دمشق .. مطاردات في حق رجال الأعمال
في نهايات عام 2019 بدأ بشار الأسد هذه المطاردة الطويلة لرجال الأعمال، فإلى أين وصلت الأوضاع في بدايات 2022؟
لم تعد مطاردة.
بل حملة واسعة من الابتزاز والتضييق والمصادرات، وجمع الأموال من رجال الأعمال تحت شعار “محاربة الفساد”.
وفي الربع الأخير من 2019، أجرت حكومة النظام السوري تسويّة مع 30 من كبار رجال الأعمال في سوريا بعد اتهامهم بـ “الفساد والكسب غير المشروع والاستفادة من ظروف الحرب”.
لكنه كان إجراء شكليا يزيد من موارد أسرة الأسد، المثقلة بجراح الحرب.
تحكم العائلة سوريا لأكثر من 5 عقود بمساعدة أجهزة الأمن والجيش، فيما تهيمن الأقلية العلوية على شؤون البلاد.
العقد الأخير من هذه المدة شهد اندلاع الحرب الأهلية التي انطلقت شرارتها بسبب قمع أجهزة الأمن تظاهرات دعت إلى “إصلاحات” وللحد من سطوة أجهزة الأمن.
و”الإصلاحات” التي نادى بها أبناء سوريا هي مزيج من “الخبز والحرية والكرامة الإنسانية”، كما هتفت حناجر الربيع السوري في 2011.
المزيج الذي يندرج كله تحت عنوان واحد: محاربة الفساد الذي أكل الأخضر واليابس في بلاد الشام.
لكن الحرب الدامية سفكت الدماء وألقت الملايين خارج بيوتهم، ولم ينتصر فيها إلا.. الفساد.
وجذب الصراع السوري قوى عالمية واقليمية وأسفر عن مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين ودمار واسع أعاد سوريا عقوداً الى الوراء، لكنه يقترب من نهايته بعد أن عادت للأسد السيطرة على معظم أنحاء البلاد بدعم من حلفائه الروس والإيرانيين.
استعاد الأسد سيطرته، واستعادت أسرته التحكم في ثروات البلد عبر شبكة من المافيا العائلية التي لا تمرض ولا تموت، منذ عصر الأسد الأب.
هذا التقرير يستعرض نشأة وتطور “بيزنس” الفساد والنهب في عائلة الأسد، وحصاد العامين الأخيرين في مطاردة رجال الأعمال وتهديدهم واختطاف شركاتهم الكبرى، في تأسيس جديد للحكم الكليبتوقراطي، اللصوصيّ، الذي يحتل دمشق منذ عقود طويلة.
إبحث عن شجرة العائلة
في 2019 كانت الموجة الأولى من مطاردة رجال الأعمال
في ذلك العام القريب البعيد، “أعاد نظام بشار فتح ملف ثروات رجال الأعمال وهددهم عبر السلطات الأمنية وحاكم مصرف سورية المركزي، لدفع إتاوات وإلا سيصار إلى ملاحقتهم بتهم الفساد”.
حدث ذلك وقتها لأن خزينة الدولة “خاوية”، والنظام في حاجة لشراء الحبوب أو المشتقات النفطية، كما كشف مسؤول سوري سابق لصحيفة العربي الجديد.
طلقة التحذير الأولى التي تلقاها رجال الأعمال جاءت على لسان بشار نفسه، حين توعّد رجال الأعمال في كلمة أمام مجلس الشعب، قال فيها “مستمرون في استرداد الأموال العامة المنهوبة بالطرق القانونية وعبر المؤسسات، ولن يكون هناك أي محاباة لأي شخص يظن نفسه فوق القانون”.
إذن استثمارات رجال الأعمال هي أموال منهوبة.
وبشار يتعهد بأنه سوف يستردها.
وقد فعل تقريبا.
عمليات الابتزاز ودفع الإتاوات مستمرة منذ بداية الحرب، لكنها استفحلت وخرجت للعلن، منذ التقى حاكم مصرف سورية المركزي، حازم قرفول قبل أشهر، رجال أعمال بفندق بدمشق وليس بمكتبه، ونقل لهم الرسالة والوعيد.
كان الأسد يسمح لرجال أعمال بزيادة ثرواتهم عبر تجارة الحرب، مقابل إتاوات تساهم في مواجهة الأزمات المتتالية بسبب الحصار والعقوبات والمقاطعات والحرب.
دفع رجال الأعمال صفقات لشراء القمح من روسيا وأوروبا، والوقود من إيران وجهات أخرى.
كما فرض النظام مبالغ طائلة على رجال أعمال، كانوا محسوبين بالسابق على رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد، أي أنهم مقربون من النظام نفسه.
أسماء كثيرة تعرضت للابتزاز.
بعضهم كان يعمل بأموال آل الأسد، مثل سامر فوز ووسيم قطان ومحمد حمشو وغسان القلاع وسامر الدبس، إضافة إلى رجال أعمال من حمص وحلب.
كل ذلك في 2019 كان يمهد للفترة الحالية، التي تظهر فيها وجوه جديدة في شبكة تقودها أسماء الأخرس زوجة بشار الأسد.
أما البطولة المطلقة في فيلم النهب الجديد فهي للشقيقين يسار ونسرين إبراهيم، كما نشرح بعد قليل.
ففي 16 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1970 قاد الأسد ما يسمى بـ “الحركة التصحيحية” حيث جرى اعتقال القيادي البعثي والحاكم الفعلي لسوريا صلاح جديد والرئيس نور الدين الأتاسي وعدد من القيادات البعثية.
وبعد ذلك تم تعيين نقيب المعلمين أحمد الخطيب رئيساً للدولة وتولي حافظ الأسد رئاسة الوزراء وصار أميناً عاماً لحزب البعث العربي الاشتراكي.
وفي 22 فبراير/ شباط من عام 1971 تم إلغاء ازدواجية الحكم وتسلم الأسد مهام رئيس الدولة، وفي 12 مارس/ آذار ثبت استفتاء شعبي الأسد في منصبه رئيساً للدولة. ومنذ ذلك الحين تحكم أسرة الأسد سوريا، منهياً بذلك مرحلة الانقلابات التي كانت سوريا تعيش في ظلها منذ الاستقلال عام 1946.
تزوج حافظ الأسد أنيسة مخلوف، وأنجبا ابنة و4 أبناء هم بشرى وباسل وبشار ومجد وماهر.
وكان باسل، نجل حافظ الأكبر، هو الذي تم إعداده لتولي السلطة، لكن مصرعه في حادث سيارة عام 1994 دفعت بشقيقه طبيب العيون بشار إلى المقدمة. وقد تولى بشار الأسد السلطة عام 2000 بعد وفاة والده، وهو ما عارضه عمه رفعت الأسد.
رفعت الأسد: سفاح حماة يشتري العفو بالأموال المسروقة
لا يعرف أحد خارج الأسرة الحاكمة حقيقة ما الذي يحدث وراء أبواب النظام المغلقة. فقد جعل والد بشار سوريا دولة مغلقة بعد أن انفرد بالسلطة فيها.
وتنحدر أنيسة مخلوف من أسرة علوية أغنى من أسرة الأسد، الذي نهض من الفقر بعد التحاقه بالجيش. وكان حافظ شخصاً شديد الريبة والشك، وكان عازماً على الاستيلاء على الحكم. وأحاط نفسه برجال من طائفته العلوية، لكن أسرته كانت في قلب النظام الذي أسسه.
فقد كان شقيق حافظ، رفعت، ذراعه الأيمن، وتولى مهام كبيرة، مثل سحق تمرد جماعة الإخوان المسلمين في حماة في عام 1982. فقد قاد رفعت كتائب “سرايا الدفاع” المكونة من العلويين بشكل أساسي وسحق الجماعة ودمر معظم أحياء مدينة حماه وقتل ما بين عشرة وعشرين ألفا من سكانها.
ولكن بعد عام، وعندما كان حافظ يرقد في المستشفى بسبب مشكلات في القلب، أرسل رفعت الأسد دباباته إلى شوارع دمشق في محاولة للاستيلاء على السلطة. ولكن المحاولة باءت بالفشل بسبب وقوف الجيش والقوات الخاصة الى جانب الأسد. ولم يكن مصير رفعت السجن أو القتل، بل النفي، حاملاً معه عشرات ملايين الدولارات.
ولم تكن مفاجأة أن يكون رفعت الأسد أول من عارض خلافة بشار لوالده. فقد قال متحدث باسم رفعت حينئذ إن ما يحدث في سوريا مهزلة ومسرحية غير دستورية وإنه انتهاك حقيقي للقانون والدستور. وكان رفعت قد جرد من منصبه كنائب للرئيس في عام 1998.
وعاش رفعت في المنفى في أوروبا حياة مرفهة متنقلا بين فرنسا وجنوب إسبانيا، معتمداً على الأموال الضخمة التي وفرتها له إمبراطورية تجارية في العواصم الأوروبية.
في السابع عشر من حزيران/يونيو عام 2020، قضت محكمة فرنسية بسجن رفعت الأسد لأربع سنوات بعد إدانته بتهم فساد، وشملت قائمة الاتهامات التي أدين بها رفعت تبييض الأموال واختلاس أموال تعود للحكومة السورية. كما أمرت المحكمة بمصادرة عقاراته في فرنسا وتقدر قيمتها 100 مليون دولار.
وفوجئ السوريون والعالم معهم بنبأ العفو الضمني عن سفاح حماة، وإعلان صحف النظام عن خطوة إنسانية من بشار تجاه عمه، بالسماح بعودته لتلافي سجنه في باريس. وبالفعل وصل الرجل إلى دمشق في أكتوبر/ تشرين أول 2021.
وهي صفقة واضحة بين رجل متهم بالفساد تطارده الشرطة والأحكام القضائية، وبين رئيس في حاجة إلى أمواله.
اشترى رفعت الأمان من السجن الفرنسي، وتبييض سمعته واسمه كرجل يعارض في المنفى.
وفي المقابل انتعشت خزائن بشار، وظهر كأنه رجل التسامح والمحبة.
لكن جميع من تابعوا الحدث، كما يبدو من التغريدات التالية، طلبوا محاسبته عن الأرواح التي أزهقها في مذابح نفذها حين كان بالسلطة.
وعن كل الأموال التي نهبها من عرق السوريين، وهرب بها، ثم عاد ببعضها.
عندما تولى بشار السلطة عام 2000، اضطر في البداية للعمل مع الزمرة التي كانت تحيط بوالده، والتي ترأس العديد من أفرادها مؤسسات الدولة الأساسية مثل الأجهزة الأمنية والجيش لعقود.
ولكن من أجل تأكيد استقلاليته، دفعهم ببطء إلى الهامش مفضلا مجموعة مستشاريه المقربين.
ومن خلال إزاحة أقران والده، فرض بشار النخبة الخاصة به على المجتمع والدولة.
وكان مدى سيطرة بشار على السلطة موضع نقاش كبير حتى بداية الانتفاضة السورية في مارس/آذار من عام 2011. وكانت هناك تساؤلات حول ما إذا كان بشار خاضعاً لتأثير “البارونات” الأقوياء وأفراد العائلة بما في ذلك شقيقته بشرى وزوجها الراحل آصف شوكت وشقيقه ماهر.
وكان الكثيرون يعتقدون أن بشار إصلاحي بطبيعته وأن لديه النية في تدشين مرحلة انفتاح في سوريا لكنه كان مقيداً من قبل زمرة والده.
لقد كان ذلك فهماً سطحياً وخاطئا لشخصيته، الذي كان يتعمد الظهور بمظهر البسيط والمتعاطف والمفكر، لكنه كان غير ذلك، كما ذهب الفيلم الوثائقي “بيت الأسد.. عائلة حاكمة خطيرة”، والذي بثته بي بي سي قبل أعوام.
فيلم رأت فيه صحف بريطانية “عملية تأريخ مذهلة لأسرة مستبدة فضلت الثراء على حساب رفاهية الشعب السوري”.
وقالت ديلي تليغراف إن هناك أوجه شبه كثيرة تجمع الفيلم بمسلسل الدراما والجريمة الأمريكي آل سوبرانو وآل كورليوني الذي يدور حول زعماء المافيا في الولايات المتحدة مع فارق عدد الضحايا الهائل.
الفارق لصالح بشار بالطبع.
وفي سنوات الحرب العصيبة ظهر الأغنياء الجدد.
الفاسدون الجدد.
صنعت الحرب رجال أعمالٍ بارزين جمعوا ثرواتٍ طائلة مستغلين موقفهم الداعم لرئيس النظام السوري بشار الأسد من الاحتجاجات الشعبية، التي اندلعت في البلاد منتصف آذار/مارس من العام 2011، في حين تشهد العملة السورية تدهوراً كبيراً في سعر صرفها أمام العملات الأجنبية.
وبينما كان يتصدر اسم رامي مخلوف، ابن خال الأسد ورجال الأعمال المعروف والمعاقب أوروبياً وأميركياً، المشهد الاقتصادي في البلاد لسنوات، ظهرت أسماء أخرى لم يكن يعرفها أحد قبل الحرب الحالية ومنهم سامر فوز ومحمد حمشّو وحسام قاطرجي مع أخوته وآخرين.
ويقول خبراء اقتصاديون إن “رجال الأعمال الجدد في سوريا جمعوا ثرواتهم بعدما لعبوا دور الوسيط بين حكومة الأسد ومختلف الجماعات العسكرية التي فرضت سيطرتها على عدّة مدنٍ في البلاد”.
الوجوه الجديدة استفادت من النظام وأفادته.
التفوا على العقوبات الدولية على سوريا.
ووسعوا تجارتهم خاصة مع الدول الداعمة للنظام السوري مثل إيران، وروسيا، والصين، وبعض الدول العربية.
الأكثر من ذلك، استفادوا في تجارتهم من مخلفات المدن والقرى والبلدات المدمرة، وخاصة الحديد والفولاذ والنحاس، والذي صار يصهر ويباع في الأسواق المحلية والإقليمية، بحسب ما أكدته تقارير عدة نشرها ناشطون في المجال الحقوقي تحدثت عن شركات تشتري المسروقات والأثاث والمعادن.
رامي مخلوف: زعيم المافيا أصبح في الإقامة الجبرية
في مايو/آيار من عام 2020 سجل الملياردير ورجل الأعمال رامي مخلوف، أحد أفراد العائلة الحاكمة في سوريا، ظهورا نادرا في مقطع فيديو شخصي.
ظهر رامي في سترة إيطالية الصنع غالية الثمن، وكان يجلس في ركن في بيته أمام كومة من خشب شجر الزيتون المرتبة بطريقة فنية استعداداً للشتاء.
في المقطع القصير ناشد مخلوف ابن عمته الرئيس السوري بشار الأسد، من أجل التدخل لإنقاذ شركاته من الانهيار.
أنكر مخلوف اتهامات التهرب الضريبي، قائلا إن الحكومة تطالبه بدفع مئة مليون دولار ضرائب متأخرة على شركة الاتصالات التي يمتلكها “سيريتل”، التي هي إحدى اثنتين فقط من نوعها في سوريا.
رامي مخلوف ظهر في الفيديو وهو يحدق في العدسة، ويتكلم بصوت هادئ، وكأنه يهمس بما يقول وقد بدت لحيته أكثر بياضاً بعكس الأبهة التي كان عليها في الصور، حينما كان يتمتع بالثروة والسلطة، ويحصي ملياراته، ليس باعتباره من أثرياء النظام فقط، بل أغنياء أسرته أيضاً.
بدأت الترتيبات المالية بين عائلتي الأسد ومخلوف مع صعود الآباء. فعندما استولى الأسد على السلطة في انقلاب عسكري عام 1970 لجأ إلى محمد مخلوف شقيق زوجته انيسة، لإدارة الأموال التي تدرها صناعات تسيطر عليها الدولة وعمولات العقود، والتي من شأنها دعم حكمه.
وكان محمد، المعروف بلقب أبو رامي، يتمتع بمهارات مالية يفتقر إليها حافظ، وحصد عوائد كبيرة من هذه العلاقة.
ففي السبعينيات من القرن الماضي، عُيِن رئيسا للمؤسسة العامة للتبغ التي كانت تحتكر صناعة وتجارة السجائر والتبغ في سوريا. وبعد عقد من الزمان، وسع مصالحه التجارية بصفته رئيساً للبنك العقاري المملوك للدولة، ولعب دور الوسيط في العقود الحكومية.
ونشأ الأبناء معا وكانوا مقربين من بعض. وعندما كان رامي شاباً اعتاد الذهاب إلى منزل الأسد وكان يفتح الثلاجة مثل أي فرد من أفراد الأسرة.
رامي في عمر الرئيس تقريباً، في أوائل الخمسينيات، وداعم قوي للنظام، وهو لا يتكلم علانية عن أسرته ولا عن السياسة ولا عن أعماله.
رجل في ظروفه من الصعب أن يصبح فقيرا في سوريا، التي تقول الأمم المتحدة إن 80 في المئة من سكانها يعيشون تحت خط الفقر.
وحوالي 10 ملايين شخص ليس لديهم ما يكفي من طعام.
ونصفهم فقدوا منازلهم بسبب الحرب.
واشتهر رامي بتقاضيه عمولة عن كل صفقة مهمة في سوريا، ولهذا لقبه البعض بـ”السيد خمسة في المئة”.
وتعمل شركاته في مجالات النفط، والتعمير والتجارة لكن مصدر ثروته الأساسي هو شبكات الهواتف المحمولة في سوريا.
وتتهم شركاته بأنها مدينة للدولة بمبلغ 180 مليون دولار، قيمة ضرائب متأخرة. وهذا المبلغ لا يعتبر كبيراً بالنسبة إلى رجل بهذا الثراء. وحتى ابنه محمد، الذي يعيش في دبي، يوصف بأنه ملياردير، كما يوحي مظهره على الإنترنت.
رامي يعيش في إحدى ضواحي دمشق المفضلة لدى كبار الأثرياء في سوريا على الطريق المفضي إلى بيروت. لكن الفيديو الأخير جاء ليؤكد الشكوك حول توتر العلاقات بين الطرفين خاصة بعد أنباء عن وضع مخلوف قيد الاعتقال والإقامة الجبرية.
عرض رامي دفع الضرائب التي تطالبه بها الدولة، ولكن يبدو أن ابن عمته بشار قد وضع عينه على إمبراطورية رامي في مجال التجارة والأعمال.
فقد أصبحت خزائن سوريا خاوية بعد ما يقارب عقد من الحرب التي دمرت معظم أنحائها.
في السابق كان رامي مخلوف هو المتهم بنهب الأرباح ولكن بعد تغيير الإدارة وإخراجه منها لم يتغير شيء، بل إزداد الأمر سوءًا. وكشفت تقارير محلية في سوريا عن نهب نظام الأسد حقوق المساهمين في شركة سيريتل لاتصالات الهاتف المحمول، ورفضها توزيع الأرباح عليهم باستثناء النزر اليسير.
ورغم زيادة أرباح الشركة ترفض الإدارة منح المساهمين مكاسب أسهمهم عن عامي 2019 و2020، واكتفت فقط بتقديم 350 ليرة سورية من الأرباح المدورة التي تبلغ 5800 ليرة عن كل سهم.
وفي صيف 2021 وفي حزيران الماضي، أوصى الحارس القضائي للشركة بتوزيع 700 ليرة فقط لكل سهم وذلك من الأرباح المدورة عن السنوات السابقة حتى عام 2018 ضمناَ.
دخلت MTN السوق في عام 2008 من خلال الاستحواذ على شركة بدأها رجل الأعمال اللبناني نجيب ميقاتي، الذي يشغل الآن منصب رئيس وزراء لبنان. استثمرت MTN بكثافة واستحوذت على ما يقرب من 45 بالمئة من سوق الهواتف المحمولة السورية.
بعد ذلك، في أواخر عام 2019 ، أبلغت الهيئة الناظمة للاتصالات في سوريا الشركة أن الترخيص لمدة 20 عاماً الذي حصلت عليه قبل أربع سنوات فقط، سيتم إلغاؤه دون دفع مبلغ إضافي قدره 40 مليون دولار. قال مسؤول تنفيذي سوري ثان إنه عندما رفضت MTN اشتد ضغط النظام.
في أيار 2020 تم القبض على المسؤولين التنفيذيين للشركة.
تم اعتقال هؤلاء الموظفين الخمسة الكبار، بمن في ذلك أربعة رجال وامرأة، في مداهمات متزامنة الساعة 2 صباحاً واقتيدوا إلى سجن يديره فرع الأمن الداخلي بمديرية المخابرات العامة، وفقاً لسوريين مطلعين على القضية تم اعتقال موظف سادس في اليوم التالي من مكتبه في دمشق.
وعلى الفور بدأت MTN التفاوض لبيع حصتها البالغة 75% في عملياتها في سوريا إلى شركة تدعى TeleInvest يسيطر عليها يسار إبراهيم، مساعد الأسد، الذي كان قد استحوذ سابقاً على نسبة الـ 25% الأخرى من رجل الأعمال السعودي الراحل صالح كامل.
في تقرير قصير لوكالة رويترز في صيف 2020 الساخن، أعلنت فيه استيلاء “مساهم محلي مقرب من أسماء الأخرس زوجة بشار الأسد”، على حصة شركة MTN في شركة الاتصالات السورية التي تحمل اسمها.
ونقل موقع الميادين عن أحد معارضي الأسد أن الشركة ناجحة جداً في سوريا، ودخلها في السنوات الأخيرة الماضية أعلى من دخل شركة “سيريتل” التي يملكها رامي مخلوف.
كان هذا سببا لتأجيج الخلاف بين آل الأسد ومخلوف، واعتبرت أسماء الأخرس أن الأخير لا يدير الأموال الموكل بها بشكل جيد ويسمح للشركات الأخرى بالتفوق عليه.
بعد استعادة عائلة الأسد إدارة شركة “سيريتل” من بوابة المحكمة الإدارية، تستحوذ اليوم بشكل كامل على الشركة الثانية المشغلة للهاتف الخليوي في سوريا.
لكن سادة قصر الشعب في دمشق حيث يحكم بشار شعبه، لا يعترفون بأي انعكاسات سلبية على السوق والاقتصاد المحلي، الذي بات طارداً حتى للمستثمرين الأكثر مرونة وطواعية تجاه النظام.
ولم يعد الولاء للنظام يكفي لحماية المستثمر من جشع الأسرة الحاكمة، ورغباتها التي تنتهي في الاستيلاء على كل شيء.
في صيف 2020، وصفت صحيفة لوموند Le Monde الفرنسية زوجة الديكتاتور السوري بأنها “واحدة من أسوأ المستفيدين من الحرب في بلادها”، مستعرضة جهود أسماء لتجميل صورة نظام زوجها من خلال العديد من الإستراتيجيات، تعاون معها في ذلك صحف أوروبية وأمريكية”.
ونقلت عن البروفيسور الفرنسي الخبير بشؤون الشرق الأوسط جان بيير فيليو، أنها “السيدة الأولى في القمع والفساد”.
وتحدثت صحف غربية أخرى عن تبادل الأدوار بين بشار وأسماء، فبينما هو يتابع تدمير مدينة حمص، كانت تهتم هي بالتسوق على الإنترنت وتزيين مقر إقامتها الصيفية على الساحل السوري.
التقارير كشفت أن جمعية أسماء الأسد الخيرية، المعروفة بالصندوق السوري للتنمية، كانت وسيطًا إلزاميًا للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعليهما التعاون معها إن أرادا الحفاظ على أنشطتهما في الأراضي السورية، وكانت أحد أبرز المنافذ لتلميع النظام دوليًا من جانب، ونهب أموال الشعب من جانب آخر.
وكان للعقوبات الاقتصادية المفروضة تأثيرها الاقتصادي الملموس في منع تحويل زوجة الأسد وعائلتها أي أموال من أوروبا أو الخليج للنظام وميليشياته التي تقتل السوريين من دول أوروبا أو الخليج، وهو ما تضمنه بيان الخارجية الأمريكية لتبرير فرض عقوبات عليها، حيث جاء نصًا “ثروات عائلة أسماء الأسد غير المشروعة تراكمت على حساب الشعب السوري من خلال السيطرة على شبكة واسعة غير مشروعة مع روابط في أوروبا والخليج وأماكن أخرى”.
بدأ اسم يسار إبراهيم وشقيقته نسرين بالتداول اعلامياً منتصف العام 2018، لدى تكليفه بمتابعة مكتب الشهداء في وزارة الدفاع.
لكن “هذه المهمة لم تكن سوى اختبار مبدئي من بشار الأسد وزوجته أسماء للوقوف على مدى إمكانية تسليمها ملفات أكبر”، حسب مدير منصة “كلنا شركاء” المعارضة، أيمن عبد النور، حيث كانت الخلافات مع عائلة مخلوف ما تزال في بدايتها ولم تخرج إلى الإعلام بعد.
وهكذا أصبح يسار هو خليفة رامي مخلوف.
هو الوجه الجديد الذي نجح في كل الاختبارات.
أدار ملف شهداء الجيش وسعى لتطوير المكتب من خلال فتح فروع جديدة له في المحافظات.
فرض إتاوات على رجال الأعمال الجدد الذين ظهروا في فترة الحرب كمساهمة في صندوق تمويل المكتب.
أسس عشرات الشركات بإسمه الشخصي هو وشقيقته نسرين، مثل شركة “البرج للاستثمار”، وشركة “زيارة للسياحة” والشركة “المركزية لصناعة الاسمنت” و “كاسل انفستمنت” القابضة و”مؤسسة بازار” و”شركة وفا للاتصالات” و”العهد للتجارة والاستثمار” وغيرها.
وبالتزامن مع الضغط الذي باشرت عائلة الأسد بممارسته على رجل الأعمال رامي مخلوف وعائلته، لاسترداد أموال الأسرة الحاكمة التي يستثمرها لهم، تم تعيين يسار إبراهيم مديراً للمكتب المالي والاقتصادي في رئاسة الجمهورية.
ومن شرفة مكتبه العالي الجديد، أصبح يسار يتحكم في كامل حركة الأموال والاقتصاد في سوريا.
وصفته وزارة الخزانة الأمريكية إبراهيم بأنه “مساعد” الأسد، وأنه أبرم صفقات فاسدة تثري الأسد باستخدام شبكاته في جميع أنحاء الشرق الأوسط وما وراءه، بينما يموت السوريون من نقص الغذاء والدواء”.
وقد تباينت النظريات حول سبب تنامي نفوذ إبراهيم.
البعض يقول إنّ والد إبراهيم كان مستشاراً لحافظ الأسد، وأنّ عائلته من نفس طائفة العلويين التي تنتمي إليها العائلة الحاكمة.
بينما يعتقد آخرون أنّ أسماء الأسد هي راعية إبراهيم الأساسية.
يقول جويل رايبورن، الذي كان المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا حتى العام الماضي: “لقد كسب ثقة الأسد بسبب هذه العلاقة. ثم تولّى مهام رجل المال تدريجياً”.
يستقر إبراهيم الآن على قمة كوكبةٍ ضخمة من الشركات في قطاعات النفط، والغذاء، والبناء، وغيرها من القطاعات.
والأهم من ذلك أنّ إبراهيم اكتسب نفوذاً شبه احتكاري على سوق الاتصالات السورية، بعد أن أطاح بالعائلة المالكة لشركات خدمات الدعم، وانتزع السيطرة على سيريتل من يد ابن خال الأسد، وصادر مقاليد الحكم من MTN بعد استسلام الشركة الأم في صيف 2021.
على مدار العامين الماضيين، قام الأسد ونظامه الذي يعاني من ضائقة مالية بمداهمة أو الاستيلاء على عشرات الشركات، بما في ذلك شركات أجنبية وعائلية نجت من الحرب.
تمت مداهمة الشركات التي نجت من الحرب من قبل فرق من “مدققي حسابات” النظام وعملائه، الذين يبحثون في حساباتهم عن مخالفات ضريبية وجمركية مفترضة، أو غيرها من الذرائع لغرامات باهظة.
تم اعتقال قادة الأعمال الذين علقوا من قبل الأسد والضغط عليهم لتقديم الأموال للجمعيات الخيرية المفترضة التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها صناديق الأسد، حسب تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
هذه التحركات هي جزء من “انتزاع الأموال على غرار المافيا”.
ترقى الحالات الأكثر وقاحة إلى عمليات أشبه بقطع رأس للشركات، حيث يتم إجبار كبار المسؤولين التنفيذيين على الاستقالة تحت الإكراه واستبدالهم بالموالين للأسد. ومن بين هؤلاء الوافد الجديد نسبياً، يسار إبراهيم، الذي أحكم سيطرته خلال عامين على إم تي إن، وغيرها من الشركات التي يستهدفها الأسد.
الدافع وراء ذلك هو الضغط المالي المكثف على نظام أفلس بسبب الحرب، والديون المرهقة لإيران وروسيا، وانهيار القطاع المالي في لبنان المجاور، واستمرار العقوبات الاقتصادية من الغرب.
الأسد يحتاج إلى المال لسداد رواتب أجهزته العسكرية والأمنية، وشراء الوقود والغذاء للعاصمة ومناطق أخرى لا تزال تحت سيطرته، ومكافأة بعض النخب السورية التي ظلت موالية له خلال الحرب.
قال روبرت فورد، الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في سوريا من 2011 إلى 2014: “في عصر الكعكة الاقتصادية الآخذة في الانكماش، يصبح القتال من أجل الموارد أكثر شراسة”، مضيفاً أن مناخ اليأس “يمنح الأسد في الواقع مزيداً من النفوذ على اعتبار أن قلة قليلة من المنافسين المحتملين لديهم ما يلزم من الإمكانيات المادية وغيرها “للطعن في سيطرة الأسد”.
اللعبة تتكشف.
الأسد عزز سيطرته بشكل فعال على الأجهزة الأمنية والاقتصاد في البلاد لدرجة أنه يستعد للخروج من الحرب بقبضة أقوى على السلطة مما كانت عليه عندما بدأت.
لكن بعد عقد من الصراع، أصبح مسؤولاً عن دولة ممزقة ومدمرة، ما يقرب من نصفها خارج سيطرة حكومته، وبلدات مدمرة بالكامل فيما فقدت العملة 85 بالمئة من قيمتها منذ بداية الحرب.
حتى قبل الحرب، كان يُنظر إلى سوريا على نطاق واسع على أنها دولة كليبتوقراطية تٌثري فيها عائلة الأسد نفسها من خلال استغلال الوصول إلى الأصول التي تسيطر عليها الدولة، وفرض شراكات طفيلية في قطاع الأعمال.
والكليبتوقراطية هي حُكم اللصوص، حكومة يستخدم قادتها الفاسدون السلطة السياسية للاستيلاء على ثروة شعوبهم.
لكن هذا النهج انقلب بشكل كبير خلال العامين الماضيين، حيث انقلب الأسد على أذرعه الموثوق بهم سابقاً وتخلى عن أي ذريعة بشراكة ريادة الأعمال.
وقد أسهمت عمليات الابتزاز في تقوية روايات النظام.
وزعمت وزارة المالية أن الإيرادات الحكومية تضاعفت ثلاثة أضعاف خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري. لكن الأسد بهذه الطريقة قد يُقوّض الآفاق المستقبلية بعيدة المدى لبلاده بحسب شعار، الذي قال: “يعتقد الأسد أنّ بإمكانه إكراه رجال الأعمال على فعل ما يريده، ولكن الاقتصادات لا تسير بهذه الطريقة. فبهذه الطريقة سيهرب رجال الأعمال”.
وشهدت البلاد بالفعل نزوحاً جماعياً يُقدّر بالآلاف لملاك الشركات، وفقاً للتقارير الإعلامية السورية. وغالبيتهم أخذوا ما تبقى من رؤوس أموالهم وخبراتهم إلى مصر وغيرها من الدول العربية.
بينما ما يزال الأسد مختبئاً داخل حيٍ راقٍ في دمشق، المدينة التي لم تتضرر من الصراع إلى حدٍ كبير.
في حين تواصل النخب التي تربّحت من الحرب تناول العشاء والاستمتاع بالمشروبات داخل الحانات والمطاعم.
ولا عزاء لأبناء سوريا في سنوات المتاهة “الأسدية”، التي بدأت قبل عقود، ولا تزال مستمرة.
*المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن راي الموقع