السياسية – رصد :

بعد أن نجت من أنياب الدكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين، جاء الإعلان عن رغبة فنلندا في الانضمام للناتو، ليزيد من احتمالات التوتر بين الحلف وروسيا، بل قد يؤدي إلى إفساد علاقة التعايش التاريخية والغريبة بين فنلندا الدولة الإسكندنافية الصغيرة، والدب الروسي.

وكانت رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين، قد أعربت مؤخراً عن رغبة بلادها في الانضمام لحلف الناتو، رغم أنها ظلت محايدة طوال الحرب الباردة، ولم تلتحق بالناتو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

وتعد العلاقات بين فنلندا وروسيا نموذجاً غير متكرر، فهذه الدولة الثرية التي يبلغ عدد سكانها نحو 5 ملايين نسمة، كانت جزءاً من روسيا القيصرية، بل أذهلت العالم بصمودها أمام الاتحاد السوفييتي في ذروة قوته خلال ما يعرف بحرب الشتاء بين عامي 1939 و1940، ثم احتلت جزءاً من الأراضي السوفييتية في أثناء تحالفها مع ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية.

ولكن هذه الدولة قليلة السكان شحيحة الموارد، نجت من الانتقام السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يبتلعها ستالين مثلما ابتلع جمهوريات البلطيق، ولم يضمها حتى قسراً لحلف وارسو التابع لموسكو بعد الحرب العالمية الثانية مثلما فعل مع كل دول أوروبا الشرقية التي يبلغ عدد سكانها مئات الملايين من البشر.

وحافظت فنلندا على حيادها خلال الحرب الباردة وإلى اليوم، حيث حافظت على علاقة وثيقة مع الغرب، إضافة إلى علاقة غريبة مع موسكو.

نموذج كان ينبغي لأوكرانيا الاقتداء به

قبل الإعلان عن رغبة فنلندا في الانضمام للناتو، كان يُنظر إلى هلسنكي التي تشترك في حدود بطول 1340 كيلومتراً مع روسيا، على أن علاقتها بموسكو مختلفة اختلافاً كبيراً عن علاقة جيران روسيا الآخرين في دول البلطيق وأوروبا الشرقية الذين يقلقون علناً بشأن أجندة بوتين في المنطقة، خاصة بعد ضم القرم من أوكرانيا عام 2014، حسبما ورد في تقرير لموقع BBC البريطاني.

وكان كثيرون يرون أن النموذج الفنلندي هو الأحرى بأوكرانيا الاقتداء به بعد استقلالها عن الاتحاد السوفييتي عام 1991، بدلاً من الانحياز للغرب، ولو فعلت ذلك لنجت أوكرانيا من ابتلاع روسيا شبه جزيرة القرم الاستراتيجية أو فصلها إقليم الدونباس ذي الأغلبية الناطقة بالروسية.

ولكن هذا النموذج معرَّض للتهديد بعد الإعلان عن رغبة فنلندا في الانضمام للناتو على لسان رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين، التي قالت إنه “من المهم أن تكون البلاد قادرة على التقدم بطلب عضوية حلف الناتو، على خلفية تعزيز التعاون العسكري بين هلسنكي والاتحاد الأوروبي”، حسبما ورد في تقرير لموقع “روسيا اليوم”.

وأضافت مارين في تصريح نقله التلفزيون والإذاعة الحكومية “Yle”: “نحتفظ بالحق في التقدم لعضوية الناتو. يجب أن نقدر حرية الاختيار ونغتنمها فرصة حقيقية”.

وقبل الإعلان عن رغبة فنلندا في الانضمام للناتو، ظهرت مؤشرات على التقارب مع الناتو وتحديداً الولايات المتحدة، عندما اختارت البلاد طائرات إف 35 لتصبح مقاتلات الجيل الجديد لديها بدلاً من طائرات غريبين السويدية رغم أن السويد قريبة تاريخياً وثقافياً لفنلندا، كما أنها دولة إسكندنافية ومحايدة مثلها، وطائرات غريبين مصنعة للأجواء الباردة والقطبية نفسها، كما أنه مصممة في الأصل للتعامل مع احتمالات الغزو الروسي، عبر خاصية تسمح لها بالإقلاع والهبوط على طرق السيارات العادية في حال استيلاء الروس على المطارات، إضافة إلى رخص تكلفتها وجودتها، فضلاً عن تشابه الخبرات الصناعية في البلدين.

كيف روضت فنلندا الدب الروسي لمدة قرن من الزمان؟

صادف عام 2020 الذكرى المئوية لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين فنلندا وروسيا.

 

وكانت فنلندا على مدار قرون عديدة، ساحة للحروب بين روسيا والسويد (التي كانت إمبراطورية وفنلندا إحدى ممتلكاتها)، وانتهت هذه الحروب بتأسيس دوقية فنلندا الكبرى وضمّها للإمبراطورية الروسية خلال الحقبة النابليونية في أوائل القرن التاسع عشر، ثم تم حل الاتحاد الشخصي بين روسيا وفنلندا بعد تنازل القيصر الروسي الأخير في عام 1917، وما تلاه من ولادة فنلندا الحديثة، بدعم من الحكومة الروسية البلشفية (السوفييتية).

كان لدى فنلندا حرب أهلية خاصة بها مع مشاركة طفيفة من قبل روسيا السوفييتية، ثم غزاها الاتحاد السوفييتي فيما بعد فيما عُرف بحرب الشتاء، التي صمد فيها الفنلنديون أمام القوات السوفييتية التي تفوقهم ثلاث مرات في العدد وعشرات المرات في العتاد.

ثم أصبحت فنلندا حليفاً لألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وشاركت في احتلال أجزاء من الاتحاد السوفييتي عقب الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي والذي انتهى بهزيمة هتلر وانتحاره عشية سقوط برلين في يد الروس.

اللافت أن الغرب سامح فنلندا على تحالفها مع النازية ورأى أنه تحالف اضطراري في مواجهة مخاوفها التقليدية من روسيا، فيما تسامح معها الدكتاتور السوفييتي الوحشي جوزيف ستالين بعد أن رأى فوائد في العلاقة الخاصة التي نسجها مع هذه الدولة الديمقراطية، التي قبلت أن تكون محايدة وألا تصبح مخلب قِط للغرب، والأهم أنها تحولت إلى ما يشبه المنفذ الذي يحتاجه السوفييت في بعض الأحيان أو المساحة الرخوة المطلوبة لتفصلهم عن الناتو.

ولكن لم يكن الحفاظ على الحرية أمام جارتها القوية لمدة قرن أمراً سهلاً، وكان على فنلندا أن تقدم تضحيات من أجل البقاء، حسب وصف تقرير BBC، حيث فقدت نحو 11% من أراضيها لصالح روسيا.

وخلال الحرب الباردة، صاغ علماء ألمانيا الغربية مصطلحاً ساخراً إلى حد ما، سمّوه “الفنلنديّزم” (Finlandisation) لوصف كيف عدّلت الدولة الواقعة في شمال أوروبا سياساتها لتناسب الاتحاد السوفييتي مع الحفاظ على الحياد رسمياً والحفاظ على علاقات جيدة مع الغرب.

ولعبت فنلندا لعبة صعبة خلال تلك الفترة، حيث خضعت للاتحاد السوفييتي في كثير من النواحي ولم تتحده، بل حافظت على استقلالها ونظامها السياسي.

فهذا البلد الإسكندنافي الصغير قامت سياسته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، على مراعاة مصالح روسيا إلى حد كبير، وخضع لقدر من النفوذ السوفييتي وضمن ذلك منع انتقاد موسكو، بل حتى قامت فنلندا بإجراء انتخابات جديدة عندما كانت النتائج السابقة مرفوضة من قبل الاتحاد السوفييتي.

وتقبّل الغرب هذه السياسة التي نجحت حتى، في ذروة عدوانية الاتحاد السوفييتي.

ويُستخدم مصطلح الفنلنديّزم الآن بشكل شائع، لوصف الموقف عندما تسمح دولة صغيرة لسياساتها بأن تتأثر بشكل كبير بجار أكبر وأكثر قوة.

ولكن على الرغم من أن المصطلح يحمل الاسم نفسه، فإنه لا ينطبق على العلاقة بين فنلندا وروسيا اليوم. ويقول محللون إن فنلندا صديقة لروسيا لكنها تظل صلبة وواقعية.

وفي حين أن الاتصالات على المستوى السياسي بين البلدين مهمة، غالباً ما تكون الاتصالات على المستوى الإقليمي هي التي تحقق نتائج ملموسة للغاية في العلاقات بين روسيا وفنلندا.

وتعد روسيا ثالث أكبر شريك تجاري لفنلندا بعد السويد وألمانيا. تتكون الواردات من روسيا في الغالب من النفط والغاز.

“إننا جزء من الغرب”

في العقود الثلاثة الماضية، تغيرت فنلندا وتغير توازن علاقتها بين روسيا والغرب، لتميل أكثر ناحية الاتحاد الأوروبي والناتو.

في عام 1995، انضمت فنلندا إلى الاتحاد الأوروبي. هذا يعني أن روسيا أصبحت جارة للاتحاد الأوروبي، حسب وصف ماتي أنتونين، وزير الدولة الدائم بوزارة الخارجية الفنلندية، في مقال لموقع BRE Review.

 

في حين أن فنلندا ليست عضواً بحلف الناتو العسكري، فإنها على صلة وثيقة معه.

 

يقول سوفي تورتينين، الصحفي بصحيفة هيلسينجين سانومات، والذي يبحث حالياً في التصورات الروسية لاستقلال فنلندا: “إن التصورات القائلة بأن فنلندا تقع بطريقة ما في الوسط بين روسيا والغرب تصورات مضللة”، حسب تعبيره.

 

رغبة فنلندا في الانضمام للناتو

وتقول: “لطالما دعمت فنلندا العقوبات ضد روسيا [التي فُرضت في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم]، على الرغم من أنه كان لها تأثير كبير على الاقتصاد الفنلندي وعلى الرغم من أهمية السياحة الروسية في المنطقة الشرقية”.

تعتبر نفسها جزءاً من الغرب، ولقد أصبحت فنلندا شريكاً وثيقاً للناتو منذ التسعينيات، حيث أرسلت قوات إلى العمليات التي يقودها التحالف في البلقان وأفغانستان، والحفاظ على العلاقة التي يُقال الآن إنها أقرب ما يمكن إلى أن تكون لمرحلة ما قبل العضوية.

رغبة فنلندا في الانضمام للناتو، هل تُغضب روسيا؟

ويبدو الإعلان الفنلندي نتيجة للمحاولات الروسية، حيث تتجه السويد وفنلندا نحو تحالف أوثق مع الناتو، في ظل ما أظهرته الأزمة الأوكرانية من مخاطر البقاء خارج الناتو، حيث صرحت الولايات المتحدة بأنها لن تدافع عسكرياً عن أوكرانيا حتى لو أمدتها بالسلاح أو فرضت عقوبات على موسكو في حال هجومها على كييف، لأن واشنطن ملزمة فقط بالدفاع عن الدول الأعضاء بالناتو.

وفي عام 2016، حذر الرئيس فلاديمير من أن روسيا قد تحرك قواتها بالقرب من الحدود الفنلندية الروسية إذا انضمت فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي، وجاء هذا التحذير في تصريح أدلى به خلال زيارة لفنلندا، وعقب اجتماعه مع الرئيس الفنلندي سولي نينيستو.

اللافت أن الإعلان عن رغبة فنلندا في الانضمام للناتو يأتي في وقت حددت فيه موسكو مطالبها من الحشد العسكري حول أوكرانيا بضرورة أن يلتزم الناتو بعدم التوسع شرقاً، أي إنها لم تقصر مطلبها على أوكرانيا، مما يشير إلى أنها قد لا تسمح بضم فنلندا أو جورجيا للناتو أو حتى السويد، الدولة الإسكندنافية المحايدة المجاورة لروسيا.

وعندما سئل الرئيس الفنلندي، سولي نينيستو، عن طلب بوتين أن تحصل روسيا على “ضمانات قانونية” بأن التحالف لن يتوسع شرقاً.. قال نينيستو إنه لا يرى إمكانية لصفقة من هذا القبيل.

وأضاف نينيستو: “إن عضوية الناتو مسألة بين فنلندا مقدِّمة الطلب وحلف الناتو”، ملمحاً بشكل ضمني إلى أن بوتين ليس طرفاً فيها.

وكان الناتو والولايات المتحدة قد رفضا طلب بوتين بشدة، وأكد الناتو أن سياسات فنلندا الخارجية والأمنية قائمة على الاحتفاظ بالمرونة للانضمام إلى التحالف الغربي.

ورغم أن فنلندا دولة صغيرة مقارنة بأوكرانيا، حيث يمثل عدد سكانها، البالغ نحو خمسة ملايين نسمة، أكثر قليلاً من عُشر سكان أوكرانيا ذات الأربعين مليوناً، فإنها دولة شديدة التقدم، ومتماسكة داخلياً، ولا تعاني من الانقسام الإثني واللغوي والسياسي الذي تتسم به أوكرانيا، مما يجعل قدرة روسيا على التلاعب الداخلي بها محدودة.

كما أن فنلندا لم تطور فقط قدرات سياسية للتعايش مع موسكو على مدى قرن من الزمان، ولكنها طورت أساليب عسكرية مثلها مثل جارتها السويد؛ لمحاولة مقاومة أي غزو روسي محتمل.

لا يعني هذا أن فنلندا تستطيع منع أي هجوم روسي عليها، ولكنها ليست لُقمة سائغة جداً، كما يبدو من الإحصاءات والأرقام الخاصة بها.

 

كما أنها ما زالت تحتفظ بعلاقة مميزة مع موسكو، حتى لو باتت أكثر استقلالية، كل هذا يجعل احتمال مخاطرة بوتين بافتعال أزمة مع هلسنكي ليس كبيراً إذا انضمت  الأخيرة للناتو، خاصةً أنه إذا حدث ذلك فعملية الانضمام ستشمل السويد وفنلندا، كما أن الدولتين عضوان بالاتحاد الأوروبي، ولذا قد يفضل بوتين استخدام الأزمة الأوكرانية كورقة ضغط على الناتو لمنع ضم البلدين أكثر من إشعال أزمة جديدة مع الجارين الإسكندنافيين اللذين طالما تعايشا مع روسيا بهدوء وصبر إسكندنافي جمّ.

المادة الصحفية : تم نقلها حرفيا من موقع عربي بوست