أحمد يحيى الديلمي

من خلال السيناريو الذي وضعت أمريكا استطاعت أن تقنع مصر للقيام بدور تآمري أثناء وجود الوفد اليمني في القاهرة بشقيه الممثل لجبهة التحرير والجبهة القومية حيث كانت الأجواء تصب باتجاه خدمة الطرف اليساري الممثل للجبهة القومية وتسليمه الحكم فيما سُمي في وقت لاحق بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، أي أن كلاً من بريطانيا ومصر تخلوا تماماً عن جبهة التحرير ووضعوا السجادة الحمراء أمام الجبهة القومية .

ومن خلال رواية رجل أعمال يمني أفاد بأن العملية تمت كما يلي : تخلت المخابرات البريطانية عن الدور وأعطت المخابرات المصرية الفرصة لأن تلعب لعبتها في هذا الجانب فقد تعرض وفد جبهة التحرير لمضايقات أثناء تواجده في القاهرة ومنع أعضاءه من مغادرة مقر سكنهم في أكثر من مرة بعكس الوفد الممثل للجبهة القومية ،الغريب أن هذه التحركات كانت تتم والاتحاد السوفيتيي صاحب المصلحة الحقيقة بعيد عنها وكأن الأمر لا يعنيه ، وأصبحت كلاً من أمريكا وبريطانيا ومصر يخدمون هذا التوجه ويسعون إلى ترجمته عملياً في أرض الواقع ، أليست مفارقة عجيبة أن يحدث مثل هذا الأمر الذي بدأ فيه الاتحاد السوفييتي أخر من يعلم مع أنه المستفيد ، لكن الأجواء والمصالح تطلبت حدوث هذا الأمر وأن تصبح الجنوب بؤرة للتطرف اليساري لتجاوز بعض التحولات التي كانت قد حدثت في الواقع وأهمها :

1-   سيطرة السعودية على الشطر الشمالي من الوطن وتحكمها بالقرار بعد ما سُمي بالمصالحة الوطنية .

2-   التقارب الذي حدث بين جبهة التحرير ودول الخليج وعلى رأسها السعودية .

3-   زيادة تدفق النفط من منطقة الخليج والتمهيد لحدوث الطفرة المالية التي حدثت فيما بعد .

هذه العوامل مجتمعة حتمت إيجاد نظام يساري موالي للإتحاد السوفييتي وينتهج الماركسية المتطرفة كي يمثل بعبع كبير يجعل دول الخليج ترتمي إلى أحضان أمريكا وبريطانيا مكرهه ، كما سبق أن أشرنا فأمريكا لا تزال حتى اليوم تتعامل مع المنطقة من خلال إرشادات المخابرات البريطانية والاستفادة من خبرتها الطويلة التي أكتسبها أثناء تواجدها في المنطقة ، وهي التي أشارت إليها بضرورة أن يكون الحكم في جنوب اليمن يساري متطرف ، وعلى نفس المنوال تم غرس نظام آخر في الصومال وحتى في أثيوبيا حينما قامت الثورة على الإمبراطور هيلاسلاسي كان الحكم الجديد يساري متطرف وعلى صلة وثيقة بالنظام القائم في الجنوب ، وكما قال جورج حاوي أمين عام الحزب الشيوعي اللبناني لقد أصبحت منطقة القرن الأفريقي على وشك أن تكون جغرافيا شيوعية بحته ، لكن الرياح تأتي بما لا تشتهيه السفن كما يقال  .

نعود إلى رواية رجل الأعمال اليمني كما قال أنه تكلف بإخفاء جوازات وفد جبهة التحرير في اليوم الذي وصلت فيه طائرة الأمم المتحدة لنقل الوفد اليمني إلى جنيف وحطت في مطار القاهرة ، وكان الموعد للالتقاء مع وزير خارجية بريطانيا في جنيف في اليوم التالي، ويحتم وصول الوفد اليمني في نفس الليلة إلى جنيف لانطلاق المفاوضات ، هذه النقطة بالذات سهلت إكمال عملية التآمر ، فحينما اكتشفت المخابرات المصرية اختفاء جوازات وفد جبهة التحرير اقترحت سفر نصف الوفد الممثل للجبهة القومية على أن يتم إعداد جوازات جديدة لممثلي جبهة التحرير وإرسالهم في اليوم التالي إلى جنيف ، وبالفعل سافر وفد الجبهة القومية وانطلقت المباحثات وتم التوقيع على وثيقة الجلاء مع الوفد البريطاني ، وممثلي جبهة التحرير لا يزالون في الطائرة المتجهة إلى جنيف ، أي أنهم وصلوا بعد فوات الأوان وبعد أن أكملت الجبهة القومية المحادثات واستلمت شئون الحكم من الجانب البريطاني ، هذه الخطوة ساعدت الوصول إليها ظروف الواقع في عدن ، إذ كانت الجبهة القومية قد سيطرت على مقاليد الأمور عملياً واستطاعت أن تحجم دور جبهة التحرير قبل أن يقلع أخر جندي بريطاني من عدن ، وبالتالي كانت النتيجة تمكن الجبهة القومية من استلام الحكم بهيكلها الذي يضم عدد من الأحزاب اليساري والقومية ، لكنه تم اختزالها فيما بعد إلى الحزب الاشتراكي اليمني .

رواية رجل الأعمال هذه أكدها الرئيس الأسبق للشطر الجنوبي الأستاذ علي ناصر محمد في مقيل بمنزل المرحوم اللواء / مجاهد أبو شوارب ، أثناء حديث جانبي بينه وبين نفس رجل الأعمال إذ قال له الرئيس علي ناصر أنت الوحيد الذي ظلت تعمل في الجنوب ولم تأمم مصالحك كما الآخرين نتيجة هذه الخطوة التي قمت بها والتي شكلت عامل دعم للجبهة القومية .

هكذا إذاً استطاعت بريطانيا أن توجد بعبع في المنطقة أخضع دول الخليج لإراداتها وإرادة أمريكا، وكما نعلم أن السعودية وعلى مدى أكثر من عقد من الزمن كانت تدعم حرب أهلية في المناطق الوسطى من الوطن تحت مسمى مكافحة المد الشيوعي وهي التي مهدت لدخول  حركة الإخوان المسلمين إلى اليمن وأنشأت فيما بعد ما سُمي بالجبهة الإسلامية تحت ذريعة مقاومة المد الشيوعي في الجنوب والذي كانت تتزعمه الجبهة الوطنية الديمقراطية في المناطق الوسطى ، أي أن بريطانيا غادرت عدن من الباب وعادت إليها من النافذة ولا تزال إلى اليوم تحاول العودة الكلية إلى هذه المنطقة ، وهذا يضع علامة استفهام كبيرة أمام ما تروج له كلاً من الإمارات والسعودية عن التواجد في عدن وغيره ، فكلاهما للأسف يمثلان حصان طرواطه المكلف بتمهيد الطريق لهذه الدولة العجوز ، وهذا ما لمسناه عملياً حينما حاولت الإمارات أن تحدث بعض التغييرات في عدن ، فقد كانت لها بريطانيا بالمرصاد استطاعت أن تحجم دورها وتحدد المساحة التي يمكن لإمارات أن تتحرك فيها باعتبارها مجرد وصيف تؤدي دور مؤقت لصاحب الفكرة الأساسي وهي بريطانيا .

وأخيراً عندما وجدت بريطانيا بأن الإمارات لم تتقيد بالدور الممنوح لها وضعتها أمام الأمر الواقع وطلبت منها الانتقال إلى سقطرى كأمل لها يمكنها من ترجمت طموحها المشئوم ، وهذه هي الحقيقة التي لا مراى فيها ، فبريطانيا مهما ابتعدت عن عدن وغادرت المنطقة فإنما هي مغادرة شكلية أما الإرادة الحقيقة فستظل تهفوا إليها وتحاول أن تستعيد المجد التليد فيها ، وهناك تفاصيل كثيرة قد لا تسمح الظروف بالحديث عنها في الوقت الراهن لأنها تتعلق بعمق السياسة البريطانية وما تكنه تجاه هذه المنطقة من حقد ومؤامرات للآسف استطاعت أن تدفع بالسعودية والإمارات إلى حلبتها كما قلنا لكي تتجنب الإنفاق المادي الباهظ الذي تتكبده كلا الدولتين ، الآن وفي ظل الحركات الطائشة من قبل الضباط الإماراتيين وجوقة العملاء والمرتزقة من اليمنيين الذي سال لعابهم لبريق الدرهم الإماراتي .

ما يجب أن نقوله هنا أن وجود كلاً من الإمارات والسعودية في المناطق الجنوبية والشرقية من اليمن هو مؤقت وأن أحلام بريطانيا إنما تعتريها أحلام اليقظة إذ يستحيل أن تعود إلى المنطقة أو تضع قدمها في أي شبر منها في ظل اليقظة اليمنية والإرادة الفولاذية الحريصة على ضمان استقلال وسيادة هذا الجزء الحبيب من الوطن .. والله من وراء القصد ..