روسيا قد تستغل إيران لصالحها.. كيف أصبح الاستقرار بالشرق الأوسط معلقاً على تطورات الأزمة الأوكرانية؟
السياسية:
العلاقة بين الأزمة الأوكرانية وأزمات الشرق الأوسط تبدو معقدة، وهي ورقة في يد روسيا التي قد تعمد إلى خلق مشاكل لأمريكا وتركيا وإسرائيل رداً على دعمها لكييف في مواجهة التنمر الروسي.
ومؤخراً، خرج مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، بتصريحات يُشدِّد فيها على أن روسيا تشارك إسرائيل موقفها بأن إيران “قوة مزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط”.
لكن سير الأحداث يكشف أنه إذا كان المطلب من وراء هذا التشديد هو الضغط على موسكو (أو طهران)، فإن غالب الأمر أنه لم يُصب هدفه. فالأرجح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يرى أن سلوك إيران المثير للجدل لا يستجلب ضرراً بمصالحه، بل قد يكون مفيداً له من الناحية الاستراتيجية، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
ما العلاقة بين الأزمة الأوكرانية وأزمات الشرق الأوسط؟
الهدف الأساسي لروسيا هو الدفاع عن مصالحها الأمنية، ولكي تخدم هذا الغرض عمدت إلى إقامة علاقات دبلوماسية وثيقة مع الأطراف الرئيسية في المنطقة، لكن هذه الأطراف جميعها أصبحت أيضاً خاضعة لاحتمال أن يسبب الدور الروسي في الشرق الأوسط لها مشكلات.
فالأحداث الأخيرة في الجوار المباشر لروسيا زادت التشابكات الدبلوماسية في الشرق الأوسط تعقيداً، وخلقت علاقة غير مباشرة بين الأزمة الأوكرانية وأزمات الشرق الأوسط.
فبعد أن أصبحت أوكرانيا الشاغلَ الأهم لبوتين، فإنَّ احتمال أن يربط بين الأزمة الأوكرانية وأزمات الشرق الأوسط يتزايد، وإيران قد تلعب دوراً محورياً في هذا السيناريو.
في المقابل، فإن الأزمة الأوكرانية والملف النووي الإيراني يمثلان القضية ذات الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
ويجب ملاحظة أنه في منظومة المصالح الأمنية لموسكو، تقوم الأولوية القصوى لها على العمل من أجل ألا تشتمل السياسات الداخلية للدول الـ14 التي تشاركها الحدود، على تهديدٍ للمصالح الروسية، وربما الأهم من ذلك كله، ألا تمثل هذه الدول تهديداً لمصالح نظام بوتين.
ومن ثم، فإن النزاع المستمر مع الولايات المتحدة حول أوكرانيا، والاحتجاجات التي اندلعت في أوائل يناير/كانون الثاني في كازاخستان، هما المسألتان اللتان تستحوذان حالياً على اهتمام موسكو، حسب موقع Responsible Statecraft.
ومن هنا فإن الأحداث الأخيرة على حدود موسكو ستكون لها تداعياتٌ على الشرق الأوسط، خاصةً احتمالات مقايضة موسكو بين مواقفها في الأزمة الأوكرانية وأزمات الشرق الأوسط.
وبالفعل استدعت الأحداث في كازاخستان والأزمة الأوكرانية الانتباه من جميع الدول الرئيسية في المنطقة.
وتتشارك إيران وسوريا وإسرائيل وتركيا، وكذلك دول الخليج العربية، في هذا السياق شيئاً واحداً: أنها تريد الحفاظ على العلاقات مع موسكو على نحو يُسهم في تعزيز نفوذ تلك الدول الدبلوماسي أو العسكري.
فاحتجاجات كازاخستان والأزمة الأوكرانية وأزمات الشرق الأوسط تفرض اختبارات عسيرة حقاً على قدرة روسيا وأصدقائها على العمل معاً، كما أنها تطرح أمام بوتين اختباراً للتحقُّق من علاقته بكل طرف من هذه الأطراف ودرجة قوتها، لكن ذلك لا يعني أبداً التقليل من قدرة الرئيس الروسي على حفظ التوازن بين الأطراف المتناقضة ومراوغة عدة أزمات مشتعلة في وقت واحد.
روسيا تعيد طرح اقتراحها تأسيس منظومة أمنية في الخليج
في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أعادت روسيا عرضَ اقتراحها بشأن “مفهوم جماعي للأمن في منطقة الخليج” الذي سبق أن اقترحته ثلاث مرات من قبل، كان آخرها في عام 2019. وينطوي هذا الاقتراح على عرض من موسكو للوساطة بين الولايات المتحدة وإيران (وضمنياً، بين إسرائيل وإيران). وفي معرض ترويج الاقتراح الروسي، يقول فيتالي نومكين، الباحث البارز الذي شارك على ما يبدو، في صياغة مفهوم موسكو لأمن الخليج الجماعي، إن أطراف المنطقة “ضاقت ذرعاً بما يحدث فيها”، ووصلت الأوضاع فيها إلى “نوع من الجمود” الذي قد يفتح الباب أمام الدبلوماسية، وأضاف نومكين في تصريحات لمجلة Newsweek الأمريكية: “لدينا تهديد مشترك واحد، وهو التهديد باندلاع الحرب”.
المحرِّك الأساسي لروسيا هو المنطِق الجغرافي الاستراتيجي، فهي تستند في جزء أساسي من نفوذها إلى قدراتها القائمة على الاستعانة بالقوة العسكرية في علاقاتها مع الدول، لتقديم نفسها على أنها صانع السلام الطموح.
ولأن هذا الدور يمنح روسيا نفوذاً لا يمكن أن تضاهيه واشنطن، فإن موسكو قد تحوز مكاسب كثيرة من هذا الدور بشرط ألا تؤدي مناوراتها الدبلوماسية إلى خسارة بعض هؤلاء الأصدقاء.
روسيا تتحالف مع إيران في سوريا وتسمح لإسرائيل بالوقت نفسه بقصف حلفاء طهران
وهكذا، جاء الدعم الروسي لإيران في أثناء محادثات الاتفاق النووي بفيينا، مصحوباً بالإعلان عن رغبتها في أن تُبدي طهران بعض المرونة في مطالبها. وبالمثل، في الشرق الأوسط نفسه، حرصت روسيا على أن تحتفظ إيران بقوتها النارية وقدرتها على توجيه الضربات مباشرة، أو من خلال وكلائها، إلى الولايات المتحدة [وحلفائها] وإسرائيل، وفي الوقت نفسه، حافظت على تفاهم مع إسرائيل يقضي بإعطاء الأخيرة التصريح الدبلوماسي، وكذلك المجال الجوي، اللازمَين لكي تستهدف تل أبيب أعداءها في سوريا كلما رأت تهديداً أو فرصة ناشئة.
ونتيجة لهذه التفاهمات، قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية مجمعاً لحاويات الأسلحة والذخائر في ميناء اللاذقية (توجد فيه لروسيا قاعدة بحرية) في 28 ديسمبر/كانون الأول، ولم يتبع ذلك أي انتقاد علني من موسكو لإسرائيل.
وربما لم تكن مصادفة أن بوتين والرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، قد تحدثا عبر الهاتف قبل أيام قليلة من الحادث، وتطرقا في الحديث إلى آلية تفادي التضارب التي صاغتها روسيا وإسرائيل في عهد بنيامين نتنياهو، وأعادت الحكومة الإسرائيلية الجديدة تجديد الاتفاق عليها مع بوتين في أثناء زيارة نفتالي بينيت لسوتشي بروسيا في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
ولكن ها هي الأزمة الأوكرانية تعكِّر توازن المصالح الروسية بالشرق الأوسط
يبدو أن نجاح موسكو وشركائها في الشرق الأوسط في تحقيق التوازن بين مصالحهم المتضاربة يعتمد في جزء أساسي منه على قدرة روسيا على الحفاظ على حاجز يحول دون التداخل بين التهديدات الجيواستراتيجية التي تندلع في نطاقها القريب بالدول المجاورة والصراعات المتشابكة في منطقة الشرق الأوسط ذات المصالح الأمنية الحيوية بالنسبة إليها.
ومع ذلك، فإن ما يجري في الواقع يبرهن على أن هذا الحاجز مليء بالثقوب التي تسمح بالتأثير المتبادل لهذه الأزمات على بعضها، لأن روسيا تعتبر وجودها في الشرق الأوسط -وفي روسيا على وجه الخصوص- أمراً حيوياً لمصالحها الاستراتيجية الأوسع نطاقاً.
الأزمة الأوكرانية
علاوة على المقاتلات الجوية التي أرسلتها موسكو إلى ليبيا، وما يعنيه ذلك من إظهار لنفوذها في البحر الأبيض المتوسط، فإن أحد الأهداف البارزة من القواعد الجوية التي أنشأتها روسيا في حميميم وطرطوس في سوريا هو الإعلان عن نوع من التهديد الاستراتيجي الموجَّه نحو الجناح الجنوبي لحلف الناتو.
وهكذا، لم تكتفِ روسيا بنشر قاذفات القنابل الاستراتيجية طويلة المدى من طراز “توبوليف تي يو 22” Tu-22M3 والمقاتلات الاعتراضية من طراز “ميغ 31” MiG-31K مع صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت في قاعدة حميميم الجوية، بل نقلت موسكو في 25 ديسمبر/كانون الأول، أكثر من 20 مقاتلة وطائرة هليكوبتر من تلك القاعدة إلى المطارات في الحسكة ودير الزور بشرق سوريا.
تخدم هذه الخطوة غرضين لروسيا: أولهما دعم نظام الأسد في سوريا، وثانيهما هو البعث برسالة إلى الناتو بأن روسيا تستطيع تضييق الأمور عليه ومحاصرته في الشرق الأوسط، لاسيما في ظل مخاوف موسكو العامة بشأن التوسع المحتمل للناتو في دول أوروبية أخرى، أبرزها أوكرانيا.
معادلة روسيا الصعبة مع إيران وإسرائيل تتضمن عدم تسليح تل أبيب لكييف
أقامت إسرائيل علاقات دبلوماسية وثيقة مع أوكرانيا، وقد وقَّع البلدان اتفاقية تجارية كبرى في يناير/كانون الثاني 2019، وتشير التقارير أيضاً إلى أن علاقاتهما العسكرية قد تطورت وأن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أبدى اهتماماً بشراء نظام القبة الحديدية الإسرائيلي المضاد للصواريخ، لكن المسؤولين الإسرائيليين أحجموا عن الحديث في تفاصيل الأمر؛ لتجنب استعداء موسكو.
ومع ذلك، يقول المسؤولون الإسرائيليون إن إسرائيل وروسيا بينهما تفاهم يقضي بألا تعزِّز إسرائيل روابطها العسكرية مع أوكرانيا، وفي المقابل، تحدُّ روسيا من مبيعات الأسلحة لإيران. وفي أواخر عام 2019، أكَّد مستشار لنتنياهو أن روسيا ألغت صفقة مقترحة لبيع صواريخ لإيران، وأن إسرائيل ردَّت بالتعهد في مرتين بعدم بيع أسلحة لأوكرانيا.
وقد تبادر بتزويد إيران بالسلاح إذا لم تحصل على ما تريد في أوكرانيا
لكن إذا فشلت روسيا وإدارة بايدن في الاتفاق على حلٍّ للأزمة في أوكرانيا، فقد تلجأ موسكو إلى تخفيف القيود التي تكبح بها جماح إيران، أو سحبِ الضغوط التي تمارسها لدفع طهران إلى تقديم تنازلات في المحادثات النووية بفيينا.
والخلاصة من ذلك، أنَّ تفاقم الأزمة الأوكرانية ينطوي على تقويض للتوازن الثلاثي القائم بين روسيا وإسرائيل وإيران، حسب الموقع الأمريكي.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك تسريبات بأن إيران وروسيا ستوقعان اتفاقية تعاون أمني ودفاعي لمدة 20 عاماً بقيمة 10 مليارات دولار في يناير/كانون الثاني 2022، والتي ستشمل شراء مقاتلات Su-35 وصواريخ S-400 وقمر صناعي.
وذكر موقع Aviacionline أن إيران ستدفع 3 مليارات دولار تكلفة 24 Su-35s عبر مقايضتها ببراميل من النفط الخام.
ولا يمكن استبعاد أن تكون هذه التقارير في إطار مساعي روسيا للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة بعدم دعم أوكرانيا عسكرياً، عبر التلويح بتسليح إيران التي فعلياً لم تشترِ سوى قليل من الأسلحة من روسيا والصين على مدار العقود الماضية، خاصة في فترة حظر الأسلحة الذي فُرض عليها بسبب البرنامج النووي والذي انتهى في عام 2020، وفقاً للاتفاق النووي.
بعدما أقلقتها المسيَّرات التركية.. قد ترد على مساندة أنقرة لأوكرانيا بتصعيد في سوريا
معادلة التوازن بين تركيا وروسيا وسوريا وإيران لا تقل تعقيداً، فهي أيضاً تتضمن مصالح استراتيجية أساسية لتركيا في سوريا وخارجها، وقد أدَّى المساس بهذه المصالح بالفعل إلى توترات بين أنقرة وموسكو وطهران مراراً، حتى وإن اتفق الثلاثة على “عملية أستانا” التي تقودها روسيا للعمل على التوصل إلى حل دستوري للوضع في سوريا.
يقوم تصور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على التأسيس لوضع يمتلك فيه المواطنون السوريون في المستقبل صوتاً ويحظون فيه بنوعٍ من التمثيل السياسي، ويتضمن ذلك خلقَ مساحة لقادة التيار الإسلامي المعتدل في محادثات الأمم المتحدة الجارية حول التسوية السياسية بسوريا. لكن موسكو وطهران تخالفان تركيا في هذا الهدف، لاسيما القادة الإيرانيون الذين يخشون أن يفتح ذلك البابَ أمام مزيدٍ من النفوذ للجماعات الجهادية السنية.
إضافة إلى ذلك، فإن التوترات بين أنقرة وموسكو قد تتفاقم بسبب الخلافات المفتوحة بينهما على عدة جبهات، فقد ناصرت تركيا مطالب أوكرانيا باستعادة شبه جزيرة القرم، وعارضت ضم روسيا لها في عام 2014. والأمر الأشد إثارة لقلقِ موسكو هو أن تركيا -العضو الدائم في حلف الناتو- تدعم عضوية أوكرانيا في الحلف.
وجاءت صفقة الطائرات المسيَّرة التركية إلى أوكرانيا لتُضاعِف غضبَ موسكو، التي تعرف بالتأكيد أن الطائرات المسيرة التركية سبق أن ساعدت أذربيجان في الانتصار على القوات الأرمينية في حرب ناغورنو قره باغ، العام الماضي، إضافة إلى نجاحاتها في ليبيا وإدلب ضد سوريا، وفي الساحات الثلاث كانت الدفاعات الجوية التي فشلت أمام المسيَّرات التركية هي أنظمة روسية الصنع، وأحياناً كانت تُشغَّل من قِبل الروس أو تحت إشرافهم على الأقل.
وذكرت وكالة الأنباء الروسية TASS أن تركيا حصلت على وعود من الكرملين بأن محاولاتها للوساطة في حل النزاع الروسي-الأوكراني قد يُستجاب لها في ظل ظروف معينة، وهي أن “يكون الرئيس التركي قادراً على استخدام نفوذه لحثِّ كييف على الامتثال لالتزاماتها بموجب حزمة تدابير مينسك واتفاقيات باريس، وما إلى ذلك”.
ولكن رسالة موسكو باختصار، هي أنه ما لم تدعم أنقرة موقفها، فإن أي عرض تقدمه تركيا للوساطة سيُرفض رفضاً قاطعاً، وإن بطريقة دبلوماسية، حسب Responsible Statecraft.
في ظل الضغوط الاقتصادية الهائلة التي يتعرض لها أردوغان داخل بلاده، يُستبعد أن يقدِم على خطوات قد تثير عداوة موسكو، حيث إن الأخيرة شريك اقتصادي مُهم لتركيا، خاصةً في مجالي السياحة والطاقة.
ولكن، كما هو الحال مع إسرائيل، فإن الأزمة الأوكرانية جعلت الحفاظ على توازن العلاقات بين تركيا وروسيا (وضمنياً مع إيران) أمراً أشد صعوبة.
استمرار التوازن الحالي بالشرق الأوسط يتوقف على مصير المحادثات بشأن أوكرانيا
قد تعتمد خطوات تركيا وإسرائيل وإيران لإدارة العلاقات مع موسكو (والعكس بالعكس) في النهاية على مصير المحادثات الجارية بشأن أوكرانيا بين البيت الأبيض والكرملين. تطالب روسيا بأن تتخلى إدارة بايدن عن أي خطة لضم أوكرانيا إلى عضوية الناتو، وهو الطلب الذي تقول الولايات المتحدة إنه يعقِّد أي محاولة للتوصل إلى حل وسط، وقد أكد أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، في تصريحات له مؤخراً، أنَّ طلب موسكو غير مقبول لدى الولايات المتحدة وشركائها في الناتو.
في غضون ذلك، ستكون للصراع الأوكراني تداعيات لا تتوقف على الأوضاع بالشرق الأوسط والمحادثات الجارية في فيينا. وإذا كانت موسكو تُدرك أن عواقب فشل المفاوضات في فيينا قد تكون فادحة، فإنها قد تواصل إقناع طهران بالتنازل عن بعض مطالبها، لكن إذا احتدم الوضع في أوكرانيا، فإن روسيا قد تتنازل عن رغبتها في دفع إيران نحو التوصل إلى حل وسط.
ويبدو أن الخلاصة هي أنه حتى وإن لم تعد الولايات المتحدة تمتلك نفوذها السابق في منطقة الشرق الأوسط، فإن مسار العلاقات الأمريكية-الروسية يظل حاسماً لآفاق صنع السلام في الشرق الأوسط والمناطق المضطربة الأخرى من العالم.
عربي بوست