً للصين.

من الواضح أنه بالإضافة للتعاون في المجال العسكري، فإن واحداً من مجالات الشراكة بين الصين وروسيا، هو العمل على إيجاد بديل للدولار، وهي مسألة تبدو موسكو أحرص عليها خاصة بعد التهديدات الأمريكية بإمكانية منع بيع موسكو للديون السيادية وطردها خارج نظام سويفت العالمي للتحويلات المصرفية.

أما الصين، فمن الواضح أنها تلجأ لهذا الخيار كعمل احتياطي في حال تصعيد الضغوط الأمريكية عليها، ولكن في الوقت الحالي تبدو بكين اقتصادياً مستفيدة من الدولار القوي، وكون عملتها أقل قوة إذ تواصل التصدير للولايات المتحدة بفضل سعر عملتها التنافسي، بينما تدخر الدولارات التي تأتيها من أمريكا.

وثمة مخاوف في بعض الأوساط أيضاً، رغم أنها ليست رسمية عادة، من احتمال اعتماد روسيا على الصين. ولكن روسيا، وقت اختيارها التقارب مع الصين، كانت قد أدركت جيداً أن البديل هو الاعتماد القسري على الولايات المتحدة وإجبارها على أن تكون تابعة لها. وفضلاً عن ذلك، مثلما يشير لوكين، فالتفوق الاقتصادي للصين ليس بالضرورة شيئاً تخشاه روسيا أكثر مما تخشى كندا التفوق الاقتصادي الأمريكي.

والتحدي الثالث يتمثل في أن الاندماج بين شعبي البلدين وعالم الأعمال ليس قوياً بما يكفي. على أنه في هذا أيضاً، تدرك الحكومتان هذا التحدي وتتصديان له بمشاريع التبادل الثقافي وتشجيع تعلُّم لغات بعضهما.

مخاوف موسكو تدفعها للتصدي للتوغل الصيني في الشرق الأقصى الروسي
وهناك مسألة عالقة بين البلدين، يجري عدم التركيز عليها وهي المخاوف الروسية من التأثير الصيني على الشرق الأقصى الروسي الذي يتميز بكثافة سكانية قليلة وموارد هائلة ويجاوز الصين بعدد سكانها الضخم ومواردها المالية المتصاعدة.

ويؤدي الوجود الواضح بشكل متزايد للشركات والسياح الصينيين، والذي غالباً ما يخالف المعايير الاجتماعية والاقتصادية المحلية السائدة منذ فترة طويلة، إلى إثارة المخاوف المحلية بشأن غزو ديموغرافي لشرق روسيا من شمال شرق الصين الذي يبلغ عدد سكانه 20 ضعفاً.

ومما يزيد قلق بعض الروس الاعتقاد بأن القوميين الصينيين ما زالوا يشعرون بالمرارة، لأن أسرة تشينغ قد تنازلت عن المنطقة لروسيا القيصرية قبل قرنين من الزمان من خلال معاهدة مذلّة غير متكافئة، حسبما ورد في تقرير لموقع the Diplomat الياباني.

ويعتقد أن الوجود الصيني لا سيما الاقتصادي في الشرق الأقصى الروسي يواجه عملية تقييد من جانب موسكو.

إذ يتحدث التجار الصينيون في أسواق الجملة عن المزيد من الزيارات التي تقوم بها الشرطة والمسؤولون الروس عن إنفاذ القانون، تليها غرامات “الانتهاكات” المفترضة بالنسبة لأي مخالفات متعلقة بالواردات الصينية.

إلى جانب ارتفاع تكاليف تجديد تأشيرات العمل السنوية وتعريفات الاستيراد، أدت هذه الغرامات إلى زيادة تكلفة ممارسة الأعمال التجارية بشكل كبير في السنوات الأخيرة. علاوة على ذلك، وجد نفس التجار الصغار أنفسهم مستبعدين تماماً من التجارة الأكثر ربحية التي تنطوي على الموارد الطبيعية الهائلة غير المستغلة في الشرق الأقصى الروسي، والتي تقودها الشركات الصينية المملوكة للدولة بشكل حصري تقريباً بالتعاون مع الأوليغارشية الروسية المرتبطة سياسياً بالحكم في موسكو.

تم تصميم الصعوبات التي يواجهها التجار الصينيون بشكل متعمد من قبل صانعي القرار رفيعي المستوى في موسكو. يدرك الكرملين تماماً الهيمنة الاقتصادية الصينية في الشرق الأقصى الروسي، ويحاول تنويع الاستثمارات الأجنبية الواردة في المنطقة. يهدف المنتدى الاقتصادي الشرقي، الذي يُعقد سنوياً منذ عام 2015 في فلاديفوستوك، جزئياً إلى أن يكون منصة لجذب المستثمرين الأجانب، وخاصة من اليابان وكوريا الجنوبية، ليحلوا محل الصينيين في الشرق الأقصى الروسي. على المستوى الشعبي، يظهر الوجود المتزايد للسياح الكوريين والتجار الفيتناميين في المدن الرئيسية بالمنطقة على الأقل بعض النجاح في استراتيجية التنويع.

يقول لوكين إن أياً من هذه التحديات “لا يمثل مشكلات قد ينتج عنها تدهور كبير في العلاقات بين البلدين.. فالأساس الحالي للشراكة الاستراتيجية الروسية الصينية قوي وصلب بدرجة تمكنهما من حل أي خلافات بينهما بسهولة”.

* المصدر : عربي بوست