هل يتراجع قيس سعيد عن “انقلابه” بعد تصعيد الغنوشي الأخير؟
السياسية:
برز العديد من المستجدات على الساحة التونسية والتي تؤشر إلى أن مسار العملية السياسية سيأخذ منحى جديداً، خصوصاً أن معارضي الرئيس قيس سعيد صعّدوا من لهجتهم وزادوا في جرعة معارضتهم لقراراته. فبعد أشهر من التنديد بـ”الانقلاب” و”السلطوية” المفرطة للرئيس والمطالبة بالعودة للوضع الذي كانت عليه البلاد قبل 25 يوليو/تموز الماضي (تاريخ تفعيل قيس سعيد للفصل 80 من الدستور وإقالة حكومة هشام المشيشي وتجميد البرلمان ورفع الحصانة على النواب وتعطيل العمل بالهيئات الدستورية)، انتقل معارضو الرئيس لخطاب سياسي جديد فيه الكثير من التحدي والجرأة مقارنة بالخطابات والبيانات السابقة لحركة النهضة وجماعة “مواطنون ضد الانقلاب”.
فقد قال رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس النواب المجمدة أعماله، راشد الغنوشي، بتاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني على هامش إشرافه على اجتماع بقيادات حركة النهضة ببنزرت (محافظة تونسية شمال شرق البلاد) أن “مجلس النواب المجمدة أعماله عائد أحب من أحب وكره من كره”، وفق قوله.
ثم تلت تصريحات الغنوشي تأكيدات رياض الشعيبي، المستشار السياسي لرئيس حركة النهضة، بأن “البرلمان التونسي سيلغي كل المراسيم الرئاسية التي أصدرها رئيس الجمهورية قيس سعيّد، منذ 25 يوليو/تموز الماضي، في أول جلسة له عند استئناف نشاطه” لتكمل حزمة التصريحات التصعيدية ذات النبرة الجديدة التي لم نألفها في خطاباتهم السابقة.
هنالك تطورات نوعية في تعرجات المشهد السياسي في تونس من المحتمل أن تؤدي لخارطة طريق جديدة للخروج من الأزمة السياسية التي تطبع مسار “المرحلة الانتقالية” التي وعد قيس سعيد أنصاره وداعميه محلياً ودولياً بأن تكون محدودة في الزمن، خصوصاً أن هنالك معطيات جديدة قادرة على أن تؤثر في القرار الرئاسي في قرطاج.
فما هي خلفية تصعيد حركة النهضة؟ وكيف سيتعامل الرئيس مع المأزق الاقتصادي وعجز ميزانية الدولة؟ وهل له علاقة بالحوار مع اتحاد الشغل والضغوطات الخارجية؟ وكيف سيتعامل رئيس الجمهورية مع هذه التطورات الجديدة؟ وهل سيحسم تقرير دائرة المحاسبات الصراع الدائر بين قرطاج وباردو؟
دوافع تصريحات الغنوشي
تصريحات رئيس البرلمان المجمدة أنشطته راشد الغنوشي حول عودة نشاط البرلمان بتلك الحدة والصرامة لم تأتِ من فراغ ولم تكن مجرد تبذير لغوي، وإنما لها أساس في الواقع حسب المعطيات الجديدة في الميدان. فالشيخ “التكتاك” كما يحلو لخصومه ومريديه أن يلقبوه يعي جيداً ما يقول وإلى ماذا يريد أن يصل بما يقوله.
فالغنوشي، وبالرغم من خسارته معركة البرلمان لـ- حد الآن-، إلا أنه على وعي بعمق المأزق السياسي الذي وصل إليه رئيس الجمهورية قيس سعيد نفسه إثر العزلة الداخلية والدولية التي وضع فيها نفسه بسبب استماتته في رفض إجراء حوار وطني شامل ليس مع معارضيه فقط، بل حتى مع الأطراف النقابية والسياسية الداعمة له، وعلى رأسهم الاتحاد العام التونسي للشغل وحزب حركة الشعب الذين تراجعوا عن مساندته مؤخراً في قراراته التي اتخذها في 25 يوليو/تموز عندما جمّد البرلمان وحل الحكومة وفي 22 سبتمبر/ أيلول عندما جمع كل السلطات التشريعية والتنفيذية في يديه بمرسوم رئاسي 117 وعطل أغلب فصول الدستور.
راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة
دعم هذه الأطراف لسعيد أصبح اليوم مشروطاً بوضع سقف زمني “للمرحلة الانتقالية” وتنظيم حوار وطني يشارك فيه الجميع بمن فيهم حركة النهضة وقلب تونس اللذان لطالما رفع سعيد ضدهما الفيتو.
لكن الأهم من هذا هو الحوار غير المعلن الذي تجريه حركة النهضة مع اتحاد الشغل، فبحسب النائب ياسين العياري “المفاوضات تقدمت جداً بين النهضة والاتحاد، الذي سيقود المرحلة المقبلة في تحطيم الانقلاب”، على حد تعبيره.
هذا وكشفت مصادر عديدة عن وجود ضغوط خارجية- أمريكية تحديداً- على الرئيس التونسي من أجل فتح قنوات الحوار مع معارضيه، وإلا فإن صندوق النقد الدولي، الذي تهيمن على قراراته الولايات لن يعطي دعماً مالياً ولا قروضاً لتونس، هي في أمسّ الحاجة إليها.
وفي هذا السياق، تتنزل تصريحات رئيس حركة النهضة الذي يحاول أن يصعد الضغط على سعيّد محلياَ ودولياَ لدفعه لتقديم تنازلات وجره لطاولة الحوار بمشاركة كل أطياف المعارضة.
معضلة الاقتصاد الضاغط
ما يضيق الخناق على الرئيس سعيد ويدفع معارضيه لمزيد من تصعيد اللهجة ضده هو وضعية الدولة المالية العالقة بين سندان عجز ميزانية الدولة التي تحتاج إلى تعبئة موارد إضافية بقيمة تتجاوز الـ 10 مليارات دينار تونسي (3.59 مليارات دولار) إلى نهاية العام 2021، ومطرقة صندوق النقد الدولي الذي يشترط إصلاحات اقتصادية موجعة ورفع الدعم عن المواد الأولية (الخبز والزيت والمحروقات…) وخصوصية كل أو جزء مهم من المؤسسات والشركات العمومية من أجل دعم ميزانية تونس وإسداء قروض تحتاجها البلاد في أقرب فرصة سانحة وإلا فإنها ستجد نفسها غير قادرة على سداد رواتب موظفي الدولة انطلاقاً من شهر فبراير/شباط 2021 الذين يقدر عددهم بـ690.091 بكتلة أجور تبلغ 16.54 مليار دينار أي ما يقارب 70% من الموارد المالية للدولة و3/1 ميزانيتها دون احتساب الميزانية التكميلية.
الرئيس يريد “تعبئة” الشارع
إن الإصلاحات الاقتصادية المطلوب من الدولة التونسية القيام بها لاسترضاء الدائنين الدوليين تتطلب توافقاً سياسياً واسعاً حولها، خصوصاً من طرف اتحاد الشغل أكبر نقابة في البلاد (700 ألف منخرط) الذي لا يمكن إجراء أي تعديلات اقتصادية أو مفاوضات دون مشاركته وقبوله بها.
فالاتحاد بمقدوره أن يقف أمام أي خيارات مسقطة تمس الأمان الاجتماعي لمنخرطيه ولم يشارك في صياغتها، وبالتالي فمن المتوقع أن لا يقبل بإجراء إصلاحات كبرى على الاقتصاد عبر مراسيم رئاسية لا تقع مناقشة مضمونها ولا الاتفاق على تفاصيل خطة الإصلاح مسبقاً قبل الذهاب الى صندوق النقد. وهذه تعتبر معضلة أخرى أمام الرئيس سعيد لا يقدر على تخطيها إذا ما أراد أن يسد عجز ميزانية سنة 2021 أو أن يجلب موارد مالية لميزانية 2022.
عودة المبادرة لاتحاد الشغل
الكرة إذا باتت في ملعب المنظمة الشغلية في تونس والتي صار بمقدورها إسقاط أي قرارات أحادية الجانب تصدر عن مؤسسة رئاسة الدولة، سواء في المجال السياسي أو الدستوري او الاقتصادي، أو هذا ما فهم من تصريحات الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي. وعليه، ولضمان هذا الرضا والدعم، لابد من أن يغير الرئيس من تمشيه وأن ينهى حالة القطيعة مع النخب السياسية والمعارضة والطرف النقابي.
وهو ما أشار إليه الأمين العام للاتحاد الذي اعتبر أن الحل لا يكون إلا في إطار “تونسي- تونسي” وبأنه الوحيد القادر على إنقاذ البلاد ودونه لن يتحقق شيء، مشدداً في السياق ذاته على أن حلحلة الوضع السياسي في تونس تحتاج الى أن يثوب الجميع الى رشدهم” و”يتم وضع حد للانفراد بالرأي والقرار في ما يتعلق بمصير البلاد”.
ورقة التمويل الأجنبي
لم يعد هنالك من خيارات كثيرة للرئيس قيس سعيد، فإما أن يواصل في سياسة التفرد بالرأي والقرار السياسي أو ينفتح على مختلف مكونات الطبقة السياسية إلا من كانت تلاحقهم قضايا عدلية ومتهمين في قضايا فساد، ولكل اتجاه إما عواقب أو انفراجات، هذا تقريباً ما يتفق حوله جل المتابعين للشأن السياسي في تونس.
تصعيد المعارضة وتغير موقف اتحاد الشغل والضغوطات الخارجية بخصوص الحوار الوطني وربطه بإعطاء الضوء الأخضر لمنح القروض والمساعدات المالية الدولية كل ذلك يقلص من هامش المناورة بالنسبة للرئيس قيس سعيد ويدفعه باتجاه مقارعة “دونكيشوتية” لطواحين الهواء من خلال توجيه “صواريخه” الدستورية والأمنية والقضائية تجاه خصومه في البرلمان المجمّد وخاصة حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة، وذلك اعتماداً على تقرير محكمة المحاسبات لانتخابات سنة 2019 والذي يرصد تجاوزات تتعلق بالتمويل الأجنبي للأحزاب التي يجرمها القانون.
وينص الفصل 163 من القانون الانتخابي أنه إذا ثبت لمحكمة المحاسبات أن المترشح أو القائمة قد حصلت على تمويل أجنبي لحملتها الانتخابية فإنها تعاقب بدفع بخطية مالية تتراوح بين عشرة أضعاف وخمسين ضعفاً لمقدار قيمة التمويل الأجنبي، ويفقد النواب المتهمون بالتمويل الأجنبي عضويتهم بمجلس نواب الشعب ويعاقب المترشح لرئاسة الجمهورية المتمتع بالتمويل الأجنبي بالسجن لمدة خمس سنوات، ويحرم كل من تمت إدانته بالحصول على تمويل أجنبي لحملته الانتخابية من أعضاء قائمات المترشحين من الترشح في الانتخابات التشريعية والرئاسية الموالية.
طبعاً ستكون هذه الوصفة المثالية بالنسبة لقيس سعيد حتى يتخلص من خصومه دفعة واحدة ويضمن عدم مشاركتهم في الحوار الوطني المنتظر ولا حتى ترشحهم للانتخابات التشريعية السابقة لأوانها إلا أن هذا الأمر يبقى رهين إنهاء القضاء النظر في تقرير دائرة المحاسبات وإصدار أحكام في شأن القائمات والنواب المعنيين بالتقرير في أقرب الآجال.
وربما هذا هو السبب وراء عدم إصدار رئيس الجمهورية مرسوماً بحل البرلمان لأنه يعلم جيداً أن ذلك سيجبره على الدعوة تلقائياً لإجراء انتخابات تشريعية، يشارك فيها الإسلاميون بالضرورة. ومن يدري النتيجة التي يستطيعون تحقيقها، حتى بعد تراجع شعبيتهم؛ لذلك يسعى قيس سعيد أن ينهي ما بدأه من إقصاء خصومه تمهيداً لوضع أسس للنظام الرئاسي الذي يحلم به.
يذكر أن قائمات انتخابية من بينها قائمات لحركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة ومترشحين للانتخابات الرئاسية من بينهم رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي وردت أسماؤهم في تقرير دائرة المحاسبات ولا يزال التحقيق فيها جارياً لحد الآن، إلا أن رئيس الجمهورية يريد القفز على المسار القضائي واستصدار مراسيم رئاسية تستعيض عن الإجراءات القضائية العادية، بحكم جمعه لكل السلطات في يديه، وذلك لأجل التعجيل بإصدار عقوبات على القائمات والمترشحين المخالفين، مما اعتبره معارضوه “انقلاباً مكتمل الأركان” بما أنه يريد استكمال إخضاع السلطة القضائية لمشيئته وجمع كل صلاحياتها.
حالمة أم عقلانية؟
من جانبه، اعتبر المستشار السياسي لراشد الغنوشي، رياض الشعيبي، في حديثه لإذاعة محلية أن أي مرسوم رئاسي يصدره رئيس الجمهورية لإسقاط قائمات انتخابية فازت في الانتخابات التشريعية 2019 “لا معنى قانونياً ولا سياسياً له”.
بالمقابل، تأمل غالبية القوة السياسية والنقابية في تونس أن يتعامل سعيد بعقلانية وواقعية مع الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المعقد والتراجع عن الانغلاق على نفسه في قصر قرطاج والخروج من شرنقة مستشاريه الضيقة، و”عدم الاستماع لمن يشجعونه على طريق الانفراد بالرأي وتجاوز الدستور ويصورون له الوضع على أنه مثالي إلا أنهم في الحقيقة يدفعونه للسقوط”، كما ورد في حديث محمد عبو لقناة التاسعة (خاصة).
هنالك تقديرات تقول بأنه من الممكن أن يقدم قيس سعيد على تقديم تنازلات في علاقة بشروط الحوار الوطني بسبب الضغوطات الخارجية من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، إلا أنه لا شيء ثابتاً ونهائياً عندما يتعلق الأمر بقرارات الرئيس “الغامض” و”المتصلب” مثلما يصفه خصومه ومعارضوه، وتبقى قراراته مفتوحة على كل الاحتمالات.
*المادةالصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رآي الموقع