السياسية:

تنضج الأحداث بسرعة قبل أيام من عيد الثورة التونسية بتاريخه الجديد الذي وضعه له الرئيس قيس سعيد يوم 17 ديسمبر/كانون الأول بدلاً من تاريخ 14 يناير/كانون الثاني الذي تعود التونسيون على الاحتفاء فيه بثورة الحرية والكرامة. تغيير تاريخ عيد الثورة، على رمزيّته، إلا أنه ليس كل شيء بل هو مجرد قمة جبل الجليد أو الشجرة التي تخفي خلفها غابة من التغييرات الكبرى التي ستحصل في البلاد في قادم الأيام وعلى رأسها تغيير الدستور التونسي.

كل الأعناق مشرئبة تجاه قصر قرطاج في انتظار ما ستبوح به خزانة أسرار الرئيس التونسي وقد عودنا بخطاباته المليئة بالغموض والتشفير وتهديداته التي إن نفذ البعض منها لكن الأخطر لا يزال القيد التحضير والتدوير قبل صدوره في مرسوم رئاسي أو قانون جديد، خصوصاً القرارات المنتظرة في علاقة بإلغاء دستور 2014 وتعويضه بدستور جديد وما يعنيه من تغيير راديكالي للنظام السياسي في تونس. فما الذي يطبخه قيس سعيد ليوم عيد الثورة الجديد؟ وما أبعاد التناقضات في تصريحاته الأخيرة؟ وكيف سيكون موقف شقي المعارضة؟ وما هي العروض المطروحة على الطاولة؟

مواقف متناقضة

لقد كانت التصريحات الأخيرة للرئيس سعيّد خلال اجتماعين أجراهما في نفس اليوم 09 ديسمبر/كانون الأول مع لجنة خبراء القانون الدستوري التي عيَّنها لإعداد إصلاحات لدستور 2014، فإذا به يعلن في حضور أعضاء اللجنة من أساتذة قانون وخبراء دستوريين عن شهادة وفاة الدستور القديم وضرورة تغييره بدستور جديد “المشكل في تونس اليوم دستوري نتيجة دستور سنة 2014 الذي ثبت أنه لم يعد صالحاً ولا يمكن أن يتواصل العمل به لأنه لا مشروعية له”، كما واصل التصعيد في محتوى كلمته في نفس الاجتماع متوجهاً لخصومه بالقول إن “من يحترم سيادة الشعب لا يستعين بأطراف أجنبية للاستقواء بها بل إن المستقبل يحدده الشعب التونسي”.

تونس

لم يكمل سعيّد يومه مكتفياً بهذه التصريحات “الإقصائية” كما يصفها خصومه داخل حركة النهضة، بل إنه وعلى غير المعتاد فاجأ الجميع خلال اجتماع مجلس الأمن القومي في نفس اليوم إثر الحريق الذي اندلع في مقر حركة النهضة بمنطقة مونبليزير، ليعلن أن “لن نتقدم إلا في ظل قبول الآخر والتنافس النزيه”، وأن “الاختلاف في التصورات والآراء لا يعني انعدام التعايش، وعلى أن الدولة تتسع للجميع…”.

مواقف متعددة ومتناقضة حول طريقة التعاطي مع المسائل الخلافية تفاجئ الجميع ولو أنها كانت مطروحة من ضمن السيناريوهات المحتملة لحل الأزمة السياسية في تونس، لكن التوقيت والمقام والسياق الذي جاءت فيه لم يكن ليضعها ضمن هذا السياق.

دستور جديد

لم تأتِ تصريحات الرئيس التونسي من فراغ، فبالرغم من التعهدات التي قطعها في 22 سبتمبر/أيلول الماضي عندما أقر الأمر الرئاسي عدد 117 ، وجمع بموجبه كل من السلطتين التنفيذية والتشريعية، بأنه لن يغير كل فصول الدستور وسيحافظ على الفصل المتعلق بالحقوق والحريات، نجده اليوم يتحدث عن صياغة دستور جديد يستجيب لرؤيته السياسية الشخصية للنظام السياسي القاعدي، في قطيعة نهائية مع المنظومة السياسية الديمقراطية التي جاءت بعد 14 يناير 2011، بدأها بإلغاء تاريخ عيد الثورة على اعتبار أنه تاريخ “الانحراف” بالثورة عن أهدافها وتعويضها بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول اليوم الذي أضرم فيه محمد البوعزيزي جسده بالنار لتنطلق الشرارة الأولى للثورة، وسبقه تعطيل المؤسسات والهيئات الدستورية وتجميد البرلمان، وها هو الآن يعلن عن موقفه الواضح من دستور سنة 2014 ونيته إلغاءه وتغييره بدستور جديد تُعدّه لجنة من أساتذة قانون دون تشريك باقي الأطراف السياسية ولا حتى خبراء دستوريين أو مثقفين وأكاديميين من خارج سرب رفاقه والموالين له.

حركة النهضة

إلى ذلك، يرى طارق الكحلاوي، الأكاديمي والمدير العام السابق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، في مقابلة مع قناة محليّة، أن اجتماع الرئيس مع أساتذة القانون الدستوري هو رد فعل على اجتماع الغنوشي مع سفير فرنسا، لأن فيه مسا بالسيادة ، مشيراً إلى أن قيس سعيّد يرى في تحركات السفير الفرنسي تدخلاً خارجياً في ترتيبات سياسية داخلية ومحاولة للتأثير في الخارطة السياسية للبلاد، وهذا ما دفعه للسيناريو الراديكالي بإلغاء الدستور، على حد تعبيره.

حل المجلس الأعلى للقضاء

حثّ الرئيس قيس سعيّد في أكثر من مناسبة المجلس الأعلى للقضاء على تفعيل تقرير محكمة المحاسبات (تقرير قضائي رصد التجاوزات القانونية التي حصلت في انتخابات 2019 من تمويل أجنبي للمترشحين في الانتخابات التشريعية والرئاسية وتجاوز سقف التمويل المسموح به في الحملات الانتخابية…) والذي سيترتب على تطبيقه إسقاط قائمات انتخابية متهمة بتلقِّي تمويلات أجنبية وخدمات اتصالية من مجموعات ضغط أجنبية أمريكية وكندية بالأساس، فيها قوائم من الائتلاف الحاكم قبل 25 يوليو/تموز 2021. يتم على إثرها حل البرلمان بعد أن ينقص النصاب خصوصاً مع وجود ملفات قضايا فساد وحق عام تلاحق نواب آخرين في قضايا مختلفة.

سعيّد استدعى رئيس المجلس الأعلى للقضاء ورؤساء المجالس القضائية الإدارية والعدلية والمالية في أكثر من مناسبة في محاولة للضغط عليهم ودفعهم لتنفيذ مخرجات تقرير محكمة المحاسبات، ثم صعّد إثر ذلك من لهجته بسبب بطء إجراءات التقاضي، عبر التهديد باللجوء لإصدار مراسيم من أجل تنفيذ العقوبات التي وردت فيه دون المرور بمسارات التقاضي القانونية، وهو ما لقي معارضة من قِبَل المجلس الأعلى للقضاء الذي اعتبر المراسيم تدخلاً في شؤونه وضرباً لاستقلالية القضاء.

بالمقابل يصعّد رئيس الجمهورية اللهجة مع القضاة معتبراً أن القضاء “وظيفة وليس سلطة” تمهيداً لحل المجلس، أو الإبقاء عليه كهيكل صوري دون أي صلاحيات وإرجاع القضاء -كوظيفة- تعود إلى وزيرة العدل كما هو الحال في كل الأنظمة الاستبدادية ، بحسب متابعين للشأن السياسي بتونس.

وهو الأمر الذي ينسجم مع موقفه المناهض للمنظومة السياسية والدستورية والنيابية والقضائية التي جاءت بعد الثورة بمؤسساتها السياسية وهيئاتها الدستورية.

موقف مبدئي أم مناورة سياسية؟

في مقابل القرارات الأحادية التي يتجه قيس سعيّد نحو تفعيلها في علاقة بصياغة دستور جديد وحل المجلس الأعلى للقضاء، يتحدّث الرئيس عن “قبول الآخر” و”التنافس النزيه” و”الدولة تتسع للجميع”، وهو موقف مفاجئ مقارنة بمواقفه السابقة الرافضة للحوار ولـ”الآخر” ولكل من له علاقة بالمنظومة السياسية التي جاءت بعد 14 يناير.

الكحلاوي يعتبر أن التحسّن في موقف الرئيس من المعارضة وباقي مكونات المجتمع السياسي لم يأتِ من فراغ. وكشف الأكاديمي أن هنالك كلاماً قيل للرئيس من عدة أطراف داخليّة أنه إذا انفلت الوضع في البلاد وحدثت مشاكل فإن الرئيس سيظهر كمسؤول عن الأمن العام، لأنه يملك كل السلطات التنفيذية ويدير البلاد لوحده، وحادثة الحريق في مقر النهضة جعلت سعيّد يخاف من أن تنفلت الأمور كما قيل له من البعض على المستوى الاجتماعي والسياسي، وأن يصبح مسؤولاً عن وضع معيّن لم يقصد الوصول إليه.

من بين العوامل الأخرى التي من المحتمل أنها ساهمت في تغيير موقف سعيّد بهذه الدرجة هي مواقف الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من المتغيرات السياسية في تونس في ظل حكم الرئيس قيس سعيّد. فلئن عبّرت هذه الأطراف في أكثر من مناسبة على استعدادها لدعم تونس “لتعزيز وضعها الاقتصادية والمالي” بما في ذلك مفاوضاتها مع الشركاء الدوليين من أجل الحصول على قروض ومنح، إلا أنها تنبّه إلى “أهمية احترام الحريات الأساسية لجميع التونسيين، وأهمية شمولية وشفافية عملية إشراك كافة الأطراف المعنية بما في ذلك الأصوات المختلفة في الطيف السياسي والمجتمع المدني مع تحديد سقف زمني واضح يسمح بعودة سريعة لسير عمل مؤسسات ديمقراطية بما في ذلك برلمان منتخب يضطلع بدور هام”.

لا يزال قيس سعيّد متمسّكاً بالمضي قدماً في تغيير النظام السياسي قبل الانتخابات عبر آليّة الاستفتاء، لكنه يتحرك ضمن موازين القوى التي إن لم تكن لصالحه فلن يعلن عن قرارات راديكالية في 17 ديسمبر/كانون الأول.

فبالرغم من تصدّر الرئيس نوايا التصويت بنسبة 79% بحسب وكالة سبر الآراء “إميرود كونسالتينغ” إلا أنه يعطي أهمية كبيرة للمواقف الخارجية الأوروبية والأمريكية، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي.

تطوّر في موقف المعارضة

معارضة “قرارات” الرئيس قيس سعيّد أو “الانقلاب” هي في حقيقة الأمر معارضات وليس معارضة واحدة، فلكل شق في المعارضة رؤيته السياسية الخاصة لحل الأزمة السياسية إلا أنهما يلتقيان على أرضية واحدة وهي حوار جامع لا يستثني أحد لإنقاذ البلاد من المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تهدد بإفلاسها، وإيجاد اتفاق مشترك بين طيف واسع من الأحزاب والمجتمع المدني والنقابات حول تعديل الدستور وإصلاح القانون الانتخابي.

الشق الأول: حركة النهضة وحلفاؤها

لا تزال حركة النهضة متمسكة بموقفها بالعودة للوضع السياسي ما قبل قرارات 25 يوليو/تموز وعودة البرلمان للنشاط والحوار حول الإصلاحات السياسية لكنها رحبت بمواقف قيس سعيّد الأخير في بيان صدر عن الحزب و”تثمينه دعوة الرئيس قيس سعيّد الأخيرة إلى التعايش واحترام الاختلاف”. وقال القيادي بحركة النهضة ماهر مذيوب “المطلوب خطوات جديدة لحلحلة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخطيرة”.

تونس القضاء العسكري البرلمان التونسي
احتجاجات في تونس ضد قرارات الرئيس قيس سعيد/ رويترز
وعلى الرغم من التصلب الظاهر في تمسك حركة النهضة بمطالبها بعودة البرلمان وتشريكها في أي حوار سياسي حول تغيير النظام السياسي إلا أنها أكثر حزب سياسي مرن وبراغماتي على الساحة السياسية، ومهيأة لتقديم التنازلات الضرورية سواء تعلق الأمر بعودة البرلمان المجمد أو التمسك بالنظام النيابي، على أن يتم الاعتراف بها من قبَل الرئيس وتشريكها في الخطوات المقبلة.

وقد حققت حركة النهضة خطوات في هذا الاتجاه خصوصاً من خلال تحركاتها الخارجية التي من المفترض أن تدفع قيس سعيّد لتقديم تنازلات خلال احتفالية 17 ديسمبر/كانون الأول، ربما أهمها تشريكها في الحوار الوطني.

· الشق الثاني: اتحاد الشغل والأحزاب الوسطية

بعد وقوفه أشهراً طويلة إلى جانب الرئيس وطرحه مبادرته للحوار دون أدنى تفاعل منه، يقود الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم توجهاً ثالثاً بين النهضة والرئيس يلعب فيها دوراً أقرب للمعارضة منه إلى الحياد والوساطة، حيث جمع حوله أحزاب التيار الديمقراطي والحزب الجمهوري وكل أولئك الساخطين على تفرّد قيس سعيّد بالسلطة والإصلاحات وانقلابه على دستور 2014.

السيناريو الذي يقدمه اتحاد الشغل لا يوجد فيه عودة لما قبل 25 يوليو/تموز ولا رجوع للبرلمان القديم وإنما يطرح مسألة عاجلة في الوقت الراهن وهي إنجاز انتخابات تشريعية سابقة لأوانها لتعويض برلمان 2019 ، ويعارض أي تغيير للدستور أو النظام السياسي خارج قواعد اللعبة الدستورية لسنة 2014، أي أن تغيير النظام السياسي وتعديل الدستوري يتم بعد انتخاب البرلمان الجديد ومن خلال حوار وطني تلعب فيه المنظمة الشغيلة دور الوساطة.

وقد أوضح غازي الشواشي، الأمين العام لحزب “التيار الديمقراطي”، عن أن الأحزاب والمنظمات واتحاد الشغل سيتصدون للرئيس “لأجل إنقاذ البلاد من العبث”، مؤكداً أن 17 ديسمبر/كانون الأول سيشهد بداية التحركات الاحتجاجية.

يبدو أن التطورات الأخيرة التي طرأت على مواقف الأحزاب ورئيس الجمهورية من مسألة الحوار وتغيير الدستور والنظام السياسي تنبئ مستقبلاً بوجود إما انفراجة كبيرة تؤدي لحل شامل لمجمل القضايا الخلافية بين الرئيس وشقوق المعارضة حول مستقبل البلاد السياسي والدستوري والاقتصادي أو أن تاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول سيحمل في طياته قرارات راديكالية لرئيس الجمهورية تُدخل البلاد في أصعب السيناريوهات السياسية التي أراد الجميع تجنبها.