اليمن.. البلد الذي دمرته الحرب، تفرض أزمة نقص الغذاء والجوع خيارات مستحيلة على الآباء والأمهات
السياسية:
بقلم: سيوبان أوغرادي وعلي المجاهد
ترجمة: أسماء بجاش – الإدارة العامة للترجمة والتحرير الأجنبي “سبأ”
قرية موليس بمحافظة حجة اليمن- كان الاختيار يلوح في الأفق بالنسبة لعلي محمد فليت أحمد، مثقلًا عليه بالخزي.
كان أطفاله يتضورون جوعاً، والآن أصبح أصغرهم يعانون من المرض, أجسادهم الصغيرة تحترق جراء إصابتهم بالحمى وصدورهم المتهالكة تكافح من أجل التنفس.
وما باليد حيله, جيوب محمد فارغة, والرحلة إلى المستشفى الذي يبعد مسافة ثلاث ساعات عن قريته سوف تكلفه أكثر مما قد يجنيه خلال أشهر.
وفي محاولة يائسة للحصول على المساعدة، توسل محمد لأحد رجال الأعمال في المنطقة لإقراضه بعض المال.
وبالفعل, وافق الرجل على إقراضه حوالي 50 دولار، هذا المبلغ فقط يكفي للمساعدة في دفع ثمن رحلة طفل واحد إلى المدينة, أما الآخر يجب أن يبقى في المنزل.
الفصل الأول: الاختيار
كل يوم يبدو وكأنه يأتي على محمد وهو يجلب له المزيد والمزيد من الذل والإهانة، وضع مؤلم ومستحيل.
هل كان يجب على محمد أن يأكل نصيبه من الطعام الذي لدى عائلته، أم كان عليه أن يصوم ليترك كل طفل من أطفاله يأخذ لقمة إضافية؟
هل كان عليه الذهاب للبحث عن عمل، وهو يعلم جيداً أنه لن يجده، أم كان عليه أن يستجدي أوراق القات- نبتة مخدرة يمضغها الكثير من الناس في اليمن- ثم يحاول بيعها مقابل أجر زهيد؟
والآن أجبر محمد على الاختيار بين طفلين يحبهما، طفلان لم يكملان ربيعهم الأول بعد، حيث لا يزالان في الشهر التاسع، ولدوا لكلاً من زوجتيه.
في بادي الأمر، مرض أصغر أبناء محمد “علي”، وببطء تدهورت حالته ثم وبصورة مفاجئة كانت عيناه مغمضتين ولن تفتحا الآن.
في حين كانت الفتاة، رينا تضعف، حيث لم يكن حالها أفضل من حال علي، لكنها كانت لا تزال مستيقظة.
لم يكن هناك متسع من الوقت أمام محمد وزوجته في التفكير بعلاج أبناءه، اختار محمد الطفل الأكثر مرضا وقررا علاجه أولا، ولذلك شد محمد الرحال برفقة زوجته أنيسة واحتضن الصبي، وقاموا بالسير الشاق من أعلى التل إلى أسفل الوادي، حيث كانوا يأملون أن يجدوا طريقة ما للوصول إلى المدينة.
الفصل الثاني: الأزمة
في هذا الوادي من محافظة حجة، حيث تنتشر البيوت الحجرية الصغيرة على سفوح التلال، عمل العديد من أرباب البيوت مثل محمد كعمال باليومية وكمزارعي قات.
وبحسب سكان المنطقة “مع ارتفاع أسعار الوقود في خضم الحرب الأهلية الطويلة الدائرة في اليمن، بدأت الشاحنات التي كانت تقل العمال إلى العمل في التوقف عن العمل”، نظراً لتوقف مشاريع البناء التي عملوا عليها، كما كانت هناك منافسة شديدة على الوظائف الزراعية القليلة بالفعل، مما ترك العديد من الرجال دون أي مصدر للدخل.
وفي الوقت نفسه، ارتفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعا كبيرا، ولم تتمكن الأسر فجأة من شراء السلع الأساسية مثل الأرز والخضروات.
ففي محافظة حجة، سجل برنامج الأغذية العالمي زيادة بنسبة 25% في أسعار المواد الغذائية هذا العام.
وقالت نساء كثيرات يعانين من نقص الغذاء الشديد، إن الظروف تجعل من شبه المستحيل عليهن إرضاع أطفالهن.
أزمة الجوع في اليمن آخذه في الانتشار بسرعة كبيرة، والكثير من الناس في منطقة محمد يعيشون على الأشجار المغلية.
ولهذا نجد أن الأمهات وأطفالهن يتواجدون وبكثرة في أقسام سوء التغذية في مستشفى في مدينة حجة، حيث تعتبر هذه المدينة من أكثر المناطق تضررا من أزمة الغذاء في اليمن.
وبفضل الزيادة في تمويل الأعمال الإنسانية في اليمن, تمكن البلد من تجنب ولكن بشكل ضيق الإعلان الرسمي عن وقوع البلد في شرك المجاعة في السنوات الأخيرة.
واليوم تقول الأمم المتحدة الآن إنه بدون اتخاذ مزيد من الإجراءات العاجلة، سوف يكون هذا التصنيف أمرا حتميا.
فحسب التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة فإن ما لا يقل عن 5 مليون شخص في اليمن أصبحوا بالفعل على حافة المجاعة، وأن نحو 47 ألف شخص يعيشون بالفعل في ظروف قريبة من المجاعة، بما في ذلك 5 الآلاف في منطقة المغربة التي يسكنها محمد.
هذا الوضع الكارثي الذي يعيشه اليمن من صنع الإنسان بالكامل، إذ لا يعاني البلد من نقص في الغذاء، فقط توجد عوائق مالية لشراء الطعام.
منذ حوالي سبع سنوات، لا يزال الحوثيون يرفعون السلاح في وجه الحكومة المعترف بها من قبل المجتمع الدولي للسيطرة على البلد.
تسيطر الحكومة اليمنية التي تتلقى الدعم من قبل دول التحالف العربي العسكري بقيادة المملكة العربية السعودية على المجال الجوي للبلد، كما عملت على فرض قيوداً صارمة على ميناء الحديدة المطل على البحر الأحمر، حيث يعتبر هذا الميناء هو البوابة الرئيسية لدخول الواردات للمناطق الشمالية من البلد، حيث يبسط الحوثيون المدعومون من إيران سيطرتهم على السلطة.
ومن جانبهم، حذر الدبلوماسيون والمسؤولون في مجال العمل الإنساني منذ فترة طويلة من أن هذه القيود تقطع شريان الحياة.
يعاني الأطفال في منطقة المغربة من سوء التغذية، وفي قرية ضبارة، تحمل غالية علي حسين ابنها ماهر صالح الذي تظهر عليه علامات سوء التغذية، بما في ذلك القيء والإسهال بعد تناول الطعام.
يعزو الحوثيون أزمة الوقود الجاثمة على البلد إلى القيود المفروضة على الميناء، كما رفضوا مناقشة أي هدنة إلى أن يتم إعادة فتح مطار صنعاء الدولي الذي يسيطر عليه الحوثيون ورفع جميع القيود المفروضة على الميناء.
ويقول المحللون الذين يرصدون التطورات في اليمن، إنه في حين تساهم القيود المفروضة على الموانئ في ارتفاع أسعار الوقود، فإن الوقود الذي يدخل المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون يتم تخزينه، ويباع بأسعار مرتفعة في السوق السوداء، الأمر الذي يجعل الأزمة أكثر حدة.
الفصل الثالث: السفر
وبواسطة المال الذي اقترضوه في ذلك اليوم، وجد محمد وأنيسة على مقاعد لهما في شاحنة أوصلتهما إلى مدينة حجة عاصمة المحافظة، حيث استغرقت الرحلة عدة ساعات.
بينما كانت الشاحنة تسير على طول طريق الوادي غير المعبد، كانت المخاوف تطبق خناقها على محمد هذا من ناحية، كان يفكر بوضع طفله، ومن ناحية أخرى كان باله مشغولاً على الأطفال الآخرين الذين تركهم وراءه.
في المنزل، حاولت بشرى، زوجة محمد الثانية، رعاية الأطفال الثمانية الآخرين، حيث قالت أن الأطفال كانوا يستيقظون كل صباح وهم يبكون من الجوع.
تقول بشرى، لا أحد في العائلة يملك هاتف، لذلك لم تستطع سمع أي أخبار عن الصبي الذي تمكن من الذهاب للعلاج, وفي نفس الوقت كان يساورها القلق حول وضع الفتاة رينا، الذي كان فقط يزداد سوءا، “أنا خائفة من أن يَمُوتُ هو هناك وهي تَمُوتُ هنا”.
وعندما وصل محمد وأنيسه إلى المستشفى، كان التشخيص لا يبشر بالخير، حيث قال محمد للطبيب إنه يعاني من سوء التغذية الحاد ومن التهاب في الرئة.
بعد أربعة أيام من وصولهم إلى المستشفى، ارتقت روح علي إلى السماء، قالت أنيسة: “مات بين يدي عانقته وقبلته وكان هذا كل شيء”.
وفي تلك الليلة، عاد محمد وانيسة المكلومين على فقدان طفلهم إلى منزلهم على متن دراجة نارية، حيث تناوب كلاهما على حمل جثمان علي الملفوف في كفن أبيض، بين ذراعيهم.
وفي نفس تلك الليلة، دفنوه بالقرب من منزلهم، حيث غطوا قبره الصغير بكومة من التراب والعصي.
الفصل الرابع: الموتى
مرت أيام أخر، حينها أغلقت رينا عيناها مثل ما أغلق علي عيناه قبل وقت قصير من وفاته.
فهم محمد أن هذه العلامة نذير شؤم، ولكن مع جيرانه الذين لم يكن حالهم أفضل من حاله، لم يكن الوضع يسمح باقتراض المزيد من المال، فقط الديون يتوجب سدادها.
في اليوم التالي، وبينما كانت بشرى تغلي أوراق الشجر والمعروفة في الأوساط المحلية باسم ” الحلاس” في الهواء الطلق، كانت رينا تغيب عن الوعي تارة وتستيقظ تارة أخرى بين ذراعيها.
عندما انتهت من إعداد حساء ورق الأشجار، تجمع الأطفال الآخرون حولها، وتناول الطعام بأيديهم.
اختار محمد الابتعاد عن أطفاله وصب مسحوق التبغ الرخيص في فمه للمساعدة في سد شهيته.
وبنبرة مليئة بالألم قالت بشرى وهي تبعد الذباب عن صغيرتها :”لو كان لدينا المال، لأخذنا رينا إلى المستشفى”.
بدلا من ذلك، قال محمد: “من المحتمل أن تموت هنا، ماذا نستطيع أن نفعل؟”.
وبعد ظهر ذلك اليوم، سار محمد وأنيسه بهدوء على طريق ترابي إلى مكان دفن ابنهما على تلة صغيرة.
وبينما كانت الرياح تداعب الأشجار مرت امرأة برفقة قطيع من الأغنام على الطريق الترابي بالأسفل.
كانت أنيسه، قد اقتربت من ضريح صغيرها، حيث دنت لالتقاط بلطف فرع شائك كان قد نمى فوق ضريح طفلها.
وبالقرب منها، جلس زوجها على الأرض، وكانت عظمة الترقوة بارزة من تحت قميصه المهتر، وقال ” بالي مشغول مع الفتاة، أظن بأنها سوف تلحق بأخيها”.
الخاتمة:
في اليوم التالي، أغلقت رانيا عيناها وفقدت الوعي تماماً، علم فريق من صحفيي واشنطن بوست الذين يزورون القرية بحالتها ورتبوا رحلة علاج مجانية لها، وبالفعل غادر محمد وزوجته وصغيرتهما إلى المستشفى في مدينة حجة في نفس اليوم.
وفي غرفة فحص مؤقتة في مدخل المستشفى الجمهوري، عمل فريق من الممرضات من جناح سوء التغذية بوضع علامة قياسات رينا، طولها: 24 بوصة، وزنها 11.9 رطل، محيط أعلى ذراعها: 4.25 بوصة.
- المادة الصحفية تم ترجمتها حرفياً من المصدر وبالضرورة لا تعبر عن رأي الموقع
- صحيفة “الواشنطن بوست- Washington post” الأمريكية