كيف تسببت حرب إيران الباردة ضد السعودية في إفقار وتدمير حلفاء طهران؟
السياسية:
منذ ثورة الخميني في إيران قبل أكثر من أربعين عاماً، شهدت المنطقة حرباً باردة بين طهران والرياض، في ظل السعي لتصدير الثورة، وحققت إيران بالفعل انتصاراً كان ثمنه فادحاً.
والآن مع تولي إبراهيم رئيسي رئاسة إيران أصبحت البلاد في قبضة التيار المتشدد بشكل كامل، مما طرح تساؤلات بشأن علاقة طهران مع دول الجوار، خصوصاً في ظل تأكيد وزير الخارجية الجديد حسين أمير عبداللهيان أن ”
“طهران عازمة على اعتماد سياسة خارجية متوازنة”، مشيراً إلى أن “دول الجوار تأتي في مقدمة الأولويات خلال فترة توليه الوزارة”.
ونشرت مجلة The Economist الأمريكية تقريراً رصد تاريخ وتداعيات الحرب الباردة بين إيران والسعودية، وكيف أن طهران حققت بالفعل انتصارات في تلك الحرب لكن ثمنها كان باهظاً للغاية.
إيران الطرف الأقوى في لبنان والعراق وسوريا
ويبدأ تقرير المجلة الأمريكية القصة من النقطة التي وصلت إليها الآن، وبالتحديد من لبنان، إذ لاحظ زوار بيروت في العام الماضي لوحة مزدوجة غريبة في الطريق من المطار. عندما نتجه شمالاً عبر جادة الإمام الخميني، سوف يمر الراكب أمام لوحات لقاسم سليماني، الجنرال الإيراني الذي اغتالته الولايات المتحدة في يناير/كانون الثاني 2020.
ولكن بعد كيلومتر من لوحات سليماني، يُفسَح المجال بجوارها لصورةٍ لبنجامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة. كان سليماني زائراً دائماً إلى بيروت وساعد في بناء حزب الله. أما صورة فرانكلين، فهي إعلان لشركة تحويل أموال محلية تطمئن عملاءها بأنها لا يزال لديها أوراق نقدية من فئة 100 دولار.
ويشكل تجاور الصورتين نجاح وفشل حزب الله، وهي قصة متكررة مع الجماعات الأخرى المدعومة من إيران، بدءاً من بغداد ووصولاً إلى بيروت.
نظر المراقبون على مدى عقود إلى الشرق الأوسط من منظور حربٍ باردةٍ بين السعودية وإيران، وهو صراع يعود إلى أيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. تمنى مرشدو إيران أن تنتقل موجة الثورة إلى دول الخليج، وخاف ملوك وأمراء هذه الدول من ذلك. ووضع صدام حسين حربه ضد إيران، التي استمرت 8 أعوام، في إطار جهود لحماية العرب من الهيمنة الإيرانية. حتى أن دول الخليج، ومن بينها السعودية والكويت على وجه الخصوص، أقرضته أكثر من 37 مليار دولار من أجل جهوده الحربية.
هذه النظرة الثنائية لحرب الوكالة تجاوزت فائدتها؛ لأن السعوديين خسروا. فشل السعوديون في بناء بئر عميقة من الدعم في الدول العربية الأخرى، بعد أن كانوا يساومون عبر دبلوماسية دفتر الشيكات غير الفعالة مع الساسة وأمراء الحرب المتقلبين.
وما من شك الآن في أن إيران هي الطرف الأقوى في لبنان وسوريا والعراق. (والمفارقة أنها تدين بالفضل إلى ألد أعدائها: الولايات المتحدة، التي أطاحت صدام حسين في 2003، وحولت العراق من دولة معادية إلى أرض خصبة لبسط النفوذ الإيراني). لا يزال السعوديون يخوضون حرباً ممتدة في اليمن، لكن ستة أعوام من الحرب ضد الحوثيين، وهي جماعة شيعية، لم تفعل في الغالب إلا أنها أفادت إيران. ويصف دبلوماسيون خليجيون باقتضاب عديداً من الدول العربية بأنها “خارج الإطار العربي”.
الانتصار الإيراني “أجوف”
بيد أن الانتصار الإيراني ليس إلا انتصاراً أجوف، إذ إن دول محور المقاومة تعاني بشكل كبير، فالحياة في سوريا ولبنان تعرف بطوابير الوقود وانقطاعات الكهرباء لأوقات طويلة، وتزايد الجوع. وفي العراق، يتصبب العراقيون عرقاً خلال فصل صيف آخر بسبب انتشار انقطاع الكهرباء، حيث تصل درجات الحرارة إلى 52 درجة مئوية. وتحمَّل اليمن نوبات من المجاعة والكوليرا. ولا تلام إيران وحلفاؤها وحدهم على هذه المشكلات.
إذ ينبع إفلاس لبنان من عقود مشهودة من سوء إدارة الطبقة الحاكمة. لكن الإيرانيين لا يتظاهرون حتى بأنهم يقدمون الحلول. بل صاروا بدلاً من ذلك رعاة أنظمة فاشلة. في سوريا، ساعدت إيران بشار الأسد ليتصدى بوحشية للمعارضة المسلحة ويحكم قبضته على السلطة. وفي وقت أقرب من ذلك، ساعد حزب الله في إخماد احتجاجات منتشرة في لبنان، وكذلك قُتل المحتجون في العراق على يد الميليشيات المدعومة من إيران هناك.
عندما تأسس حزب الله في ثمانينيات القرن الماضي، كان لديه شيء يقاومه: احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني. ارتأى كثير من اللبنانيين، بغض الطرف عن قناعاتهم السياسية، أن هذا كفاحٌ مشروع. وتزايدت شعبية الجماعة بعد انسحاب إسرائيل في عام 2000، وظلت بارزة حتى بعد الحرب مع إسرائيل في 2006، التي بدأت بأسر جنديين إسرائيليين.
صحيح أن الحرب تسببت في تدمير لبنان -حتى أن قادة حزب الله اعترفوا لاحقاً أنها كانت خطأ- انتهت بتعادل بين الطرفين، ولكن بالنسبة لحزب الله كانت نجاته بمثابة انتصار. ابتهج العرب من جميع الأطياف بما فعلته الحركة لأنها أحرجت إسرائيل.
كيف فقد حزب الله في لبنان حاضنته الشعبية؟
لكن حزب الله صوّب بنادقه منذ ذلك الحين نحو عرب آخرين. ففي عام 2008، سيطرت ميليشياته على غرب بيروت، وهي لحظة وسعت النطاق التعريفي لكلمة “مقاومة”. جلبت الحرب الأهلية السورية مزيداً من التناقضات. من أجل دعم حلفائها، الأسد وإيران، حيث قاتلت جماعة حزب الله المعارضة السورية المسلحة، وهذه المرة ادعت أنها تقاوم التكفيريين، أو المتطرفين السُنّة، وأنها تحمي الأضرحة الشيعية في دمشق. أشاد بذلك بعض اللبنانيين المسيحيين، الذين انتابهم التوتر بسبب العناصر الأكثر تشدداً في صفوف المعارضة السورية. لكن شعبية حزب الله في العالم العربي تراجعت على نطاق واسع.
واليوم يتحدث حزب الله وحلفاؤه عن “اقتصاد المقاومة” في لبنان: وهو تحول آخر. في المناطق التي تسيطر عليها المجموعة، تقدم المتاجر بضائع سورية ولبنانية بأسعار أقل من أسعارها في أي مكان آخر. روَّج حزب الله في أبريل/نيسان لخطة “بطاقة سجاد”، التي سميت على اسم إمام شيعي وتقدم تخفيضات إلى المشاركين فيها استناداً إلى دخولهم. لكن أنصار حزب الله ما زالوا يعانون من المعاملة المهينة التي تعرّف الحياة في لبنان.
صارت أرفف الصيدليات خالية؛ فالمغتربون الذين يزورون البلاد في الصيف يملأون حقائبهم بالأدوية، وليست فقط الأدوية الموصوفة، بل وكذلك الأدوية الأساسية مثل الباراسيتامول الذي لم يعد متاحاً في البلاد. أما محطات الوقود، فقد ينتظر زوارها لساعات في طوابير تمتد لعدة كيلومترات، إن لم تكن مغلقة من الأساس.
ولا تختلف القصة في مجال نفوذ آخر لإيران. تشير تقديرات برنامج الأغذية العالمي إلى أن 12.4 مليون سوري لا يستطيعون الحصول على الطعام الكافي، أي حوالي 60% من السكان، وهي نسبة تبلغ ضعف ما كان عليه الحال في 2018. ارتفع سعر سلة الأطعمة الأساسية بنسبة 200% تقريباً في العام الماضي. صار الخبز المدعوم، وهو أرخص مصدر للحصول على السعرات الحرارية، رديئاً، وينتظر السوريون في الغالب لساعات من أجل شرائه.
وفي غضون ذلك، لم يعد العراق، سادس أكبر منتج نفط في العالم، قادراً على إنتاج نصف حجم الكهرباء التي يحتاجها مواطنوه خلال فصول الصيف الحارة، التي تقدر بـ30 جيجاوات. اختفت مليارات الدولارات التي أُنفقت على جهود إعادة الإعمار ما بعد الحرب، بعد أن اختلسها المسؤولون الفاسدون.
وعندما يتحدث حسن نصر الله، زعيم حزب الله، فإنه يُعزي هذه المصاعب بدرجة كبيرة إلى “حصار” الغرب، وهو مصطلح استخدمه كثيراً في خطاباته التي ألقاها في العام الماضي. حتى نقاد نصر الله يعترفون أنه خطيب لديه كاريزما مع ميل إلى الدراما. لكن الأمر لا يقتصر على تقديم عبارات فارغة. ففي خطاب متلفز خلال حرب 2006، أبلغ الرجل المشاهدين أن ينظروا إلى البحر. وبعدها بلحظات ضرب صاروخ مدمرة إسرائيلية قبالة الساحل، مما تسبب في تدميرها وقتل 4 بحارة.
خطابات حسن نصر الله فقدت بريقها
ولكن بعد عقد ونصف من ذلك الوقت، صار نصر الله انعكاساً للصورة التي كان يبغضها في يوم من الأيام. فقد ألقى عشرات الخطابات منذ تعسر لبنان في الأزمة الحالية، وكثير منها كُرّست لدعم النظام الحالي.
فقد أيّد في البداية التظاهرات المناهضة للحكومة في عام 2019، لكنه غير رأيه بسرعة ووصفهم لاحقاً بأنهم طابور خامس يتلقون المال من السفارات الأجنبية. أما بالنسبة للأزمة الاقتصادية، عرض نصر الله حلاً مناسباً قائلاً إنه لتجاوز “حصار” الغرب، يجب “النظر صوب الشرق” إلى القوى الآسيوية، مثل الصين، التي تقف مستعدة لتقديم مليارات الدولارات إلى الأنظمة الاقتصادية العربية برغم الغضب المفترض من الأمريكيين.
لكن أغلب هذه الأمور محض خيال، فالعقوبات المفروضة على لبنان مقصورة على شركات وأفراد، وأغلبهم ينتمون إلى حزب الله. وليس هناك محظورات واسعة على التجارة. بجانب أن الولايات المتحدة لم تعِق وصول الصين إلى الشرق الأوسط. بل إن ما يعيق دخول الاستثمارات الصينية إلى لبنان هو لبنان نفسه، بما فيه من فساد بلا رادع وبنية تحتية محفوفة بالمخاطر.
يكافح العراق لجذب الاستثمارات الأجنبية غير النفطية للأسباب نفسها. ولعل العقوبات بالنسبة لسوريا تجسد إشكالية أكبر، حيث حظرت أمريكا عدداً من العمليات التجارية مع النظام. ولكن حتى هناك، يقرّ الأسد بأن أكبر مشكلاته الاقتصادية تتمثل في الأزمة المالية بلبنان، حيث انمحت عشرات المليارات من الدولارات التي تخص رؤوس الأموال السورية والتي كانت مكدسة في مصارف لبنان. فقد قال في خطاب له في شهر يوليو/تموز: “لم تمنعنا العقوبات من تأمين الاحتياجات الأساسية”.
لا يزال حزب الله أقوى خصم عربي لإسرائيل؛ إذ يقرّ الجنرالات في تل أبيب بأن وقوع حرب أخرى مع الجماعة يمكن أن تكون مؤلمة. لكنها بخلاف المناوشات الحدودية، لم تقاتل إسرائيل منذ 15 عاماً، ولا يمكنها الآن تحملها؛ إذ إن بلداً مفلساً ما زال يترنح للنهوض من تحت أنقاض عاصمته، لا يبدو إطلاقاً أنه في موقع يسمح له بدعم الحرب.
وبالمثل، ادعت الميليشيات التي قاتلت أمريكا بعد 2003 أنها تقاتل محتلاً أجنبياً. بيد أن الوجود الأمريكي الضعيف في العراق لا يزال حاضراً بطلبٍ من كل الحكومات المنتخبة التي تحرص على منع أي نهوض لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وفي سوريا، قادت إيران وحلفاؤها ثورة مضادة لحماية ديكتاتور بالوراثة غير مؤهل بأي حال من الأحوال أن يجسد صورة للمقاومة: فقد حافظ الأسد الأب والابن على هدوء الحدود مع إسرائيل منذ 1973، بل إن الابن كان يتفاوض على اتفاقية سلام مع الإسرائيليين حتى أواخر 2010.
ومن ثم فإن عبارة “المقاومة” تفسح الطريق أمام تفسيرها على أنها حفاظ على النفس. صحيحٌ أنهم فقراء وغير متسقين أيديولوجياً، غير أن حلفاء إيران مسلحون تسليحاً جيداً. وذلك كان كافياً لإحكام قبضتهم على السلطة. لكنهم أثبتوا أنهم ليسوا أكفأ من الأنظمة التي حاولوا ذات مرة إطاحتها، وهي إشكالية من مفارقاتها أنها تصيب كذلك أضدادهم الأيديولوجيين.
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رآي الموقع