تصاعد أسعار الغذاء … العالم على أعتاب أزمة
السياسية – مركز البحوث والمعلومات: خالد الحداء
يعيش العالم في هذه المرحلة الحرجة على وقع أزمات متلاحقة سياسياً واقتصادياً وصحياً، عوضاً عن أزمة جديدة بدأت تلوح في الأفق، والمتمثلة في تسجيل أسعار الغداء ارتفاعاً، هو الأكبر منذ سنوات.
حيث سجلت الأسعار خلال الأشهر الماضية مستويات ارتفاع غير مسبوقة على المستوى العالمي، وكانت اصناف الحبوب والقمح على وجه الخصوص من أكثر المنتجات ارتفاعا، بعد أن كانت التوقعات تشير إلى أن الأسعار سوف تشهد تراجعاً أو ثباتاً “على الأقل” بعد أزمة فيروس كورونا (كوفيد-19)، التي ضربت دول العالم المختلفة، وأثرت سلبياً على مختلف القطاعات؛ وبما فيها الزراعي.
ومن الواضح أن الأسعار ماتزال حتى اللحظة في تصاعد مستمر، مع تضاؤل مستوى التوقعات الانتاجية للحبوب لدى كبريات الدول المنتجة للحبوب، والسبب في ذلك عوامل الطقس الجاف التي دفعت إلى تقليص توقعات المحصول الاجمالي، إضافة إلى مشكلات مرتبطة بسلسلة الإمدادات على المستوى العالمي التي ترافقت بدورها مع ارتفاع مستوى الطلب عالمياً مقارنة بما هو معروض في السوق.
وما يجب التذكير به، أن الوضع الحالي لأسعار الحبوب ليس الأول من نوعه خلال العقود الأخيرة، فهناك الكثير من التشابه بين الأزمة الحالية وأزمة الغذاء التي شهدها العالم عام 2008، ومرد هذا التشابه يكمن في العوامل المسببة للأزمة من ناحية الطقس وتضاءل المحاصيل والأسعار المرتفعة، وعلى ما يبدوا أن لا مؤشرات في الأفق على تراجع الأسعار خلال الموسم الحالي؛ خاصة مع استمرار حالة الجفاف، ومشكلة سلسلة الإمداد المرتبطة بدورها بارتفاع أسعار الطاقة، يضاف إليها تأثيرات الأزمة الصحية العالمية، وتغير أسعار العملات، وتصاعد التوترات ما بين الدول الكبرى.
وكشفت المنظمة المعنية خلال الشهر الحالي أن أسعار الغذاء اجمالاً في تصاعد مستمر، وأكدت منظمة الأغذية والزراعة “فاو” أن الأسعار الحالية للغذاء هي الأعلى منذ عشر سنوات، وأن سبب الزيادة يعود في الواقع إلى الزيادة الكبيرة في أسعار الحبوب والزيوت النباتية على وجه الخصوص.
وحسب “وكالة بلومبيرغ” فإن هناك ارتفع في أسعار القمح في السوق الأوروبي وبلوغه مستويات قياسية في السوق الفرنسي، حيث يقوم المشترون بجمع الإمدادات الأوروبية، والسبب في ذلك التوجه هو النقص في الإنتاج الذي تعانيه مناطق أخرى في العالم، وهو ما دفع في المحصلة النهائية إلى تصاعد المخاوف من تضخم أكبر في الأسعار، وبلغ متوسط الارتفاع في الأسواق العالمية حوالي 133.2 نقطة مقارنة بمعدل بلغ نحو 130 نقطة خلال شهر سبتمبر السابق و 127.4 نقطة في شهر اغسطس وحوالي 123.5 نقطة في يوليو الماضي، ويشير الخبراء أن تلك القفزات في أسعار الغذاء جاءت بعد شهرين من الانخفاض؛ ولكن التوقعات السلبية دفعت الأسعار للارتفاع مجدداً وأن الزيادة كانت في عدد من الاصناف الغذائية مثل “السكر والزيوت النباتية والحبوب”.
وحسب الخبراء، فإن أخر قراءة للمؤشر خلال شهر “أكتوبر” هي الأعلى منذ شهر يوليو 2011، لا سيما بعد ارتفاع مؤشر منظمة الأغذية والزراعة “فاو” لأسعار الحبوب إلى نحو 3.2 % على أساس شهري، هذا الزيادة في أسعار سوق الحبوب والقمح تحديداً (مادة أساسية في صناعة الخبز) تأتي مع تزايد الطلب العالمي من ناحية، إضافة إلى تسجيل عدد من الصفقات الكبرى في السوق ولاسيما الصفقة السعودية والمقدرة بنحو 1.3 مليون طن من الناحية الثانية.
وأضاف الخبراء أن سوق القمح عالمياً ارتفعت إلى مستويات كبيرة، بعد تسجيل بورصة باريس وبورصة شيكاغو أعلى مستوى لها منذ سنوات، مستفيدة من مواصلة أسعار القمح الروسي ارتفاعها (أكبر مصدر للقمح عالمياً) منذ 4 أشهر، وكانت الصادرات الروسية من حبوب القمح شهدت تراجعاً بنحو يقدر بـ 31.5% خلال الموسم 2021-2022، وارتبط ذلك التراجع في الصادرات بالتوقعات التي ذهبت إلى أن الإنتاج الروسي سوف يتراجع من 85 مليون طن إلى 77 مليون طن للموسم الحالي.
وأشارت عدة تقارير متخصصة إلى أن التراجع لم يقتصر على القمح ولكنه شمل إنتاج الحبوب عموماً في روسيا الاتحادية، وبنسبة تراجع بلغت حوالي 5 % وبمقدار 6.2 مليون طن، لينخفض الإنتاج إلى 118 مليون طن سنوياً، بعد أن كان خلال الموسم الزراعي السابق 124.2 مليون طن سنوياً.
وكما ذكرنا سابقاً، تعتبر روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم منذ 2017 متجاوزة كلا من الولايات المتحدة وكندا، هذا التربع على رأس القائمة جاء مع استمرار الظروف المناخية السيئة على منتجي أغلب الدول المنتجة والمصدرة، إضافة إلى انخفاض هوامش الربح وإفلاس عدد من الشركات في الولايات المتحدة، وحرائق الغابات في استراليا.
وتشير الأرقام والإحصائيات الصادرة، إلى تصدر روسيا الاتحادية قائمة الدول المصدرة للقمح وبنسبة تبلغ حوالي 20.51 % تليها كندا وبـ 13.87 % وفي المرتبة الثالثة تحل الولايات المتحدة وبنسبة تصل إلى 13.27 %، ورابعاً تأتي فرنسا بـ 10.04 %، وخامساً تحل استراليا وبنسبة 7.54%، وسادساً تأتي أوكرانيا وبنسبة تصل إلى 7.31% وفي المركز السابع تأتي الأرجنتين وبنسبة تقدر بـ 5.88% ، ومن ثم رومانيا ثامناً وألمانيا تاسعاً وكازخستان عاشراً، وبنسب تقدر بـ 2.98% – 2.84% – 2.35% على التوالي.
والقارئ بين ثنايا الأرقام السابقة، يلاحظ أن القارة الأوروبية تتصدر الحصة الأكبر من صادرات القمح عالمياً، فيما تساهم ثلاث دول فقط بنحو يقارب نصف صادرات العالم من حبوب القمح وبنسبة تصل إلى 47.65% من الصادرات عالمياً، والملاحظ كذلك، عدم وجود الصين في قائمة الدول الأكثر تصديراً للقمح على مستوى العالم، على الرغم من كونها الدولة الاولى عالمياً من حيث إنتاج القمح، والبالغ حوالي 125 مليون طن سنويا، وبما يعادل الخمس من إجمالي الإنتاج العالمي، ولكن استهلاك السكان البالغ عددهم حوالي 1.4 مليار نسمة؛ يدفع بالدولة إلى استيراد ما يقارب 3.5 مليون طن سنوياً من أجل سد الفجوة في الإنتاج.
وما يشدّ الانتباه، أن الدول العربية والقارة الأفريقية لا مكان لها بين الدول الأكثر تصديراً لمادة القمح، على الرغم من توافر الظروف المناخية الملائمة للزراعة عموماً وزراعة القمح على وجه التحديد، هذا الواقع المؤلم؛ لم يتوقف عند هذا الحد، خاصة مع لغة الأرقام التي تشير إلى أن 22.9% من إجمالي الواردات لمادة القمح على مستوى العالم، تذهب إلى تسع دول عربية، حيث يتجاوز حجم واردات هذه الدول 40.2 مليون طن من القمح خلال العام 2019-2020، وتأتي مصر في مقدمة الدول العربية بحوالي 12.5 مليون طن سنوياً ومن ثم الجزائر بـ 7 مليون طن والمغرب بحوالي 4.8 مليون طن والعراق رابعاً بـ3.3 مليون طن، واليمن بحوالي 3.3 ومن ثم السعودية بحوالي 3.2 ، وفي المرتبة السابعة تأتي السودان بـ 2.7 مليون طن، والإمارات بنحو 1.8 مليون طن، وتونس تاسعاً بحوالي 1.6مليون طن سنوياً.
والملاحظ أن أزمة ارتفاع أسعار الغذاء عموماً والقمح على وجه الخصوص خلال المرحلة الحالية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ولكن ذلك لم يسهم في تطوير المنظومة الزراعية عربياً على الرغم من قيام مجموعة من المشاريع الطموحة خلال المرحلة السابقة، والتي لم تستمر طويلاً، وكما يعتقد مجموعة من الخبراء أن ذلك الفشل مرده إلى غياب الإرادة الحقيقة في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغداء “بشكل فردي أو جماعي في المنطقة العربية” هذا من جانب، ومن الجانب الأخر ساهم انخفاض أسعار الحبوب في العقدين الأخيرين من القرن الـ20 في “الغاء أو ايقاف” أي مشاريع عربية مشتركة.
لكن انخفاض الأسعار لم يستمر طويلاً وعادت الواردات في الارتفاع وبشكل مضاعف عن ما كانت عليه في السابق؛ نتيجة النمو السكاني، إضافة إلى استمرار الاهمال الزراعي، ولم تغير الأزمة الغذائية التي شهدها العالم في 2008 من واقع النظرة الحكومية في المنطقة العربية إلى أهمية تطوير القطاع الزراعي.
يبقى القول أن أزمات أسعار الغذاء لا يمكن فصلها عن الأزمات التي تضرب العالم، بمعنى أن الحديث بعيداً عن الترابط بينها وبين واقع التنافس العالمي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً سوف يكون كلاماً مجتزأ “إلى حداً كبير”، وأن بقاء المنطقة العربية “في ظل هذا التنافس” دون البحث عن حلول قطرية أو جماعية، تكون قادرة على تغيير واقع الاهمال والعشوائية في قطاع الزراعة، سوف يرفع من فاتورة استيراد الغذاء، وبالتالي مزيد من الخضوع في قرارك السياسي للغرب كونه المتحكم الفعلي في إدارة المنظومة الغذائية “إنتاج وتجارة” في العالم.