قذائف عمرها 3 عقود وألغام بالملايين.. كم تستغرق مهمة تطهير العراق من كمائن الموت؟
السياسية:
بعضها يرجع للحرب بين العراق وإيران وبعضها منذ ثورة الأكراد والبعض الآخر زرعه الأمريكان وتنظيم الدولة “داعش”، هل تنجح المهمة المستحيلة لتطهير العراق من الألغام والقذائف غير المتفجرة؟
تناول تقرير لصحيفة The Independent البريطانية قصة كمائن الموت في العراق، في تقرير بعنوان “أصحاب المهمة المستحيلة: تطهير العراق من الألغام”، رصد تاريخاً ممتداً من زرعها وقصص التصدي لها والمآسي التي تتسبب فيها.
ففي تقدير متحفظ، أفادت الأمم المتحدة أنَّ هناك أكثر من 10 ملايين من الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة منتشرة في إقليم كردستان العراق وحده، بينما تقول تقارير إن هناك أكثر من 50 مليون لغم مدفون في أراضي العراق. وتعمل المجموعة الاستشارية المتخصّصة في إزالة الألغام (ماغ) في هذه المنطقة منذ عام 1992، بناءً على طلب من حكومة كردستان العراق، وقد أزالت خلال هذه الفترة ما يقرب من 170 ألف لغم أرضي، و18 ألف عبوة ناسفة مرتجلة، و2 مليون قطعة ذخيرة غير منفجرة.
عقود من الحروب والنتيجة “كمائن الموت”
بينما كان رعد فارس، البالغ من العمر 19 عاماً، يرعى ماشيته في سهول قرية “تولاباند” -التي لا يفصلها عن قريته “غازاكان” في إقليم كردستان العراق أي شيء سوى مساحات ممتدة من العشب والصخور- عثر على جسم أسطواني معدني صدئ، يبلغ طوله حوالي قدم يمكث بجانب صخرتين صغيرتين.
ركض فارس نحو قريته للإبلاغ عن هذا الجسم الغريب، توجّه فريق من (ماغ) بصحبة فارس إلى المكان الذي عثر فيه على الجسم الأسطواني المعدني، حيث تبيّن أنَّه قطعة ذخيرة غير منفجرة، ربما يعود تاريخها إلى الحرب العراقية-الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي. ظلّت تلك القطعة قابعة في تلك السهول المرتفعة على مدار أكثر من 35 عاماً، في انتظار العثور عليها لكي تنفجر وتتسبب في مذبحة حديثة، بعد عقود من إطلاقها لأول مرة من مدفع هاون.
أدَّى التاريخ السياسي المعقد للعراق إلى تلويث مساحات شاسعة من أراضيه بمثل هذه الألغام والذخائر غير المنفجرة، لاسيما في المناطق الشمالية. زُرعت الألغام على طول الحدود، وتناثرت ملايين المتفجرات الناجمة عن تبادل إطلاق قذائف الهاون طوال فترة الحرب العراقية-الإيرانية، في الفترة من عام 1980 حتى عام 1988.
ومنذ ذلك الوقت فصاعداً استمر استخدام هذه الأسلحة الخبيثة بدايةً من انتفاضة أكراد العراق عام 1991، مروراً بالنزاع المسلح طويل الأمد الذي بدأ مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وصولاً إلى عصر سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق (داعش).
شكّلت هذه المخلفات الحربية تهديداً كبيراً للسكان المدنيين المحليين، تحوّلت قرى بأكملها إلى أراضٍ خاوية تماماً، ويعيش الآلاف من المواطنين العراقيين في مخيمات لاجئين، بالإضافة إلى أنَّ الكثير من الأراضي الزراعية أصبحت غير مستغلة من جانب المجتمعات المحلية التي تُمثل الزراعة مصدر رزقها الوحيد.
لهذه الأسباب، جاءت مهمة المجموعة الاستشارية للألغام في العراق لإعادة الأرض إلى أولئك الذين عانوا من عقود الحرب وما زالوا يدفعون الثمن بعد سنوات من انتهاء الصراعات.
هذا الأمر يجعل إزالة الألغام مهمة مستحيلة
تأسست المجموعة الاستشارية لإزالة الألغام (ماغ)، وهي منظمة غير حكومية مقرها المملكة المتحدة، في عام 1989 على يد مهندس بالجيش البريطاني يُدعى راي ماكغراث. كان ماكغراث لديه خبرة مباشرة بمدى تأثير الألغام الأرضية والقنابل غير المنفجرة على السكان المدنيين في مناطق الحروب السابقة، لذا عندما غادر الجيش البريطاني وعمل مع عدد من المنظمات غير الحكومية، لاسيما في أفغانستان، كان مصمماً على لفت انتباه العالم إلى حجم هذه المشكلة.
ويتمثّل أحد مبادئ عمل المنظمة في تدريب كوادر محلية في الدول التي تعمل فيها، وهذا هو السبب في أنَّ الجزء الأكبر من موظفي المنظمة- البالغ عددهم 770 موظفاً في العراق- هم مواطنون عراقيون، وغالباً ما يعملون في المناطق التي عاشوا فيها.
ثمة العديد من المشكلات المتعلّقة بمحاولة تطهير بلد مثل العراق من الألغام، من بينها عدم وجود سجل رسمي بأماكن وجود الألغام. قد يسهل في كثير من الأحيان تخمين أماكن المخلفات الحربية غير المنفجرة التي يعود تاريخها إلى الحرب العراقية-الإيرانية في ضوء الأهمية الاستراتيجية لبعض المناطق أثناء الصراع. لكن تنظيم داعش، على سبيل المثال، كان يزرع الألغام على نحوٍ عشوائي، في أراضٍ ومدارس ومنازل وحقول زراعية.
أطفال كردستان العراق يواجهون وضعاً مأساوياً /رويترز
تنتشر مهمات منظمة “ماغ” في عدد كبير من القرى العراقية، من بينها قرية ولياوا (Wlyawa)، الواقعة على بعد بضعة أميال فقط من الحدود مع إيران، وهذا ما جعل أراضيها مفخخة بأميال من حقول الألغام لتشكيل منطقة عازلة بين إيران والعراق خلال فترة الحرب بين البلدين.
تبدأ المرحلة الأولى من عمل فريق المنظمة بتجريف الطبقة العليا من الأرض وغربلة التربة باستخدام الآلات الثقيلة، على أمل العثور على الألغام الأرضية المخبأة تحت السطح وإزالتها.
يتولّى أيضاً أعضاء فرق إزالة الألغام فحص أكوام ضخمة من التربة يدوياً باستخدام أجهزة الكشف عن الألغام، قبل إعلان خلّوها من أي أجسام خطيرة قابلة للانفجار، وإعادة المنطقة إلى القرويين المحليين، باعتبارها أرضاً آمنة للاستخدام والعيش فيها من جديد. وتُقدّر المنظمة أن عملية تنظيف هذه المنطقة الملغومة بالكامل، التي تقع خلفها إيران، ستستغرق حوالي 5 سنوات من العمل المستمر مع فريقين من خبراء إزالة الألغام.
هكذا يتم تفكيك الألغام
ينتقل تشالك طه، رئيس أحد الفرق المحلية لمنظمة “ماغ” في العراق، إلى حقل الألغام مرتدياً خوذة وسترة واقية من الرصاص والشظايا ويضع عصياً خشبية ملونة على طول المسارات أو المناطق الآمنة ومثلثات حمراء عليها صورة جمجمة للتحذير من المناطق الملوثة بالألغام، أو المشتبه بها، لكي يتعامل معها جنباً إلى جنب مع بقية المسؤولين في فريقه.
يسير طه بأجهزة الكشف عن الألغام في المنطقة المراد مسحها، يصدر الجهاز صوتاً في حالة التعرّف على لغم حقيقي، يُحدّد طه موقع اللغم، ويبدأ في إخراجه من تحت الأرض باستخدام عصا رفيعة، ويبدأ التخلّص منه بشكل صحيح، إذ يستلقي على بطنه ويمد يده لفك المفجر لإبطال مفعول اللغم. تستغرق هذه العملية برمتها حوالي 30 ثانية، تنفذ الفرق المحلية التابعة لمنظمة “ماغ” نفس هذا العمل يوماً بعد يوم في مختلف مناطق العراق، كما لو أنَّه العمل الأكثر طبيعية في العالم.
يقول خالد محمد، عراقي كردي يبلغ من العمر 55 عاماً، ويعمل مع منظمة “ماغ” منذ عام 1994: “كانت هذه المنطقة أشبه بسجن، لا أحد يستطيع الاقتراب منها. نمضي قدماً في تطهيرها من الألغام حتى يعود الناس إليها ويستطيع الأطفال اللعب فيها”.
عندما سئل خالد محمد، وهو متزوج ولديه 5 أبناء، عن مدى شعور أطفاله بالخوف من هذا العمل، أجاب: “لقد اعتادوا على طبيعة عملي، ويتفهمّون دوافعي جيداً”. وعندما سئل عن خوفه الشخصي من قضاء أيام حياته في مواجهة الخطر المتعلّق بإبطال مفعول الألغام، قال: “لا أشعر بالخوف لأنّنا تلقينا تدريباً جيداً على كيفية تنفيذ ذلك بنجاح، إذا فعلنا الأمر بالشكل الصحيح، فلن يحدث شيء”.
محاولة إزالة ألغام داعش
يتفق معه زميله بختيار محمد، البالغ من العمر 46 عاماً، ويعمل في إزالة الألغام منذ 10 سنوات. يعترف بختيار أنَّ هذا العمل شاق، قائلاً: “نستيقظ في الساعة 3.30 صباحاً لنبدأ يوم عمل طويل. لا يوجد مكان أو شخص هنا غير متضرر من هذه الألغام الأرضية، لكن لا أشعر بالخوف لأنني أعرف جيداً ماذا يتعين عليَّ فعله”.
يفصل قرية ولياوا عن حقل الألغام طريق جبلي، تسببت الحرب العراقية-الإيرانية في نزوح جميع سكان القرية. عادت 4 عائلات فقط حتى الآن منذ بدء مهمة منظمة “ماغ” في القرية، لكن المزيد من العائلات تفكر جدياً في العودة وزراعة الأرض بعد تطهير المنطقة من الألغام.
يؤكد حما سعيد، شيخ القرية أو كما يُطلق عليه “مختار القرية”، أنَّه متحمس بشدة لعمل منظمة “ماغ” في قريته التي تركها عام 1981، عندما بدأ الصراع بين إيران والعراق وعاد إليها في عام 1991.
يقول سعيد: “كانت قريتنا جميلة جداً، لكن الحرب دمرتها، ورغم انتهاء الحرب منذ فترة طويلة ما زلنا عاجزين عن العودة حتى جاءت منظمة “ماغ”، وبدأت في إزالة هذا التهديد من أراضي قريتنا”، ويضيف: “لقي شقيقي مصرعه بعد عودتنا إلى القرية، عندما داس على لغم مدفون في الأرض الزراعية، التي كانت تابعة للعائلة في وقتٍ سابق”.
بالإضافة إلى التعامل مع ألغام الحروب القديمة، تعمل فرق المنظمة أيضاً على تطهير المواقع من الألغام والعبوات الناسفة المرتجلة، التي زرعها تنظيم داعش، غالباً في المواقع الحضرية.
قصة “بيت الرعب” في تل أسود
يشير سلام محمد، أحد العاملين مع منظمة “ماغ”، منذ أن بدأت مهماتها في العراق عام 1992، إلى بيت قديم بالقرب من المجمع الخاص بالمنظمة في بلدة “تل أسود”، ويطلق عليه اسم “بيت الرعب”، لأنَّ تنظيم داعش فخَّخ كل شبر وكل غرض فيه -الثلاجة، القدور، الموقد.. إلخ- ليكون مصيدة للموت.
سيطر داعش على هذه البلدة الواقعة قبالة الطريق الرئيسي بين أربيل والموصل، في عام 2014 وتحوّلت إلى موقع دفاعي لقوات البيشمركة الكردية، بعد طرد تنظيم داعش منها، أصبحت هذه البلدة منذ ذلك الحين خاوية على عروشها.
تنفذ منظمة “ماغ” عمليات تطهير لكل منزل من منازل “تل أسود” من العبوات الناسفة والفخاخ المتفجرة في مهمة طويلة وشاقة، تشارك فيها عدة فرق تواصل تفتيش المنازل والأراضي الزراعية المحيطة بها.
انتهى الحال بمعظم سكان القرية، الذين فروا من تقدّم داعش، في مخيمات للنازحين بالقرب من أربيل، ويكمن الأمل في الانتهاء من تطهير “تل أسود” ليتسنى لهم العودة واستئناف زراعة الأراضي المحيطة بالمدينة.
تتكوّن إحدى الفرق المنظمة المتخصصة في إزالة الألغام من 10 عملاء جميعهم نساء، وفي العشرينيات من عمرهن ومن الموصل، من بينهن سحر وشفاء، البالغتان من العمر 27 عاماً، ويعملان مع منظمة “ماغ” منذ ستة أشهر.
تعمل شفاء أيضاً مهندسة معمارية تقنية، وتتدرب سحر لتصبح معلمة لغة إنجليزية جنباً إلى جنب مع عملهما مع المنظمة في تطهير الأراضي والمنازل من الألغام. فقدت سحر وشفاء أفراداً من عائلتيهما بسبب الفظائع التي ارتكبها داعش في الموصل، تشعر كلتاهما بحاجة إلى فعل شيء، للمساعدة في إصلاح الضرر الذي تسبّب فيه التنظيم الإرهابي.
واجهت سحر على وجه الخصوص معارضة شديدة من والدها وإخوتها، عندما أخبرتهم أنَّها تريد العمل في مجال إزالة الألغام، كونها من مجتمع ريفي خارج الموصل. تقول سحر: “شرحت لوالدي ما نفعله، لكنه رفض، وكذلك إخوتي وعمي، لكن كان يتعيَّن عليّ محاولة إقناعهم جميعاً وإخبارهم أنّني سأفعل هذا”.
عندما سئلت العاملات مع المنظمة من النساء نفس السؤال الذي وجّهناه للعملاء الرجال في قرية ولياوا، بشأن الخطر الذي يواجههن كل يوم، المقترن بعملهن في مجال إزالة الألغام، تلقينا نفس الإجابة: “لن يحدث ضرر إذا اتبعن تعليمات ما يتدرّبن عليه مع المجموعة الاستشارية لإزالة الألغام، مؤكدين على ثقتهن في قدرتهن على تنفيذ ذلك بنجاح”. تقول شفاء: “عشنا تحت حكم داعش وفقدنا أناساً ورأينا آخرين يموتون. هذا جعلنا مستعدين إلى حدٍّ كبير لمواجهة أي خطر مقترن بهذا العمل”.
ترأس غونا حسن فريق الاتصال المجتمعي بالمنطقة، إذ إنَّ الحصول على مساعدة السكان المحليين وكسب دعمهم يُعد أمراً حيوياً بالنسبة لعمل المنظمة. يذهب فريق غونا إلى المنازل لتوعية الأسر بمخاطر الألغام وتعليمهم ما يجب فعله في حال عثروا على جهاز غير منفجر.
يقول جاك مورغان، مدير فرع منظمة “ماغ” في العراق والمسؤول عن الإشراف على كافة عملياتها هناك: “العراق مكان فريد له قانونه الخاص. إليك على سبيل المثال بلداً مثل كمبوديا، فهي لديها حكومة واحدة، في المقابل نتعامل في العراق مع الحكومة العراقية الفيدرالية وحكومة إقليم كردستان العراق، وكلتا الحكومتين تسير وفق نُهج مختلفة”.
تعتمد منظمة “ماغ” المجموعة في تمويلها على مجموعة متنوعة من المصادر بصفتها منظمة غير حكومية غير ربحية، ويختلف التمويل باختلاف الدول التي ستعمل بها. يأتي تمويل مهمة العراق بشكل أساسي من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا والنرويج وهولندا والسويد وألمانيا. رغم كونها منظمة مقرها بريطانيا، لا تساهم المملكة المتحدة في التمويل رغم تورطها في نزاعات سابقة في البلاد.
كم من الوقت سيستغرق تطهير العراق؟ يشير مورغان إلى أنَّ العراق لديه طريق طويل ليقطعه قبل أن يقترب من إعلانه بلداً خالياً من الألغام، قائلاً: “لقد أُعلنت للتو جزر فوكلاند مكاناً خالية من الألغام، بعد حوالي 38 عاماً من انتهاء الصراع، الذي يُعد قصيراً نسبياً بالنسبة لما شهده العراق، لذا سيستغرق الأمر الكثير من الوقت لتنفيذ ذلك في العراق”.
عربي بوست