السياسية:
متابعات : صادق سريع

الحرب الأهلية التي بدأت في إقليم تيغراي تكشف عن هشاشة الدولة وعمق الخلافات العرقية والدينية 
ووقف إطلاق النار لا يعني انتهاء خطر التقسيم واستمرار الخلافات بين المناطق والأعراق

في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد  الانتصار على جبهة تحرير شعب تيغراي، والسيطرة على الأوضاع في الإقليم.

واحتفل بتعيين حكومة إقليمية موالية لأديس أبابا.

لكن شيئاً من هذا لم يحدث.

انتظر أبناء الإقليم عدة شهور، ثم فاجأوا الزعيم المنتصر بإطلاق جبهة تحرير شعب تيغراي، والانتقال من وضعية الدفاع إلى الهجوم على القوات الإثيوبية، وحلفائها من القوات الإريترية وأعراق إثيوبية أخرى.

ووفق تقرير مطول نشره موقع عربي بوست ،صنعت قوات تيغراي “ريمونتادا” تاريخية، وهي تستعيد السيطرة على عاصمة الإقليم “ميكيلي”، ومعظم المدن في الإقليم بعد طرد القوات الإثيوبية والإريترية، وأخذت زمام المبادرة في تطور مهم بالزحف نحو الأقاليم المجاورة.

ى آبي أمام البرلمان الإثيوبي في يوليو/تموز 2021 ليواصل مزاعمه، ويتحدث عن حشد أكثر من 100 ألف مقاتل، واستعداد مليون شاب للقتال في تيغراي.

قال سيد أديس أبابا: حكومة تيغراي سرطان في إثيوبيا يجب استئصاله.

ولم يكن في هذه التصريحات ظل من الثقة أو بوادر انتصار، بل كانت اعترافاً ضمنياً من الحكومة الفيدرالية بعدم قدرة جيشها على القتال بمفرده ضد قوات جبهة تحرير شعب تيغراي.

واعترافاً ثانيا بأنها تخطط لجرّ الأقاليم الإثيوبية لحرب لا تخصها بل تخص بالأساس الصراع بين قوميتي تيغراي وأمهرة. 

وانقسمت القوميات الكثيرة بين فريقي تيغراي والعاصمة.

انقسمت إثيوبيا المرشحة للانقسام بحكم الطبيعة، والاختلافات، والتنوع الثقافي الهائل.

طوال القرن الماضي كانت إثيوبيا تعيش سلسلة من الصراعات والنزاعات العرقية بين معظم الأقاليم الإثيوبية، أبرزها الأزمة السياسية بين مشروعين متعارضين:

الفيدرالية الإثنية التي تنادي بها بعض العرقيات والأقاليم.

والنظام المركزي الذي يشكل دولة لها عاصمة واحدة، وقرار واحد.

لكن أزمة إقليم تيغراي سلَّطت الضوء على خطر تفكك إثيوبيا، التي وُلدت بأسباب كثيرة لعدم الاستقرار منذ نهاية القرن الـ19، ولم تشهد من وقتها سلاماً داخلياً إلا نادراً.

الإخوة الأعداءهنا تتشابك الخلافات بين الجماعات العرقية مع التوترات الدينية في لوحة سياسية معقدة

من السهل رؤية الانقسامات في إثيوبيا على أنها نتيجة حتمية للمساحة الشاسعة والتنوع الإثني.

إثيوبيا هي البلد رقم 27 في العالم من حيث المساحة.

وموطن لأكثر من 80 مجموعة عرقية مختلفة.

لكن لا الجغرافيا ولا الديموغرافيا هي القدر، ما حدث أن القادة الإثيوبيين المتعاقبين أثاروا التوترات العرقية والمناطقية، وحكم كل منهم بطريقة أعطت مجتمعاً واحداً على الأقل سبباً للشعور بالظلم.

تبنَّت إثيوبيا نظام الفيدرالية الإثنية في عام 1995، وهو نظام يبدو في ظاهره أنه من أجل حل التنوع الإثني الواسع وللحد من التوترات الإثنية في البلاد.

لكن ما شهدته البلاد كان العكس.

هناك الآن ما لا يقل عن 13 مجموعة عرقية مختلفة تطالب حالياً إما بمزيد من الحكم الذاتي أو الانفصال الذي يكفله الدستور، لكن تلبية هذه المطالب صعبة للغاية، على سبيل المثال، تطالب مناطق مثل تيغراي وأمهرة بأجزاء من أراضي بعضها البعض وقد ظلت عالقة في نزاعات حدودية طويلة الأمد.

النزاعات الداخلية الإثيوبية هي خلافات على أساس عرقي مغلفة بالنزعات الدينية.

أبرز الخلافات موجودة بين الكنيسة الأرثوذكسية وطائفة البروتستانت والمسلمين.

وتتحدد الخلافات بينهم من خلال السيطرة على الهوية الإثيوبية وتعزيز النفوذ الداخلي.

تسعى هذه الأطراف أيضاً لزيادة أتباع الطوائف والهيمنة الثقافية.

تسعى إلى توسعات الأراضي المملوكة للعرقيات مع تزايد حركات التبشير وخاصة من البروتستانت، والحفاظ على الوجود.

تتكون إثيوبيا من تسعة أقاليم عرقية ذات حكم ذاتي. تقول دائرة المعارف البريطانية إن هناك العديد من القوميات في إثيوبيا، مشيرة إلى أن التمايز اللغوي يعد من أبرز أسباب الخلافات في البلاد، حيث يوجد في هذا البلد نحو 100 لغة يمكن تقسيمها إلى 4 مجموعات لغوية رئيسية هي السامية والكوشية والأومية وجميعها من الأسرة الآفرو آسيوية، كما أن هناك مجموعة رابعة تنتمي إلى النيلية وهي جزء من أسرة نيل الصحراء اللغوية.

هناك أيضاً 4 مجموعات عرقية كما تشرح السطور التالية، إلى جانب أعراق أخرى مثل مثل الغوراغ والولياتا وعفار وهادييا وغامو وغيرها.

أورومو

تتركز قومية الأورومو بوسط إثيوبيا ويشكلون نحو 34% من عدد السكان، وهم يتحدثون اللغة الأورومية، ويعملون بالزراعة والرعي.

والأورومو أكبر جماعة عرقية في إثيوبيا ويشكون منذ زمن طويل من تعرضهم للتهميش.

كانت احتجاجات الأورومو المناهضة للحكومة قد اندلعت في عام 2015 بسبب نزاع مع الحكومة حول ملكية بعض الأراضي، ولكن رقعة المظاهرات اتسعت لتشمل المطالبة بالحقوق السياسية وحقوق الإنسان، وأدت لمقتل المئات واعتقال الآلاف.

الأمهرة

ثاني أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا ويتحدثون اللغة الأمهرية، وهي اللغة الرسمية للجمهورية.

يشكل الأمهريون نحو 27% من عدد السكان. وبحسب المعتقد التقليدي فإن أصول الأمهرة ترجع إلى سام الابن الأكبر لنوح الذي وردت قصته في العهد القديم.

التيغراي

يمثل أبناء التيغراي أكثر من 6% من الشعب الإثيوبي وأغلبهم يعيشون في شمال البلاد.

القومية الصومالية

يشكل الصوماليون أيضاً نحو 6% من تعداد الشعب الإثيوبي، وهم يتركزون في منطقة أوغادين كما ينتشرون في أنحاء البلاد.

فيديو دقيقة ونصف: ماذا تعرف عن القوميات الإثيوبية؟

الدين في إثيوبيا ساحة أخرى للصراع الثقافي والعرقي

تبدو مشكلة الاختلاف الديني في إثيوبيا أكثر تعقيداً من المعتاد، لأن الدين غالباً ما يكون مرتبطاً بعرق معين.

يقترب عدد السكان في نهاية 2021 من 120 مليون نسمة.

في آخر إحصاء سكاني في عام 2007 كان هناك 44% من السكان ينتمون لكنيسة التوحيد الأرثوذكسية.

ونحو 34% من المسلمين السنة. 

ثم 19% ينتمون إلى الجماعات المسيحية الإنجيلية أو البنتاي كما تطلق عليهم الكنيسة الأرثوذكسية.

إلا أن هذه التركيبة السكانية قد شهدت تطوراً بزيادة نسبة أتباع الكنيسة الإنجيلية. 

تصف الكنيسة الأرثوذكسية نفسها بأنها “جوهر” الهوية الإثيوبية، في محاولة للسيطرة على الهوية الإثيوبية.

مرة أخرى تتدخل الاختلافات العرقية لتصنع الانقسامات تحت سقف الكنيسة الواحدة.

خلافات عرقية تنبع من الأصول التي ينتمي إليها رؤساء الكنيسة سواء لقومية التيغراي أو الأمهرة، اللتين تتحكم بهما الخلافات التاريخية على الأرض والموارد والسيطرة على الحكم. 

كان 2019 عام الخلافات على أسس دينية وطائفية، لا سيما بعد الهجوم الذي استهدف حرق 3 كنائس وتدمير 4 أخرى نتيجة أعمال عنف في منطقة سيداما التي كانت تطالب بالانفصال.

وفي المقابل أحرق شباب من الكنيسة الأرثوذكسية بمنطقة أمهرة عدة مساجد وقاموا بتخريب الأعمال التجارية المملوكة لمسلمين، وتم اعتقال 55 من أتباع الكنيسة على إثرها. 

الخلاف ليس بين المسلمين والمسيحيين فقط.

هناك صراع داخل الطوائف المسيحية ذاتها، وعادة ما يتبادل  بعض البروتستانت والمسيحيين الأرثوذكس الاتهامات بالهرطقة، وبالعمل على تحويل الأتباع من دين إلى آخر.

ممنوع بناء المساجد في هذه المدينة

مدينة أكسوم القديمة في إثيوبيا هي مدينة مقدسة بالنسبة للمسيحيين الأرثوذكس الإثيوبيين.. إنها مدينة ملكة سبأ، و”تابوت العهد”.

ويعتقد أن بها التابوت الذي يحوي الوصايا العشر التي أرسلها الله للنبي موسى، وأنه في عهدة رجال الدين في المدينة.

وتنظم بعض المجموعات الإسلامية حملات من أجل بناء مسجد في المدينة، وهو ما رفضه الزعماء المسيحيون بشدة قائلين إنهم يفضلون الموت على أن يحدث ذلك.

وقال أحد كبار رجال الدين المسيحيين لموقع بي بي سي إن “أكسوم بالنسبة لنا مثل مكة بالنسبة للمسلمين، فكما يحظر بناء الكنائس في مكة يحظر بناء المساجد في أكسوم”.

ويضيف: “أكسوم مكان مقدس. هذه المدينة هي دير”.

ويرى البعض مفارقة غريبة في هذا الجدل، حيث إن مملكة أكسوم Aksum عُرفت بتسامحها الديني.

وشهدت المدينة في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 عمليات قتل جماعي، قالت منظمة هيومان رايتس ووتش إنها ترقى إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية، بأيدي القوات الإثيوبية والإريترية، ضد سكان المدينة العزّل.

الخلافات السياسية “مؤممة” لصالح الحزب الحاكم

بعد سلسلة التغيرات التي طرأت على المشهد الإثيوبي في الأعوام الأخيرة، مثل الصراع في إقليم تيغراي، ونتائج الانتخابات العامة الأخيرة، أضحى الفاعلون الأساسيون على الساحة الإثيوبية يتمثلون في 4 قوى أساسية:

1. جبهة حزب الازدهار الحاكم

الحزب الذي فاز بأغلبية مطلقة في انتخابات 2021، ما يمنحه حق تشكيل الحكومة الإثيوبية الجديدة بزعامة آبي أحمد. 

تأسس الازدهار نهاية 2019، من ائتلاف 8 أحزاب تمثل معظم المناطق، الأمر الذي خلق للحزب علاقات ومناطق نفوذ واسعة بالأقاليم. 

2. قومية الأمهرة

الحليف الرئيس لآبي أحمد والظهير السياسي والشعبي له في الداخل بعد تخليه عن قومية أورومو. 

تخشى القوميات الأخرى رغبة الأمهرة في استعادة الاحتكار السياسي والثقافي لإثيوبيا، خاصة في ضوء تحالفها مع آبي أحمد، والسير باتجاه إلغاء الفيدرالية وتدشين نظام مركزي، تسيطر فيه العاصمة على حساب الأقاليم الإثيوبية. 

تتفق الأمهرة مع آبي أحمد على ضرورة التخلص من جبهة تحرير شعب تيغراي، باعتبارها خصماً عنيداً وعدواً تاريخياً، خاصة لأمهرة.

3. جبهة تحرير شعب تيغراي

رغم شيطنة النظام الحاكم لها خلال الفترة الأخيرة، استطاعت تغيير موازين القوة في الصراع الدائر منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020.

تستهدف جبهة تيغراي في ضوء مكتسباتها الاستراتيجية على الأرض إجبار أديس أبابا على القبول بشروطها، وهو ما قد يُعزز دورها السياسي في إثيوبيا مستقبلاً. 

4. المعارضة السياسية

أخفقت الأحزاب الإثيوبية في منافسة الحزب الحاكم في انتخابات 2021 نظراً لضعف قدراتها المادية واللوجستية وتشرذمها.

لكن السبب الأول هو أن حاكم البلاد وحامل جائزة نوبل للسلام، يطارد هذه الأحزاب ويضيّق عليها.

الأحزاب الثلاثة الأبرز التي خاضت الانتخابات هي بالديراس من أجل ديمقراطية حقيقية، حركة أمهرة الوطنية، والوحدة الإثيوبي.

وأطلق الثلاثي حملة سياسية مشتركة لمرشحيها، لكنها عادت لتقاطع الانتخابات، حيث اشتكت من تعرضها للانتهاكات والهجوم خلال الفترة التي سبقتها، بينما قرر الاتحاد الأوروبي عدم إرسال مراقبين لمتابعتها.

وفاز “الازدهار الحاكم” بأغلبية مطلقة.

حدث هذا بينما كان إسكندر نيغا زعيم حزب بالديراس رهن الاعتقال، في مزاعم تتعلق بالتحريض على الاحتجاجات.

ومع التطورات الراهنة في إثيوبيا وفقدان الثقة في نظام آبي أحمد، ظهرت بعض الحركات المقاتلة التي أعلنت الكفاح المسلح ضد النظام، مما يجعلها فاعلاً جديداً قد يُجبر آبي أحمد على تقديم تنازلات في بعض الملفات الداخلية.

الإمبراطور هَيْلي سيلاسي لا يموت.. يختفي ثم يعود

في عشرينيات القرن الماضي، أطلق ناشط حقوق السود في جامايكا، ماركوس غارفي، نبوءة أثرت كثيراً على مصير إثيوبيا.

قال غارفي لأتباعه إن عليهم “التطلع لإفريقيا عندما يتوَّج بها ملك أسود حيث يصير يوم الخلاص في متناول اليد”.

وفي 1930 تُوّج راس تافاري، أو هَيْلي سيلاسي Haile Selassie كما كان اسمه في التعميد، إمبراطوراً في إثيوبيا. 

واعتبر الكثيرون ذلك علامة على صدق النبوءة.

صار هيلي سيلاسي هو التجسد الثاني للمسيح، وصارت إثيوبيا أرض الميعاد.

وكان ذلك إيذاناً بمولد حركة الراستافاريين Rastafari، التي صدر حكم قضائي بعد ذلك باعتبارها ديناً.

عندما زار هيلي سيلاسي جامايكا عام 1966 لم يحاول معارضة هذه الحركة، بل وقف يحيي الآلاف الذين كانوا يتحرقون شوقاً لتلقي نظرة من “إلههم”.

وبعد ذلك بثلاث سنوات بدأ الراستافاريون في الانتقال لإثيوبيا حيث منحهم إمبراطورها قطعة أرض، وقد وصل عددهم لاحقاً إلى 300 شخص.

يعتقد الرستافاريون أن الإمبراطور هيلاسيلاسي هو الإله الحي، وأن الإنسان الأبيض كائن أدنى من الأسود، وأن إثيوبيا هي الجنة وجامايكا هي الجحيم، كما يؤمنون أن السود سيحكمون العالم في المستقبل القريب.

وبعد وفاة هيلي سيلاسي عام 1975 بعد عام من إطاحة ثورة ماركسية به وجد أتباعه أنفسهم أمام لغز.. ذلك أن الآلهة لا تموت.

وقاموا بحل هذا اللغز من خلال تفسير يقول إن الذي مات هو جسد هيلي سيلاسي الأرضي.

فيديو 3 دقائق: بوب مارلي يغني للإله الحي والإمبراطور الذي رحل

كانت 27 عاماً من الظلامالعقود الأخيرة كانت الأصعب في تاريخ إثيوبيا مع كل هذه الحروب الداخلية والمجاعات والنزوح الجماعي

سقط عرش الإمبراطور الإثيوبي هَيْلي سلاسي في أتون ثورة مسلحة 1974. واستولت على السلطة طغمة عسكرية عرفت باسم ديرغ Derg، وهو مختصر لاسم لجنة التنسيق بين القوات المسلحة والشرطة والجيش في الأقاليم.

تسببت هذه الشبكة العسكرية فيما عرف بـ”الإرهاب الأحمر” سيئ السمعة، عندما لقي عشرات الآلاف من الشباب مصرعهم، ووقعت حرب أهلية طويلة في جميع أنحاء البلاد.

في تلك الأيام اندلعت الشرارة الأولى لأزمة إقليم تيغراي.

وتقول دائرة المعارف البريطانية إنه في عام 1975 بدأت جبهة تحرير شعب تيغراي تمردها طويل الأمد ضد الحكومة العسكرية.

ثم ظهر تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية بقيادة جبهة تحرير تيغراي، ونجح في إسقاط الحكومة العسكرية في عام 1991.

وفي يومه الأول بالسلطة، قال زعيم التحالف المنتصر ميليس زيناوي، وهو من تيغراي، إن هدفه الأول هو أن يتمكن الإثيوبيون من تناول ثلاث وجبات في اليوم.

كانت الإشارة إلى مجاعة الثمانينيات التي هزت العالم، ويتذكرها البعض بين أسوأ المجاعات في العصور الحديثة.

ضربت المجاعة إثيوبيا وقتها إثر موجة جفاف شديدة، تزامناً مع حملة من نظام منغستو هيلا مريام لتقييد الإمدادات الغذائية، بهدف تجويع متمرّدي جبهة تحرير شعب تيغراي، والتهجير القسري للسكان.

تحولت المجاعة إلى كارثة في الشمال، وأدت إلى وفاة مليون شخص؛ وكانت غالبية الوفيات من مقاطعة تيغراي ومنطقة أمهرة وأجزاء أخرى من شمال إثيوبيا.

مات الإثيوبيون من الجوع إضافة إلى الأمراض والتعرّض للبرد، نظراً لأن عدداً كبيراً منهم هُجّر من منزله وبات بلا مأوى.

صعود آبي أحمد من السخط والمجاعات والألم

يصف رئيس الوزراء آبي وأتباعه هذه السنوات بأنها كانت “27 عاماً من الظلام”.

وقتها شعر جيل صاعد من الشباب بأن أصواتهم قد كُتمت وحُرموا من المشاركة في الحياة السياسية. ويعيدون أسباب ذلك إلى من يصفونهم بأنهم زمرة من التيغراي هيمنوا على السياسة والجيش والاقتصاد لمصلحتهم الخاصة.

وقادت موجة السخط تلك إلى أن يكتسح آبي أحمد- وهو من إثنية الأورومو- السلطة؛ بعد أن اختارته الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية زعيماً للحزب ومن ثم رئيساً للوزراء في عام 2018.

وقام أحمد بخطوات سريعة لدفع السياسة الإثيوبية في اتجاه أكثر ليبرالية، وحلّ تحالف الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية، وأنشأ حزباً جديداً سماه “حزب الرخاء”.

وكتب الخبير في الشأن الإثيوبي أليكس دي وال بهيئة الإذاعة البريطانية أن آبي أحمد “من المتدينين ومن أتباع الخمسينية، وهي حركة دينية بروتستانتية، وغالباً ما يتحدث كما لو أنه مفوَّض من الله”.

ويعتقد أنه يستمد الكثير من دعمه الآن من إثنية الأمهرة في أديس أبابا ومنطقة أمهرة.

تيغراي من السُّلطة إلى العداوة ثم الحرب

أعلنت العاصمة الفيدرالية الحرب على إقليم تيغراي بعد قراره إجراء انتخابات إقليمية في خريف 2020. واعتبر آبي أحمد القرار تجاوزاً للخطوط الحمراء.

لم تأذن الحكومة الفيدرالية بهذه الانتخابات ولم يكن حزب الرخاء الذي أسسه آبي أحمد قادراً على خوض المنافسة فيها.

وباتت ساحة المعركة السياسية هي دستور إثيوبيا.

الدستور يعتمد نظاماً فيدرالياً تدير فيه المجموعات العرقية الرئيسية مناطقها الخاصة.

وتتمتع ولايات إثيوبيا التي تشكل أقاليم، بشكل فريد، بالحق في تقرير مصيرها.

لم يطالب بذلك سكان تيغراي وحدهم بحق تقرير المصير، بل طالب به زعماء الجماعات الأخرى المهمشة تاريخياً أيضاً، بما فيها الأورومو، وهي أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا.

لم تطالب الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي بالانفصال، لكن منطق المواجهة بدأ يقودهم نحو هذا الطريق.

هناك العديد من الأسباب الوجيهة لانتقاد الفيدرالية العرقية، لكن الجماعات الإثيوبية المتنوعة، وهي مسلحة جيداً وواعية سياسياً، أوضحت أنه لا يمكن لأحد حكمها ضد إرادتها.

هدف آبي أحمد المعلن لإعلان الحرب هو فرض سيطرة الحكومة الفيدرالية على تيغراي، ولا يعتقد أي مراقب لما يدور في إثيوبيا أن ذلك ممكن.

وعلاوة على احتمال مقتل عشرات الآلاف في هذا الصراع الدامي، يتوقع الكتاب الأبيض عن الأمن القومي الصادر عن الحكومة الإثيوبية عام 2002 أنه “لا يمكن استبعاد احتمال التفكك تماماً” في حالة استمرار النزاع.

كل المناطق تنظر نحو العاصمة المركزية بكراهية 

دأبت الحكومة على رفض دعوات الحل الدبلوماسي لإنهاء العمليات العسكرية ضد جبهة تحرير شعب تيغراي التي تدير الإقليم، وحاولت إقناع العالم بأن ما يحدث في الولاية شأن داخلي. “مجرد عملية لتطبيق القانون ضد مجموعة مارقة تهدف لتدمير النظام الدستوري لإثيوبيا”.

في أغسطس/آب 2021 اندمجت 9 فصائل مناهضة للحكومة المركزية في تحالف سياسي وعسكري، بقيادة جيش تحرير أورومو وحركة آغاو الديمقراطية، إلى جانب جبهة تحرير شعب تيغراي، التي تقاتل حكومة آبي منذ 2020.

التحالف الجديد يحمل اسم الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية والكونفدرالية الإثيوبية.

التوترات في تيغراي ليست جديدة. فهي موطن 7 ملايين شخص من أصل 122 مليون نسمة عدد سكان إثيوبيا.

وأبناء تيغراي هم ثالث أكبر مجموعة عرقية في البلاد بعد الأورومو والأمهرة.

وتنقسم إثيوبيا إلى 10 ولايات إقليمية على أسس عرقية تتمتع بالحكم الذاتي إلى حد كبير ولكن مع مؤسسات مركزية.

وهناك عداء شديد للحكومة المركزية في هذه المنطقة التي عانت بشدة خلال الفترة الطويلة من الحكم العسكري والحرب الأهلية، التي أعقبت خلع الإمبراطور الإثيوبي الأخير هيلي سيلاسي عبر انقلاب عسكري عام 1974.

وكانت تيغراي بؤرة المجاعة بين عامي 1983 و1985 التي راح ضحيتها أكثر من مليون شخص وأكثر من مليوني نازح داخلياً.

عندما خسر آبي أحمد نصف طاقته العسكرية

الحقيقة الغاشمة في تلخيص عام 2021 في إثيوبيا: انتصرت قوات دفاع تيغراي على الجيش الإثيوبي تماماً. 

خسر آبي الحرب مهما كانت تداعياتها التالية في الميادين أو غرف التفاوض السياسي. 

تحوّل أحد الجيوش الأكثر احترافاً وقوة في إفريقيا إلى مجموعة من المجندين والميليشيات وبقايا جنود تشبه القوة المقاتلة. لكنها غير منظمة ومحبطة المعنويات – ولم تعد منافساً كفؤاً لقوات دفاع تيغراي.

ولم تحظَ أكبر المعارك التقليدية في العالم اليوم بالتغطية الكافية.

هناك في تلك السهول الموحشة والجبال الخضراء، فقد الجيش الإثيوبي عشرة من فرقه العشرين في تيغراي في مايو/أيار ويونيو/حزيران 2021.

خسر ما لا يقل عن 10 آلاف قتيل وعدداً مماثلاً من الأسرى.

والمنتصر هنا هي قوات دفاع تيغراي، القوة التي لم تكن موجودة قبل عام. 

وفي مواجهة الهجوم الذي بدا مصمماً على سحق أجسادهم وأرواحهم من خلال المذابح والاغتصاب والتجويع، وضع أهل تيغراي خلافاتهم الداخلية جانباً واتحدوا في المقاومة.

على الجانب الآخر التفت كثير من القوى والأقاليم بجانب العاصمة في صراعها ضد التيغراي.

هي مخاوف لها ما يبررها. 

معظم الإثيوبيين يخشون جبهة تحرير شعب تيغراي، التي كانت القوة المهيمنة في البلاد من 1991 إلى 2018، ولا يريدون عودتها إلى السلطة. 

وزاد آبي أحمد من وتيرة تحريضه على العنف، لدرجة أنَّ فيسبوك أزال منشوراً دعا فيه الإثيوبيين إلى “دفن” المتمردين.

وعطلت منصة تويتر قسم الأخبار الرائجة عن إثيوبيا. 

ووقعت اعتقالات جماعية للتيغراي في أديس أبابا وسط دعوة عامة لحمل السلاح. 

لكن حقيقة الهزيمة العسكرية وحجم المذابح على خط المواجهة -عشرات الآلاف من الشباب الذين قُتلوا في أكتوبر/تشرين الأول وحده- لم تعد سراً.

كل احتمالات النزاع المسلح سوف تترك إثيوبيا في مهب الاقتتال الداخلي، والصراع، وخطر تفكيك الدولة الفيدرالية، كما تشرح السطور التالية.

4 سيناريوهات لمستقبل الصراع

حتى لو كان من الممكن وقف القتال والحروب، فإن غياب هوية موحدة للبلاد والخلافات الشديدة حول من يجب أن يحكم وكيف يستمر، تجعل من الصعب نجاة إثيوبيا من التفكك يوماً ما.

خلاصة حاسمة يقدمها مقال مطوّل بمجلة Foreign Affairs الأمريكية عن الحرب في إثيوبيا. 

ومن دون رؤية مقنعة ومشتركة على نطاق واسع للدولة الإثيوبية، لن يتمكن آبي أحمد ولا أي خليفة محتمل من منع قوى التفكك من الصعود على حساب قوى التوحيد والتماسك.

أزمة تيغراي ليست الصراع الوجودي الكبير لدولة إثيوبيا، ولن يكون الآخير. والدليل أن السيناريوهات الأربعة التي قد يتمخض عنها لا تدعم “وحدة الدولة”، بل كل الطرق تؤدي..

ها هي الاحتمالات الأربعة لأزمة تيغراي مع الدولة الإثيوبية:

الاحتمال الأول: ينتصر تحالف الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي وجبهة تحرير الأورومو في هجومه على العاصمة أديس ابابا.

وقتها سوف تضطر الأطراف إلى تقاسم السلطة، ما يؤدي إلى إبراز التوترات طويلة الأمد بين المجموعتين، ويزيد من خطر الانقسام السياسي.

الثاني: تقرر جبهة تحرير تيغراي عدم الاستمرار في الاستيلاء على العاصمة، مقابل استفتاء على الحكم الذاتي والحماية للتيغراي.

يؤدي هذا الاحتمال إلى تصعيد التوترات مع الحلفاء في جبهة تحرير الأورومو، التي تصمم على أن العاصمة هي قلب إقليم أوروميا.. إذن يبقى الصراع دون حل.

الثالث: يحدث انقلاب داخل الجيش الحكومي لخلع آبي أحمد، كما يتوقع البعض، حيث يبدو الجيش الإثيوبي حالياً منقسماً وغير قادر على صد الهجوم على العاصمة.

أيضاً احتمال خاسر، لأن الانقلاب لن ينتهي بحل للصراع.

الرابع: يتمكن الجيش الحكومي من التمسك بالعاصمة، ويفشل في استعادة الأراضي التي سيطرت عليها قوات تيغراي والأورومو.

وهي خطوة واسعة وعملية في اتجاه تفكك الإمبراطورية.

في نهاية المطاف، يتطلب بقاء الدولة الإثيوبية من قادة الدولة وضع رؤية جديدة للبلاد، يبدو أنهم غير قادرين عليها حالياً.