السيسي على درب محمد علي باشا
السياسية: متابعات : صادق سريع
كيف هيمن الرئيس المصري على القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني
في القلعة كان محمد علي باشا جالساً على عرشه، متوسداً طموحاته العالية، يفكّر في لملمة ذلك الشتات في الأراضي المصرية، فيكون الزارع الأوحد -ولو لم يفهم في الزراعة- والصانع الأوحد -ولو لم يكن عاملاً في مصنعٍ طوال حياته- والتاجر الأوحد -ولو كانت خبرته تقتصر على تجارة التبغ والدخان وتعثرت للظروف الاقتصادية- ويفكر بعمق في جعل كل الأمور في قبضة يده، بما في ذلك ممتلكات الشعب، والشعب نفسه.بعد قرابة 200 عام على رحيل تجربته يبدو أن الرئيس عبد الفتاح السيسي قد انبهر أو تلبّسته رؤية “الباشا” محمد علي في إدارة الدولة المصرية، أو إحكام السيطرة عليها.فقد كان محمد علي باشا -الصفة التي يعشقها- يُحكِم سيطرته على بر مصر ومحيطها بالكامل، فقد أطلق التصنيع في المحروسة، ولكن تحت يده، وازدهرت التجارة في عهده، ولكن تحت عينيه، أما الزراعة فقد كان لها نصيب الأسد في اهتماماته بشق الترع والمصارف، وحتى التحكم في المحاصيل التي تُزرع.
بدأ يفكّر السيسي مليّاً في لملمة ما بعثره شباب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) من إرث الدولة العميقة، التي كانت تبدو متماسكةً حتى قامت “الثورة”، التي يحمّلها السيسي في كل مناسبة مشكلات البلاد، من أزمة سد النهضة نفسها، إلى أزمة البناء المخالف على أراضي الدولة، ووصولاً إلى عقول الشباب التي أتلفها الهوى. يضع إصبعه تحت ذقنه، ينظر إلى ذراعه اليمنى “عباس كامل” في ريبةٍ، وثقة، يُصدر الرئيس من مكانه قراراً جمهورياً، القانون رقم 177، بإنشاء صندوق تُجمع فيه كل الأصول غير المستغلة في الدولة، ماذا نسميه؟ شيء فيه سيادة، يجعلنا وحدنا القادرين على التحكم فيه، دون “س” أو “ج”، صندوق مصر؟ صندوق مصر السيادي. بعد قليل، تحديداً في 2020، سيصدر الرئيس تعديلاً على القانون، مع كثرة اللغط الذي أثارته النسخة الأولى، لا ليفكّ الغموض الذي حوله أو يهشّ الضباب الذي يحيط به، وإنما ليجعل اسمه عاطفياً أكثر، “صندوق مصر السيادي للاستثمار والتنمية”، إذاً الهدف بدا واضحاً، حتى لو كان الصندوق نفسه مثيراً للريبة، لكن التعديل الذي أتى بعد عامين من الفرمان الأول حمل في طياته منعاً باتاً على أي جهة أن تطعن على أي قرار مختصٍّ بذلك الصندوق، وحده الرئيس، والجهة المعنيّة المنقول من طرَفها الأصول يملكان الطعن على ذلك، ومن يملك أن يطعن في قرار رئيس الجمهورية؟ ليس الصندوق وحده ما فعله السيسي، بل كان قرار الصندوق واحداً من عشرات القرارات التي تهدف بالأساس إلى إحكام السيطرة والهيمنة على كل مقدرات الدولة المصرية ووضعها تحت تصرفه فقط.في هذا التقرير سنسلط الضوء على أبرز القرارات التي أصدرها الرئيس المصري خلال فترة حكمه الممتدة من عام 2014، وحتى الآن، وكيف غيرت هذه القرارات في شكل النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في البلاد، حتى باتت كل مقدرات الشعب ودينه في يده.
أولاً: نقل أصول الدولة إلى صندوق مصر السيادي
منذ 2013 والإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي، حرص النظام الجديد بقيادة عبد الفتاح السيسي على السيطرة على كافة مفاصل النشاط العام في البلاد، في النواحي الاقتصادية والسياسية والإعلامية والخدمية، وصولاً إلى أبسط الأنشطة من قبيل تنظيم انتظار حركة المركبات في الشارع، والبحث عن المخلفات في القمامة. وهو ما يعيد للذاكرة نموذج محمد علي في حكم مصر، الذي انفرد بإدارة الاقتصاد والسياسة والعسكرة إلى أن آل الأمر على يد أسرته إلى سقوط البلاد تحت طائلة ديون باهظة والاحتلال الأجنبي.في ظل تبنّي سياسات الخصخصة -لكن بنمط لا يخرج الأصول المخصصة عن قبضة النظام الحاكم بالتزامن مع العمل بشكل مستقل عن بيروقراطية الحكومة أو أي رقابة لاحقة من المواطنين على أنشطة الصندوق- أصدر السيسي في عام 2018 قانوناً بتأسيس صندوق سيادي يُسمى (صندوق مصر)، برأس مال 200 مليار جنيه، وذلك بهدف المساهمة في التنمية الاقتصادية المستدامة. وكفل القانون لرئيس الجمهورية نقل ملكية أي من الأصول غير المستغلة المملوكة ملكية خاصة للدولة إلى الصندوق.وبالنسبة للأصول المستغلة فتُنقل للصندوق بقرار من رئيس الجمهورية، بعد أن يعرضه عليه رئيس مجلس الوزراء ووزير التخطيط بالاتفاق مع وزير المالية، وبالتنسيق مع الوزير المعني بهذه الأصول.تضمّن قانون تأسيس الصندوق بنداً يقضي بإعفاء المعاملات البينية للصندوق والكيانات المملوكة له بالكامل من جميع الضرائب والرسوم، وما في حكمها. ثم سرعان ما تم تعديل القانون بقانون آخر في عام 2020، تضمّن تعديل اسم الصندوق ليصبح (صندوق مصر السيادي للاستثمار والتنمية)، وليحمل مفاجأة تنصّ على أن الطعن في قرار رئيس الجمهورية بنقل ملكية أصول الدولة يقتصر على الجهة المالكة للأصل، أو الصندوق المنقول له الملكية دون غيرهما، وألا ترفع الدعاوى ببطلان العقود التي يُبرمها الصندوق إلا من أطراف التعاقد دون غيرهم.تلك الإضافة تمنع أي مواطن من الطعن على نقل ملكية الأصول العامة للصندوق، أو على تصرف الصندوق في تلك الأصول بما يخالف المصلحة العامة، وهو إجراء اعتمده النظام لتلافي أي طعون في عقود الصندوق تشبه ما حدث سابقاً في الطعن على بيع سلسلة متاجر عمر أفندي لصالح (شركة أنوال المتحدة للتجارة)، والذي قضت محكمة القضاء الإداري في عام 2011 ببطلان عقد بيعه.
ثانياً: الشمول المالي، وضم الاقتصاد غير الرسمي للاقتصاد الرسمي
في ظل عمل شرائح عديدة من الشعب المصري في أعمال مهنية وتجارية خارج إطار الاقتصاد الرسمي، نظراً لعدم وجود فرص عمل متاحة في القطاع العام أو الخاص، حرصت السلطات المصرية على حصر وتتبع أنشطة الاقتصاد غير الرسمي لضمه للاقتصاد الرسمي. ولتنفيذ تلك المهمة أصدر السيسي قراراً في عام 2017 بإنشاء المجلس القومي للمدفوعات برئاسته شخصياً، وعضوية 15 مسؤولاً، من بينهم وزراء الدفاع والداخلية والمالية والعدل، فضلاً عن محافظ البنك المركزي، ورئيس جهاز المخابرات العامة، ورئيس هيئة الرقابة الإدارية. ثم في عام 2018 أضاف السيسي لعضوية المجلس نائب محافظ البنك المركزي للاستقرار المصرفي، ليصبح عدد الأعضاء 16 عضواً.
الرئيس السيسى يرأس الاجتماع الأول للمجلس القومى للمدفوعات
يختص المجلس القومي للمدفوعات بتنفيذ عدة مهام، من أبرزها: خفض استخدام أوراق النقد خارج القطاع المصرفي، ودعم وتحفيز استخدام الوسائل والقنوات الإلكترونية في الدفع بدلاً عنه، والعمل على تحقيق الشمول المالي بهدف دمج أكبر عدد من المواطنين في النظام المصرفي، وضم القطاع غير الرسمي إلى القطاع الرسمي، وتخفيض تكلفة انتقال الأموال وزيادة المتحصلات الضريبية.ولتحقيق ما سبق، أصدر المجلس عدة قرارات من أبرزها إلزام الجهات الحكومية بعدم سداد أي مستحقات للموردين المتعاقدين مع تلك الجهات تزيد قيمتها عن 20 ألف جنيه في صورة نقدية، وإلزام المواطنين بسداد رسوم الحصول على جميع الخدمات الحكومية وجميع المستحقات الحكومية بما فيها الضرائب والرسوم الجمركية، باستخدام إحدى وسائل الدفع الإلكترونية. وهو ما اعتمدته وزارة المالية في عام 2018، حيث أصدرت قراراً ملزماً بسداد جميع المستحقات الحكومية وفقاً لما يلي: من جنيه واحد إلى 5 آلاف جنيه يتم التحصيل بشكل نقدي، والمبالغ التي أكثر من 5 آلاف جنيه حتى 100 ألف جنيه يتم سدادها إلكترونياً أو بشيكات، وما زاد عن 100 ألف جنيه يتم سداده إلكترونياً. مع الإلزام بداية من أول مايو/أيار 2019، بتحصيل المستحقات الحكومية من خلال منظومة الدفع والتحصيل الإلكتروني فيما يزيد عن مبلغ 500 جنيه، مع جواز سداد المبالغ الأقل من 500 جنيه بأية وسيلة من وسائل السداد، سواء كانت إلكترونية أو غيرها. تلك القرارات تقلل من حجم النقد المتداول، كما تدفع أغلب المواطنين لفتح حسابات بنكية أو الاعتماد على الدفع الإلكتروني، ما يُسهل متابعة تحركاتهم المالية وتقدير مصادر دخلهم والضرائب المطلوبة منهم.
ثالثاً: تقليص الجهاز الإداري بالدولة، والرقمنة
شدد السيسي في عام 2016 على أن عدد العاملين بالجهاز الإداري للدولة يبلغ 7 ملايين موظف، بينما الدولة تحتاج مليوناً منهم فقط. وأضاف أن رواتب الموظفين زادت من 70 ملياراً إلى 220 ملياراً عقب الثورة. ومن ثم اتخذ النظام إجراءات تُقلص من عدد الموظفين، بوقف التعيينات بالجهاز الإداري للدولة منذ عام 2014، وإقرار قانون في عام 2021 يسمح بعقوبة العزل من الوظيفة لمن يثبت تعاطيه للمخدرات من الموظفين العاملين بوحدات الجهاز الإداري للدولة، من وزارات ومصالح وأجهزة حكومية ووحدات الإدارة المحلية، والأجهزة التي لها موازنات خاصة، وشركات القطاع العام وقطاع الأعمال، وغيرها من الشركات التابعة للدولة، أو التي تساهم فيها الدولة بأي وجه من الوجوه.وبالتزامن مع ما سبق، تبنى النظام مشروع الرقمنة، الذي يساهم في زيادة إيرادات الدولة من الضرائب والرسوم عبر تقويض مسارات التهرب الضريبي، وتقليل عدد الموظفين الحكوميين، بما يساهم في خفض الإنفاق الحكومي، ومن أبرز المشاريع المدرجة ضمن الرقمنة: المجمع المتكامل لإصدار الوثائق المؤمنة والذكية، وهو مجمع تأسس بتكلفة مليار دولار، ويختص بإصدار جميع المستندات الرسمية للأفراد الطبيعيين مثل شهادات الميلاد والزواج والطلاق والوفاة والملكية والتعليم والدراسات العليا ونماذج الهوية، مثل بطاقات الرقم القومي، وجوازات السفر الإلكترونية، وتراخيص قيادة المركبات، وحمل السلاح، وإقامة الأجانب داخل البلاد، والهوية الرقمية، وصولاً إلى البطاقة الذكية الموحدة للمواطن.
مجمع الإصدارات المؤمنة والذكية
وفي المجمل، يهدف المجمع إلى توفير قواعد بيانات بيومترية دقيقة ومؤمنة بالكامل، بداية من تجميع البيانات حتى إصدار الوثائق لكافة مواطني الدولة، وزيادة الحصيلة الضريبية للدولة بفضل نظام التحكم والتتبع الآلي لكافة المنتجات الخاضعة للضريبة. وقد بدأ العمل على المشروع في عام 2017 وتم الانتهاء من تنفيذه في نهاية عام 2019، وبدأ التشغيل التجريبي للمجمع في فبراير/شباط 2020. ومن اللافت أن المجمع يتبع وزارة الدفاع وليس مجلس الوزراء.
رابعاً: التحكم في مصير رؤساء الأجهزة الرقابية
توجد في مصر عدة أجهزة رقابية تشمل الجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية والهيئة العامة للرقابة المالية والبنك المركزي. ويكفل الدستور لتلك الأجهزة التمتع بالاستقلال الفني والمالي والإداري، وحماية أعضائها بما يكفل لهم الحياد والاستقلال، لكن مع الحديث المتكرر لرئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المستشار هشام جنينة، عن حجم الفساد في أجهزة الدولة، أصدر السيسي قانوناً من مادة واحدة فقط في عام 2015، نصّ على إصدار رئيس الجمهورية قرارات تقضي بإعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والجهات الرقابية من مناصبهم في أربع حاﻻت، من بينها إذا فقد المسؤول الثقة، أو فقد أحد شروط توليه منصبه لغير الظروف الصحية. وهي تعبيرات فضفاضة يسهل التلاعب بتفسيرها. وبالفعل في مارس/آذار 2016، أصدر السيسي قراراً بعزل المستشار هشام جنينة من منصبه. وبذلك أصبح رؤساء الأجهزة الرقابية مجرد دمى في يد شاغل منصب الرئاسة، في ظل قدرته على عزلهم من مناصبهم في أي وقت دون مبررات جادة.
أما هيئة الرقابة الإدارية، التي تأسست في عام 1964 كهيئة تابعة لرئيس مجلس الوزراء، تختص بعدة مهام في مقدمتها الكشف عن المخالفات الإدارية والمالية والجرائم الجنائية التي تقع من العاملين بالدولة أثناء مباشرتهم لواجبات وظائفهم أو بسببها، فقد أجرى السيسي في عام 2017 تعديلات جوهرية في قانونها، نقل خلالها تبعية هيئة الرقابة الإدارية إلى إشرافه المباشر بدلاً من رئيس الوزراء، فضلاً عن اشتراط موافقة رئيس الجمهورية على عمليات ترقية العاملين بالهيئة إلى الوظائف العليا. وهو ما يجعلها أداة لتعزيز هيمنة السيسي على الأجهزة والمؤسسات الحكومية أكثر من كونها جهازاً يعمل على كبح جماح الفساد. وهو ما تعكسه تقارير منظمة الشفافية الدولية، إذ تراجع ترتيب مصر في مؤشر تقرير الفساد حيث شغلت في عام 2020 المركز 117 من بين 180 دولة بعد أن كانت تشغل المركز 106 في عام 2019.
خامساً: تغوّل الجيش في القطاعات الصناعية والزراعية
بعد انقلاب 2013م، سعت القوات المسلحة للتحكم بمفاصل الاقتصاد المصري، وبرزت الهيئة الهندسية كأداة فاعلة لتحقيق ذلك الهدف؛ حيث وضعت يدها على قطاع المقاولات والبنية التحتية، وأشرفت على تنفيذ وإنشاء شبكات الطرق الحرة والكباري والمطارات والفنادق والمدن العمرانية الجديدة في مختلف محافظات مصر. وقد بلغ حجم المشروعات التي نفذتها الهيئة، بحسب رئيسها اللواء إيهاب الفار 20 ألف مشروع بتكلفة 4.5 تريليون جنيه، وهو مبلغ ضخم قوّض بشكل كبير انخراط القطاع الخاص في تلك المشاريع في ظل عدم قدرته على منافسة مؤسسات الجيش التي تتمتع بالعديد من الميزات مثل الإعفاءات الضريبية والجمركية ومجانية الأراضي التي تقام عليها المشاريع وانخفاض تكلفة التشغيل لمحدودية رواتب الجنود.ورغم وجود فائض في صناعة الأسمنت بمصر قُدر بقرابة 15 مليون طن في عام 2016، فقد مُنح مصنع تابع للقوات المسلحة ببني سويف رخصة جديدة، وبدأ في العمل عام 2018 مما أدى إلى رفع الفائض إلى 30 مليون طن، وهو ما تسبب في زيادة أزمة مصانع الأسمنت في مصر، وبالأخص في ظل قرار وقف عمليات البناء بانتظار صدور قانون البناء الموحد فضلاً عن رفع أسعار الوقود والغاز الذي تستخدمه المصانع مما رفع كلفة الإنتاج وأدى إلى إغلاق بعض المصانع مؤقتاً مثل مصنع أسمنت بورتلاند طره.كذلك انخرطت القوات المسلحة في مشاريع الاستزراع السمكي، حيث افتتح السيسي في 2017 المرحلة الأولى من المزرعة السمكية بمنطقة غليون بتكلفة تتجاوز 4 مليارات جنيه على مساحة نحو 4 آلاف فدان، وهو مشروع تابع لجهاز مشروعات الخدمة الوطنية. كما افتتح السيسي في عام 2021 مشروع الفيروز للاستزراع السمكي بشرق التفريعة في محافظة بورسعيد على مساحة 26 ألف فدان، وهو مشروع تابع للشركة الوطنية للثروة السمكية والأحياء المائية التابعة للقوات المسلحة بالتعاون مع هيئة قناة السويس.
كما أشرف جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، بالتنسيق مع وزارة الزراعة، على مشروع تربية سلالات محسنة من البتلو، وتأسيس مراكز لتجميع الألبان في أنحاء البلاد، وذلك بهدف توفير اللحوم والألبان محلياً.
سادساً: التحكم في تعيين رئيس محكمة النقض
يمثل القضاء أحد أهم المؤسسات في الدول المعاصرة، وجرى العرف على استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية لضمان حياده وعدم تأثر أحكامه بتوجهات السلطة. لكن السيسي أجرى تعديلات في عام 2019 على قانون السلطة القضائية نصّت على اختصاص رئيس الجمهورية بتعيين رئيس محكمة النقض بين أقدم سبعة نواب لرئيس المحكمة، في حين أن القانون السابق الصادر في عام 1972 نص على تعيين رئيس محكمة النقض من بين نواب رئيس المحكمة بعد أخذ رأى مجلس القضاء الأعلى الذي يُعين أعضاؤه بناء على ترشيح الجمعية العامة لمحكمة النقض. وبذلك نجد أن السيسي أصبح عقب تعديلات القوانين التي أجراها في عام 2019 هو الذي يعين رئيس محكمة النقض، ورئيس هيئة النيابة الإدارية، ورئيس هيئة قضايا الدولة، ورئيس مجلس الدولة، والنائب العام، ورئيس هيئة القضاء العسكري، ورئيس المحكمة الدستورية العليا، كل من بين أقدم سبعة نواب له. وهو ما يجعل نواب رؤساء الهيئات القضائية يتسابقون على إرضاء السلطة التنفيذية، وبالأخص شاغل منصب رئيس الجمهورية كي تزداد فرص وصولهم إلى منصب رئيس الهيئة القضائية التي يعمل بها. سابعاً: الوصاية على ضباط الجيش المتقاعدين، وتحويل القوات المسلحة بالوصاية على الحياة السياسيةبعد محاولة رئيس أركان القوات المسلحة السابق الفريق سامي عنان الترشح للرئاسة في عام 2018، وكذلك العقيد أحمد قنصوة، أجرى السيسي تعديلات في بعض أحكام قوانين شروط الخدمة والترقية لضباط القوات المسلحة والقيادة والسيطرة وشؤون الدفاع عن الدولة والمجلس الأعلى للقوات المسلحة بالقانون 167 لسنة 2020، وبمقتضاه لا يجوز للضباط بالخدمة أو من انتهت خدمتهم بالقوات المسلحة الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية أو المجالس النيابية أو المحلية إلا بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ويجوز لصاحب الشأن الطعن على قرار المجلس المشار إليه أمام اللجنة القضائية العليا لضباط القوات المسلحة خلال 30 يوماً من تاريخ إعلان صاحب الشأن به ويكون قرارها في الطعن نهائياً. ولا يجوز الطعن في قرارات اللجنة أو المطالبة بإلغائها بأي وجه من الوجوه أمام أية هيئة أو جهة أخرى.ولم يكتف السيسي بذلك، إنما منحت التعديلات بالقانون المذكور القوات المسلحة حق: · إبداء الرأي في طلب التعديلات الدستورية. · إبداء الرأي في مشروعات القوانين المتعلقة بالحقوق السياسية وانتخابات رئاسة الجمهورية والمجالس النيابية والمحلية بما يُحافظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها وحقوق وحريات الأفراد. · إبداء الرأي في مشروعات القوانين المرتبطة بالأمن القومي.وبذلك أصبحت القوات المسلحة تتمتع بالوصاية على الحياة السياسية رغم أن هذا يقع خارج مهامها الأصلية.
ثامنا: السيطرة على الإعلام
في عام 2018 صدرت عدة قرارات جمهورية تضمنت قوانين تختص بتنظيم الصحافة والإعلام، ومن أبرزها: قانون الهيئة الوطنية للإعلام. وهو يقنن دور الهيئة المتمثل في إدارة المؤسسات الإعلامية العامة لتقديم خدمات البث والإنتاج التلفزيوني والإذاعي والرقمي، والخدمات الهندسية المتعلقة بها، فضلاً عن ضمان التزام المؤسسات الإعلامية العامة بمقتضيات الأمن القومي. وهو تعبير فضفاض يساوي عادة بين الأمن القومي وأمن النظام الحاكم، وشخص رئيس البلاد. وقد كفل القانون للهيئة تعيين رؤساء المؤسسات الإعلامية العامة وكذا المواقع الإلكترونية الإعلامية العامة، وعزلهم في حالة إخلالهم بواجبات وظائفهم أو فقدهم لشرط من شروط التعيين.. كما نص القانون على أن رئيس الجمهورية هو الذي يختص باختيار رئيس الهيئة الوطنية للإعلام. وهو ما يجعل الهيئة مجرد أداة لتنفيذ السياسات الإعلامية للنظام الحاكم. قانون بتنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. والمجلس المذكور عبارة عن هيئة تتولى تنظيم شؤون الإعلام المسموع والمرئي والرقمي والصحافة المطبوعة والرقمية وغيرها. ووفق هذا القانون، لا يجوز تأسيس مواقع إلكترونية في مصر أو إدارتها أو إدارة مكاتب أو فروع لمواقع إلكترونية تعمل من خارج البلاد إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من المجلس الأعلى. كما يشترط في من يتملك صحيفة أو موقع إلكتروني أو يشارك في ملكيته، وكذلك يُشترط في مدير التحرير ألا يكون أي منهم محروماً من مباشرة الحقوق السياسية، أو صدر ضده حكم في جناية، أو في جنحة مُخلة بالشرف. وهو ما يمنع آلاف المعارضين من امتلاك أو رئاسة تحرير صحف أو مواقع إلكترونية في مصر.
وفي حال نشر بعض الصحف المرخصة لمخالفات، فإن من حق المجلس تلقى وفحص شكاوى ذوى الشأن عما ينشر بالصحف أو يبث بوسائل الإعلام ويكون منطوياً على مساس بسمعة الأفراد أو تعرض لحياتهم الخاصة، وله إحالة الصحفي أو الإعلامي إلى النقابة المعنية لمساءلته في حال توافر الدلائل الكافية على صحة ما جاء في الشكوى ضده. كما يتكفل المجلس بضمان التزام الوسائل والمؤسسات الإعلامية والصحفية بمقتضيات الأمن القومي. وهو التعبير الذي يتكرر في العديد من القوانين الصادرة بعد 2013، والذي يسهل توظيفه في مواجهة معارضي النظام عبر اتهامهم بتهديد الأمن القومي.
كما يضع المجلس شروطاً معقدة للسماح بإصدار تراخيص الصحف والمواقع الإلكترونية من بينها أن تطبع الصحف في مطابع داخل مصر، على أن توجد نسخة من الخوادم التي تستضيف النسخة الإلكترونية داخل مصر، وفي مواجهة أي احتمال للالتفاف حول شروط إصدار تراخيص الصحف بعد صدورها، ينص القانون على عدم جواز التصرف في الصحيفة أو في حصة منها كلياً أو جزئياً إلى الغير أو الاندماج مع أو في مؤسسة أخرى دون الحصول على موافقة كتابية مسبقة من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.تاسعاً: السيطرة على انتظار المركبات في الشوارعلم تقتصر جهود النظام على التحكم في المجالات الاقتصادية والسياسية الكبرى، إنما انشغل بأبسط الأنشطة مثل مهنة السايس الذي يختص بتنظيم انتظار السيارات في الشوارع، وهي مهنة من لا مهنة له. فصدر في عام 2020 قانون تنظيم انتظار المركبات في الشوارع، والذي بموجبه لا يجوز مزاولة نشاط تنظيم انتظار المركبات بالأماكن الخاضعة قبل الحصول على رخصة مزاولة نشاط على أن يُحدد رسم استخراج الرخصة بما لا يتجاوز ألفي جنيه، بحيث تسري الرخصة لمدة 3 سنوات ويجوز تجديدها. كما نص القانون على أن يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر وبغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تزيد عن خمسة آلاف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من يمارس نشاط تنظيم انتظار المركبات في الشوارع دون ترخيص أو في غير الأماكن المحددة لذلك.
ومن خلال النماذج المذكورة في المحاور السابقة نجد أن عقلية الهيمنة على المجتمع، والرقابة على أنشطة أفراده، وتدخل الدولة في تفاصيل حياة المواطنين هي السمة الأبرز للنظام المصري الحالي الذي يطمح لمراقبة كل مواطن عن كثب أملاً في تلافي تكرار نموذج
ثورة يناير 2011 مجدداً.