حان الوقت للاستعداد لعصر ما بعد أمريكا.. دور واشنطن في العالم يتضاءل, ماذا سيأتي بعد ذلك؟
بقلم: جلين ديسن*
السياسية: ترجمة: أنيسة معيض, الإدارة العامة للترجمة والتحرير الأجنبي “سبا”
هل كانت الهيمنة الأمريكية على السياسة الخارجية العالمية، والتمويل، والشؤون العسكرية مصدر استقرار أو صراع؟
يعتقد البعض أن مكانة واشنطن باعتبارها القوة العظمى الأخيرة كانت قوة من أجل الخير, بينما يختلف آخرون على هذا الرأي.
لقد تطلب الحفاظ على هيمنتها أن تقسم واشنطن العالم إلى أعداء مهمشين وحلفاء تابعين.
كان ينظر إلى تفوق الناتو في أوروبا من قبل العديد من الشخصيات البارزة في الغرب على أنه خلق سلام دائم في القارة.
في الوقت نفسه، كانت أيضاً المصدر الرئيسي للصراع مع توسع الحلف نحو الحدود الروسية.
نحن نعيش الآن في عصر تقترب فيه تلك الهيمنة الأمريكية من نهايتها، وتفقد ضماناتها الأمنية مصداقيتها.
إذا كان النظام العالمي أحادي القطب قد قلل من احتمالية نشوب صراع، فهل سيتم إطلاق العنان لقوى كامنة في السابق بينما تغلب الدول الضعيفة من قبل المعتدين؟ بدلاً من ذلك، هل ستكون حالات الجمود ووقف إطلاق النار أطول أمداً لأن الدول التي شجعتها الولايات المتحدة في السابق مجبرة على إيجاد حلول دائمة مع خصومها، بدلاً من المعاناة وراء حماية واشنطن؟
عندما لم تعد هناك أهمية للوعود الأمريكية
كانت الولايات المتحدة، لأسباب مفهومة، مترددة في الاعتراف بالهزيمة ومغادرة أفغانستان لأن ذلك سيؤدي إلى “أزمة مصداقية”.
لن يتمكن حلفاؤها بعد الآن من بناء سياستهم الخارجية على افتراض حمايتها وهيمنتها الجماعية، وسيتعين عليهم إتباع سياسة خارجية مستقلة والتوصل إلى حل وسط مع خصومهم.
ستنخفض القوة الأمريكية، بسبب تقلص القدرة على ممارسة نفوذها على حلفائها التابعين لها وتهميش خصومها.
إذا لم تكن أوكرانيا وتايوان لديهما ثقة تامة في أن الولايات المتحدة ستوفر لهما الحماية، فأن مواقعهما كخطوط أمامية لواشنطن ضد روسيا والصين غير مقبولة وسيتعين عليهما السعي لتحقيق السلام مع خصومهما.
وبدون الدعم الأمريكي الثابت، سيتعين على أوكرانيا الالتزام باتفاقية مينسك للسلام و ستحتاج تايوان إلى وقف مساعيها للانفصال عن الصين.
أدى فشل سعي الولايات المتحدة لتغيير النظام في سوريا إلى تحرك العرب وتركيا تدريجياً نحو المصالحة والسلام العملي مع دمشق.
فيما الجهود الأمريكية للتوصل إلى اتفاق مع إيران والفشل في تقرير نتيجة الصراع في اليمن، حفز بالمثل المملكة العربية السعودية على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع طهران، ومهد الطريق للمفاوضات بشأن تحسين العلاقات الثنائية وإنهاء الحرب في اليمن.
كما يتعامل الاتحاد الأوروبي مع عواقب تراجع الولايات المتحدة, ففي مايو 2017 قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأن “الأوقات التي كان يمكننا فيها الاعتماد بشكل كامل على الآخرين قد تجاوزناها قليلاً، وهذا ما لمسته في الأيام الأخيرة … لا يسعني إلا أن أقول: علينا نحن الأوروبيين حقاً أن نصنع أقدارنا بأيدينا”.
النهج الرئيسي للاتحاد الأوروبي هو الآن نهج “الحكم الذاتي الاستراتيجي” والذي يمكن التعبير عنه بصدق على أنه “استقلال ذاتي عن الولايات المتحدة”.
وبدون دعم واشنطن، لن تتمكن بروكسل من بناء أوروبا بدون روسيا، وبالتالي ضدها حتماً.
هناك ضغط متزايد للتوصل إلى اتفاق والتوصل إلى تسوية ما بعد الحرب الباردة التي تأخرت كثيراً مع موسكو والتي تضع الأساس لأمن عموم أوروبا.
انهيار أمن أوروبا:
قرب نهاية الحرب الباردة، حذر رئيس الوزراء السوفيتي ميخائيل جورباتشوف نظيره الأمريكي من أن الصقور في كل من واشنطن وموسكو سيقاومون السلام لأنه سيقوض الموقف المهيمن لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
كانوا يعتقدون أن الصراع كان جيداً – فقد أدى التنافس العسكري الشديد إلى اعتماد أمني، مما يضمن بقاء حلفائهم مطيعين.
في الواقع، حذر الصقور في واشنطن من “هجوم السلام” الذي يشنه غورباتشوف لان نزع السلاح وتحسين العلاقات من شأنه أن يقلل من التبعية الأمنية ويقسم التحالف الغربي.
حلت معضلة الهيمنة الأمريكية مقابل الأمن نفسها مع انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث لم يعد على الأمريكيين نزع السلاح من أوروبا لتأمين السلام – يمكنهم فعل ما يريدون دون معارضة تذكر.
وهكذا، تم استبدال الدفاع الجماعي ضد السوفييت بهيمنة جماعية للدول التي كانت على استعداد للسير وراء الولايات المتحدة.
بعد الحرب الباردة، وقع الغرب في البداية على عدة اتفاقيات أمنية لعموم أوروبا.
ميثاق باريس لأوروبا الجديدة في عام 1990, ومذكرة بودابست في عام 1994, ووثيقة اسطنبول في عام 1999, كلها تنص على التزام الجميع بمبدأ “الأمن غير القابل للتجزئة” والذي يعني “أنهم لن يعززوا أمنهم على حساب أمن الآخرين”.
كل هذه الاتفاقيات الأمنية لعموم أوروبا انتهكت لاحقاً من خلال السعي لتحقيق سلام مهيمن، مع إصرار الغرب على أن يحتكر الناتو الأمن وتغيرت اللغة من “الأمن غير القابل للتجزئة” إلى “الحرية” لتوسيع الحلف.
بدأت الولايات المتحدة أيضاً في تفكيك الاتفاقيات الأمنية لعموم أوروبا مثل القانون التأسيسي لحلف الناتو وروسيا لعام 1997, ومعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام 1972, ومعاهدة القوات النووية متوسطة المدى لعام 1987, والاتفاقيات الأخرى التي يمكن أن تقيد الأمريكيين.
حتى القانون الدولي وفقاً لميثاق الأمم المتحدة يتم تهميشه من خلال السعي وراء شرعية بديلة بموجب المفهوم الأورويلي “للنظام الدولي القائم على القواعد”.
أوروبا الآن في وضع غير مستقر حيث تم تفكيك الاتفاقيات الأمنية لعموم أوروبا وليس هناك هيمنة لضمان الاستقرار والنظام.
لقد كانت الغريزة الأولى متسقة مع نظام الهيمنة – استخدام التهديدات والإنذارات النهائية لجعل روسيا تقبل إملاءات الناتو.
ومع ذلك، في غياب الهيمنة، فإن الأوروبيين يعزلون أنفسهم فقط.
تنشر روسيا أسلحة متطورة بشكل متزايد وتقلل بسرعة اعتمادها الاقتصادي والتكنولوجي والمالي على الغرب من خلال تعزيز ارتباطها الاقتصادي بالشرق.
الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وأوكرانيا وبولندا لتخريب نورد ستريم 2 ستؤدي بالمثل إلى أن تصبح الصناعات الأوروبية أقل قدرة على المنافسة، حيث يذهب الغاز الروسي الرخيص إلى آسيا بدلاً من ذلك.
كان بإمكان الغرب في السابق أن يرفض أو يتجاهل موسكو عندما اقترحت أن تنضم إلى حلف الناتو واقترح هيكلاً أمنياً أوروبياً جديداً في عام 2008, وأوروبا من لشبونة إلى فلاديفوستوك في عام 2010.
ومع ذلك، فإن الأمر مختلف هذه المرة, حيث تواجه روسيا تهديداً وجودياً مع توسع الناتو في أوكرانيا، ولدى روسيا الوسائل الاقتصادية والعسكرية لموازنة الأحادية الغربية.
تتوصل العواصم الغربية على مضض إلى تفاهم مع نهاية الهيمنة والأحادية، والحاجة اللاحقة لاستعادة الاتفاق على الأمن لعموم أوروبا.
تطالب موسكو الآن بإنهاء حقبة هيمنة الناتو والعودة إلى مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة.
يبدو أن الكرملين يخطط لعصر تكون فيه أمريكا أقل أهمية, كم سيمضي من الوقت قبل أن يبدأ بقية العالم في فعل الشيء نفسه ؟
- جلين ديسن: أستاذ في جامعة جنوب شرق النرويج ومحرر في روسيا في مجلة جلوبال أفيرز.
- المادة الصحفية تم ترجمتها حرفياً من المصدر وبالضرورة لا تعبر عن رأي الموقع
- موقع قناة ” آر تي – RT” الروسية الناطقة باللغة الانجليزية