السياسية: متابعات : صادق سريع

أسباب تخلي الليبرالية العالمية عن قواعد اللعب النظيف في 20 عاماً وتحولها لأداة في أيدي الحكام الفاسدين وشبكات المصالح الدولية

يضع أنصار الليبرالية أيديهم على قلوبهم خوفاً من مستقبل قريب يقلب الطاولة على قواعد الحريات.. والإنسانية.نعم، منذ نحو 20 عاماً بدأ العالم يدخل بالتدريج في مأزق جديد اسمه معاناة “النظام الدولي الليبرالي” من ضغوط شديدة، وتراجعها على كل الأصعدة.الساسة الشعبويون في مختلف أنحاء العالم يدعون لتغييرات كبرى في قواعد وقيم السياسة الدولية.ويهاجمون النظام الليبرالي بصفته “مشروعاً عولمياً يخدم مصالح النخب الشريرة، ويدمّر السيادة الوطنية والقيم التقليدية والثقافة المحلية”. الأنساق الليبرالية التي عكف العالم على تجهيزها منذ الحرب العالمية الأولى تتراجع.والعالم يزحف بمحض اختياره في اتجاه الاستبداد.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومعه حلف وارسو تفاءل أنصار الليبرالية بأن تصبح العقيدة “السياسية والاقتصادية” لعالم بلا قهر أو طغيان.مع بداية الألفية، وجدت الليبرالية نفسها في موقع الاتهام بالمسؤولية عن الفوضى وحشو العقول بأضغاث الأحلام.وفي منتصف العقد الثاني من الألفية بدأت دائرة الطغيان في حصار الكوكب.حتى بعد احتفال أنصاره بهزيمة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لا يزال النظام يواجه تحدياتٍ كبرى من الداخل والخارج. تقدر “فريدم هاوس”، وهي منظمة غير حكومية مقرها واشنطن، أن هناك 106 أنظمة حكم دكتاتورية أو شبه ديكتاتورية في عالمنا، أي ما يعادل 54% من الدول على كرتنا الأرضية.تراجعت الديمقراطية في الدول النامية والصاعدة بشكل أكبر مما كانت عليه قبل 15 عاماً.الحكام في عدد متزايد من الدول الصاعدة والنامية يعطلون المؤسسات الرقابية للحفاظ على سلطتهم ونظام يهدف لإثرائهم الشخصي.إنها نتائج دراسة تحليلية في ألمانيا، لاحظت أيضاً أن هناك تزايداً في الاحتجاج على الظلم الاجتماعي والفساد وسوء الإدارة.المفاجأة الحزينة أن نحو 3.3 مليار إنسان يعيشون في أنظمة مستبدة مقارنة بـ2.3 مليار إنسان عام 2003.أي أن مليار نسمة انضموا إلى نادي القمع في 15 عاماً فقط.ليست فقط الدول الفقيرة والنامية، بل الأنظمة العريقة في مهد الديمقراطيات الغربية. لاحظت الدراسة أن حقوق المواطنة في الديمقراطيات القائمة بالفعل تتقلص، وأن هناك تهاوناً في تطبيق معايير دولة القانون يمثل إشكالية بالغة. ما هو النظام الليبرالي الدولي، وهل صحيح أنه يختفي من الكوكب، بعد أن اكتشفت الشعوب مخاطره؟لكن إن كان النظام الدولي في مشكلة، فأي شكل من النظام غير الليبرالي يمكن أن يبرز في أعقابه؟ هل يعني ظهور نظام غير ليبرالي بالضرورة التنافس على القوة المجردة بين القوى الكبرى النازعة أكثر نحو القومية، والحمائية المستفحلة، وعالم معادٍ للحكم الديمقراطي؟يعتمد هذا التقرير على مقال مطوّل في مجلة Foreign Affairs، ومصادر أخرى لمناقشة تطور فكرة الليبرالية، ومشكلات النظام الليبرالي العالمي الراهن، ومستقبل الشعوب مع تسلط الطغاة على نحو ثلثي سكان الكوكب، وفشل موجات الغضب الشعبي في أنحاء مختلفة من العالم خلال السنوات الأخيرة.

الليبرالية حين تهزم نفسهاكيف تظهر سمات الاستبداد في أصل النظام الليبرالي السياسي والاقتصادي والتعاملات الدولية

يبدو أن هناك تغيرات مهمة في مزيج العناصر الليبرالية وغير الليبرالية التي تتسم بها السياسة العالمية. إذ يظل التعاون متعدد الأطراف والحوكمة العالمية قويين، لكنهما تُظهِران سماتٍ مستبدة وغير ليبرالية متزايدة. وتتسبب القوة المتزايدة للشعبوية الرجعية، وحزم القوى المستبدة في تآكل قدرة النظام الدولي على دعم الحقوق الإنسانية والسياسية والمدنية. وتشير تطورات مماثلة إلى مستقبل تُستخدَم فيه الترتيبات الاقتصادية الليبرالية لأغراض أوليغاركية (حكم القلة الثرية الاستبدادية) وكليبتوقراطية (الحكم الفاسد اللصوصي).وهذه العمليات تجري الآن بالفعل. ليست التطورات الأخيرة فقط هي السبب، بل أيضاً من القوى التي تُحدِث تحولاً في النظام الدولي منذ بداية القرن الحادي والعشرين. هناك توترات ومقايضات متأصلة تؤدي إلى توليد ضغوط من أجل التغيير. وقد يكون من المستحيل عكس مسار الاتجاهات الحالية في تطور النظام الدولي. وبدلاً من ذلك، يجب أن تركز الدول الديمقراطية جهودها على تشكيل النظام المتغيِّر على نحو يُوفِّر حماية أكبر لقيمها وأنظمة حكمها.

ما الذي يحوّل نظاماً ما إلى نظام غير ليبرالي؟

كانت معظم الأنظمة الدولية التي كانت تقتصر على الشؤون الإقليمية قبل القرن التاسع عشر- غير ليبرالية. اختلفت التوجهات نحو الحرب والتبادل الاقتصادي وانتهاج الدبلوماسية بصورة كبيرة. وسلَّمت بعض الأنظمة الدولية الماضية بانعدام المساواة الجوهري بين البشر، لكنها تضمنت مفاهيم مختلفة جداً لتراتبية الطبقات الاجتماعية. فالبعض نشأ حول إمبراطوريات عالمية ادَّعت، نظرياً، ممارستها للسلطان على العالم بأسره. هذه الإمبراطوريات الاستعمارية تأسست على مفاهيم للتراتبية العرقية والمهام الحضارية. وتشكَّلت أخرى من مدن متقدمة.أو ارتكزت على كونفيدراليات بدوية كبيرة. وفي بداية أوروبا الحديثة، تنافست الدول المركبة من سلالات حاكمة، والتي تكوَّنت من خلال الزواج والميراث الأرستقراطيين، على الأراضي والنفوذ.

ما هي الليبرالية؟

الليبرالية نفسها تأتي بأشكال مختلفة، وتمتزج أحياناً بملامح ليبرالية وغير ليبرالية. لكنها بصفة عامة تتضمن ثلاث نطاقات رئيسية:
1 الليبرالية السياسية المعنى الأول لليبرالية السياسية هو أن تحترم الحكومات بعض حقوق الإنسان والحقوق المدنية الأساسية. ومدّ الخط على استقامته يعني أن كل الدول يجب أن تكون ديمقراطيات ليبرالية. ويعني هذا أن بوادر النظام الليبرالي يمكن أن تتواجد في الأنظمة غير الليبرالية، بما في ذلك التسامح الديني المحدود في أوروبا بعد عام 1648.
2 الليبرالية الاقتصاديةوتعني ضرورة الالتزام باقتصاديات السوق. ويمكن أن يتباين ما يعنيه ذلك في الممارسة العملية تبايناً هائلاً. إذ تصوَّرت ليبرالية ما بعد الحرب العالمية الثانية مزيجاً من ضوابط رأس المال ودول الرفاه القوية. على النقيض من ذلك، يُفضِّل النظام النيوليبرالي الذي هيمن في التسعينيات على الأسواق ذاتية الضبط، وحركة رأس المال، وخصخصة وظائف الحكومة.
3 الاتجاه الليبرالي في التعاملات الدوليةوتتضمَّن الاتفاقيات الثنائية التي تعكس مبادئ المساواة في السيادة، حتى بين الدول غير المتكافئة بشكل كبير. يمزج النظام الدولي –والأنظمة الإقليمية في أماكن مثل أوروبا وإفريقيا الجنوبية وشرق آسيا- هذه النطاقات الثلاثة بطرق مختلفة. لكن بعد الحرب الباردة، أقنع صانعو السياسة الأمريكيون أنفسهم بأنَّ واشنطن يمكنها إقامة نظام دولي ليبرالي ليكون بمثابة توازن مستقر نسبياً، على الرغم من حصولهم على استثناءات، مثل الاستثناء من المحكمة الجنائية الدولية. افترض القادة الأمريكيون أن العالم سيلتقي حول تنظيم مبادئ التحول الديمقراطي، وتوسّع الأسواق، ومأسسة الاتجاه متعدد الأطراف في الحوكمة العالمية. واعتقدوا أيضاً أن هذه المبادئ ستعزز بعضها البعض.كان ذلك افتراضاً ممكناً. تقدَّمت المؤسسات الليبرالية لتملأ الفراغ الذي أحدثه انهيار النظام السوفييتي. مثلاً أدى انهيار حلف وارسو عام 1991 إلى بروز توسع الناتو. وفي غضون سنوات، شرع الاتحاد الأوروبي في محاولة طموحة لدمج الدول الأوروبية في مرحلة ما بعد الشيوعية. بدا أن انتصار الديمقراطية حتمي. وواجه الممانعون المستبدون –مثل سلوبودان ميلوسيفيتش في يوغسلافيا وفلاديمير ميسيار في سلوفاكيا- العقاب العسكري والاقتصادي من جانب القوى الغربية أو على يد تحالفات محلية واسعة.وأشرفت المنظمات المالية ووكالات التنمية الدولية التي يسيطر عليها الغرب على عمليات الانتقال نحو اقتصادات السوق بدعمٍ من المستشارين والمرشدين الغربيين. تم إدخال مبادئ مثل الملكية الخاصة، والاستثمار الأجنبي غير المُقيَّد، والتدفقات المفتوحة لرأس المال، والتجارة الحرة إلى القوانين المحلية.وهيمن ما يُسمَّى “إجماع واشنطن” الجديد على الحوكمة الاقتصادية الدولية، في حين أصبح الاتجاه متعدد الأطراف والتعاملات الدولية بين الحكومات هي النمط القياسي للتعاون الاقتصادي العالمي من خلال المؤسسات الجديدة مثل منظمة التجارة العالمية.وإجماع واشنطن Washington Consensus طرحته أمريكا عام 1989 ليكون علاجاً للدول الفاشلة التي واجهت صعوبات مالية وإدارية واقتصادية وكيفية تنويع اقتصادها وإدارة مواردها الطبيعية.هل يعني ذلك أن الليبرالية انتصرت على نحو نهائي؟لم يحدث.ما حدث هو أن بعض الدول المستبدة تحظى بعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.وأنَّ المجر وبولندا كانتا تتبادلان الحماية من عقوبات الاتحاد الأوروبي.وأن المؤسسات المنوط بها تأسيس الليبرالية وحمايتها، مثل صندوق النقد الدولي، واجهت اتهامات بتجاوز المبادئ الليبرالية من خلال الدفع ببرامج التكيُّف الهيكلي في الدول الضعيفة اقتصادياً. ودفع الفقراء الثمن مرتين، قبل الصندوق وبعده!كما أن القصور الديمقراطي لدى الاتحاد الأوروبي يُولِّد –عن استحقاق- جدلاً كبيراً.نتحدث الآن عما طرأ على النطاقات الثلاثة لليبرالية، وفي السطور التالية نرصد التغيرات التي لحقت بالنظام الليبرالي في التعاملات الدولية.

ظاهرها الليبرالية وباطنها الاستبداد

كان تشكيل عصبة الأمم عام 1920 أحد الإنجازات المهمة في تأكيد الممارسات الليبرالية في ما بين الحكومات.لكنَّ التحول الحاسم نحو الاتجاه الليبرالي حدث بعد الحرب العالمية الثانية. أصبحت المؤسسات والمنتديات متعددة الأطراف مواقع محورية للتعاون والدبلوماسية على نحوٍ متزايد، لا سيما بعد نهاية الحرب الباردة. لكن الولايات المتحدة استخدمت موقعها المهيمن لاستثناء نفسها من القواعد والمعايير الدولية، وإرساء معاملة تفضيلية لدول معينة لأسباب جيوسياسية. 

مثلاً غزت الولايات المتحدة العراق بناءً على “ذريعة ملفقة”، كما قال وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري. لكنَّ التصرف بشكل منافق وانتهاج الكيل بمكيالين هو جزء حتمي من الكيفية التي توفِّق بها الدول المهيمنة بين قوة الإكراه والقواعد المُوازِنة.شهدت السنوات العشرين الماضية زيادة مذهلة في عدد المنظمات الإقليمية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة أحد مظاهر انتصار الليبرالية. إذ لا تضم هذه المنظمات والمنتديات بشكل عام ديمقراطيات صناعية متقدمة. بل إنها، بقيادة الصين وروسيا، تحاكي شكل نظيراتها الغربية لكنها تنطوي على معايير غير ليبرالية مستبدة وتروِّج للأجندات الإقليمية لمؤسسيها المستبدين. هناك مثال جيد، تدَّعي المنظمات الجديدة صراحةً أنها تمثل قوى مهمة جرى إقصاؤها من نظام الحوكمة العالمية الحالي، مثل منظمة بريكس BRICS التي أسستها البرازيل وروسيا والهند والصين في 2009 وانضمت لها جنوب إفريقيا في 2010.بينما تسعى منظمة معاهدة الأمن الجماعي 2002 والاتحاد الاقتصادي الأوراسي 2014 إلى ترسيم مجال النفوذ الروسي في منطقة أوراسيا على غرار الناتو والاتحاد الأوروبي. وبالمثل، تعرف “منظمة شنغهاي للتعاون” –التي أسستها الصين وروسيا وأربع من دول آسيا الوسطى عام 2001- نفسها صراحةً باعتبارها تتصدى للنفوذ المهيمن الأمريكي من خلال المساعدة في “دمقرطة” العلاقات الدولية (إضفاء الطابع الديمقراطي عليها).وتتحدى المنظمات الدولية الجديدة النظام متعدد الأطراف القائم من خلال إدارة قضايا مماثلة أو إيجاد تجمعات جغرافية جديدة تتعارض مع سلطة المؤسسات الليبرالية. وتُقِرُّ الكثير من هذه المجموعات الجديدة ببعضها البعض وتتواصل بنشاط، وتؤدي أثناء ذلك إلى تغيير التوازن بين الهيئات الدولية الليبرالية وغير الليبرالية. باختصار، يبدو النسيج الدولي ما بين الحكومات في عام 2021 متعدد الأقطاب وغير ليبرالي من الناحية السياسية أكثر فأكثر، مقارنةً بما كان قائماً قبل عقدين من الزمن.

ماذا يعني غياب “الممارسات الليبرالية” من العلاقات الدولية؟تستغل قوى مثل الصين وروسيا المبادرات الثنائية بشكل كبير للتأثير على توجهات الدول الأخرى وسلوكها التصويتي داخل المنتديات متعددة الأطراف التي تحظى بتقدير أكبر. تستغل كل القوى الكبرى العلاقات الثنائية أو تُقدِّم مدفوعات جانبية لتحقيق تفضيلاتها السياسية. تفعل الولايات المتحدة ذلك منذ زمن طويل، تماماً مثلما فعله الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة. لكنََّ الأمر المذهل هو الكيفية التي تؤدي بها هذه الجهود الآن إلى تغير المؤسسات المحورية للنظام الليبرالي نفسه. مثلاً هناك ملف انتهاكات في حقوق الإنسان بالصين، هو اضطهاد مسلمي الإيغور في إقليم شينجيانغ.انتهاكات واضحة وصارخة.

ماذا يفعل الاتحاد الأوروبي؟على الأقل بإمكانه إصدار بيان انتقاد وإدانة لما يجري، لكنه عجز عن ذلك.لماذا؟لأن اليونان، شريكة الصين في مبادرة الحزام والطريق، منعت صدور القرار في عام 2017، ووصف مسؤول بالخارجية اليونانية البيان بأنه “انتقاد غير بنَّاء”. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يفشل فيها الاتحاد الأوروبي في إصدار بيان على هذا النحو المخزي. ليس هذا فقط.في عام 2019 وقّع 22 عضواً بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بياناً ينتقد الصين بسبب معسكرات إعادة التأهيل في شينجيانغ.

وجاد الرد الصيني بسيطاً: حشدت بكين لبيان دعم مضاد من جانب 37 دولة –ووصل إلى ما يزيد على 50 دولة بحلول الخريف- أثنت على بكين لـ”إنجازاتها اللافتة في مجال حقوق الإنسان”.وبالطبع فإن الموقّعين على بيان التأييد هم شركاء السوق والمشروعات المستقبلية وتحالفات المصالح.الخلاصة: ما يجري الآن هو استخدام التعاملات الدولية بين الحكومات لخدمة أهداف غير ليبرالية بنفس سهولة استخدامها لتحقيق أهداف ليبرالية.ننتقل في السطور التالية لرصد ما تغير في واقع الليبرالية السياسية، وما شهدته من تغيرات في الأعوام الأخيرة.

الربيع العربي في قفص الاتهام

الإجراءات المعقدة والطويلة للرد على انتفاضات الجماهير ساهمت
في خنق مناخ الليبرالية السياسية والحريات

ربما لا يوجد بُعدٌ من أبعاد النظام الدولي مهددٌ حالياً أكثر من الليبرالية السياسية.كانت المبادئ الديمقراطية الليبرالية مصدر إلهام عميق لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.هذه المبادئ باختصار تعني تشجيع وحماية حقوق الأفراد ومحاسبة الأفراد لقاء تورطهم في الجرائم أو الفساد. صحيح أن تطبيق وفرض حقوق الإنسان ومواجهة الإبادة الجماعية كان منقوصاً. لكنَّ أهمية مثل هذه الحقوق والمبادئ الليبرالية واضحة حين نقارنها مع القواعد وممارسات الأنظمة الدولية السابقة.ثم كان مطلع القرن الحادي والعشرين نقطة تحول مهمة. ففي عام 2006، وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، رصدت منظمة فريدوم هاوس Freedom House غير الحكومية أنَّ عدد الدول التي تتراجع فيها معدلات الديمقراطية فاق عدد الدول التي تحسَّنت معدلات الديمقراطية فيها، 33 مقابل 18. وتواصل هذا الاتجاه سنوياً منذ ذلك الحين.

“الثورات الملونة” في أوراسيا، والتي حدثت في سنوات منتصف العقد الأول من هذا القرن، وحركات “الربيع العربي” في بداية سنوات العقد الثاني. خلال الثورات الملونة، أطاحت احتجاجات الشوارع في عددٍ من البلدان السوفيتية السابقة بأنظمة لها علاقات وثيقة مع موسكو واستبدلتها بأخرى أكثر توجهاً نحو الغرب. بدأت موسكو، إلى جانب الأنظمة المستبدة الأخرى في المنطقة، تنظر إلى الحركات الديمقراطية باعتبارها تهديدات ملحة للأمن. قمعت روسيا والدول في أرجاء منطقة الاتحاد السوفيتي السابق احتجاجات الشوارع بقوة.ومنعت أو قيَّدت منظمات المجتمع المدني.وصوَّرت النشطاء الديمقراطيين باعتبارهم الطابور الخامس، المُموَّل من الخارج.في هذه الثورات، إلى جانب حرب العراق، ظهرت الولايات المتحدة باعتبارها قوة مهيمنة عازمة على الإطاحة بالنظم المستبدة. وقد أكَّد الربيع العربي هذه الصورة أكثر. شجعت واشنطن الاحتجاجات في أنحاء شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ومنحت الضوء الأخضر للناتو من أجل التدخل في ليبيا، بل واستغلت علاقاتها الأمنية مع مصر لفرض الإطاحة بحاكم البلاد القديم حسني مبارك. بينما صوَّرت الحكومات المستبدة القلقة في مناطق عدة المعارضة السياسية الداخلية ووسائل الإعلام المستقلة بها على أنَّها مصطفة بشكل ما إلى جانب القوى الغربية المتطفلة أو مع أجندة واشنطن الجيوسياسية.

لهذه المبررات يرفضون ليبرالية حقوق الإنسانفي مؤتمر صحفي لوزير العمل السعودي الأسبق غازي القصيبي في فندق ماريوت الرياض 2004، سأل مراسل “بي بي سي” البريطاني عن أسباب “قمع السلطات للحراك الإصلاحي” في جدة وقتها.

ورد الوزير بهدوء دبلوماسي قضى وقتاً طويلاً سفيراً لبلاده في لندن نفسها، قال: أنت تسميه حراكاً إصلاحياً لأنك تراه بعيون ثقافتك وبلدك، ولذلك لا تشعر بالرضا. بالضبط كما أقرأ عن قاتل متسلسل تعرضه محكمة في لندن على طبيب نفسي فيكتشف أنه يعاني ضغوطاً كبيرة. فتقرر المحكمة إرساله في رحلة إلى هونولولو لتهدئة أعصابه.المبرر الأكثر استعمالاً لرفض قواعد الليبرالية، وفي مقدمتها احترام حقوق الإنسان، هو مصطلح “التنوع الحضاري”، أو الاختلاف الثقافي.والصين هي أكثر الدول استعمالاً له: هناك نسبية ثقافية واختلافات حضارية ينبغي احترامها.في الوقت نفسه يبتكر الطغاة مجموعة من “الأعراف المضادة” بوصفها “القيم التقليدية” المقدسة، ويربطون الليبرالية بالانحطاط والانحدار. وقد روجت الحكومة الروسية، بدعم من بعض دول الشرق الأوسط، لفكرة أن الدين الخاضع لتنظيم الدولة يجب أن يلعب دوراً أكبر في الحياة السياسية، وفكرة القيم العائلية “التقليدية”، وكذلك فرض القيود على الهجرة لحماية الهويات الوطنية.وحش الإرهاب يلتهم الحريات الشخصية تتحمل الولايات المتحدة نفسها مسؤولية الترويج لواحد من أقوى الأعراف المضادة لليبرالية السياسية: الحاجة إلى تقييد الحريات المدنية وحقوق الإنسان بهدف مكافحة الإرهاب. تضمنت “الحرب على الإرهاب” العالمية بقيادة الولايات المتحدة جهوداً دبلوماسية تهدف إلى القضاء على الحركات الإرهابية والمتطرفة في جميع أنحاء العالم وإدراجها على القائمة السوداء. واستفاد الطغاة من هذا التصنيف المريح لمعارضيهم: هم “إرهابيون” و”متطرفون”. 

ونتيجةً لذلك، استخدمت الأنظمة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مكافحة الإرهاب ذريعةً لتعزيز السلطة التنفيذية، وتوسيع إجراءات المراقبة، وتقليص الحريات المدنية، وزيادة التعاون غير الرسمي بين أجهزتها الأمنية.رجاءً لا تتدخلوا في شؤوننا الداخليةنجح الطغاة أيضاً في تصوير الديمقراطية على أنها تهديد لأمن الأنظمة والمنظمات الإقليمية الجديدة.مثلاً تبنت منظمة شنغهاي للتعاون ما يسمى “روح شنغهاي”، التي تناصر مبدأ عدم التدخل، فضلاً عن الاحترام والتفاهم الحضاري المتبادلين. كما أسست منظمة شنغهاي للتعاون لإدراج المنظمات والأفراد الذين تعتبرهم إرهابيين، ومتطرفين، وانفصاليين على القوائم السوداء، مع غياب المعايير الواضحة لتلك التصنيفات. والتزمت المنظمة بإجراءات متجاوزة للحدود الإقليمية، تسمح بتسليم الأفراد المدرجة أسماؤهم في القائمة، ومن بينهم المعارضون السياسيون، من أراضي الدول الأعضاء في المنظمة، دون أي حماية قانونية دولية. 

وحذا مجلس التعاون الخليجي حذو منظمة شنغهاي، بمجموعة مماثلة من البنود في عام 2012، منها ما جاء بشأن الاحتجاجات الشيعية في البحرين وشرق السعودية، بأن إيران هي المحرك لهذه الاحتجاجات.
لننظر مثلاً إلى الإشراف الدولي على الانتخاباتفي التسعينيات، كان الإشراف على الانتخابات مسعى متواضعاً ولكنه متخصص، اقتصر على الممارسين الملتزمين من أمثال مركز كارتر، أو دولياً مكتب المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ولكن بحلول النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انخرطت العديد من هذه المنظمات الإقليمية الجديدة في مجال الإشراف على الانتخابات لوقف موجة الانتقادات الدولية. وليس مفاجأة أن تقييمات هذه المنظمات تدعم دوماً سلامة انتخابات معيبة يجريها الحكام المستبدون الحاليون. وبدوره، يؤدي وجود هؤلاء المراقبين الدوليين الموالين للأنظمة إلى تعكير الأجواء والتقليل من احتمالات أن تصبح الانتخابات المزورة بؤرة للحشد المناهض للحكومات. 

الخلاصة: أعادت الحكومات السلطوية توظيف الأعراف والممارسات الدولية المصممة في الأصل لتعزيز القيم الليبرالية، لتستعملها في تعزيز السلطة السيادية للحكام المستبدين.ننتقل في السطور التالية إلى النطاق الثالث والأخير، وهو الليبرالية الاقتصادية، لتكتمل لدينا صورة التراجع الكبير للقيم الليبرالية في عشرين عاماً.

الليبرالية الاقتصادية تحت الحصار

الذين ينادون بضرورة القضاء على العولمة والليبرالية الاقتصادية لديهم 3 مبررات:ضرورة فرض سياسات حمائية لدعم قطاعات محددة.وفصل الاقتصادات لتسهيل المنافسة بين القوى العظمى.وجهود الحد من المخاطر الأمنية التي يفرضها الاعتماد التجاري والمالي المتبادل. ولا تزال إزالة العولمة والحروب التجارية المستمرة احتمالاً حقيقياً. ومع أن التوجه العام لإدارة بايدن أكثر دعماً للتجارة، إلا أن مفاوضي إدارة بايدن لم يُعارضوا استدعاء ترامب المُبالغ فيه لضرورات “الأمن القومي” تبريراً لفرض رسوم جمركية على منتجات مثل الصلب.ما يجري الآن هو إعادة توظيف الترتيبات الاقتصادية الليبرالية لخدمة أغراض غير ليبرالية. والخيار الأكثر ترجيحاً للمستقبل هو التوافق أو “التواطؤ” على عناصر الليبرالية الاقتصادية التي يجدها القادة الاستبداديون والسياسيون الشعبويون ملائمة وتوفر للقوى العظمى والإقليمية أدوات لفرض نفوذها على الساحة الدولية. وتتقاطع هذه العناصر مع الاقتصاد الدولي المتزايد الفساد والأوليغاركية، الذي يقوض الليبرالية السياسية والديمقراطية أكثر وأكثر.
كيف ساهم “ترويض” الليبرالية في نهب الشعوبالمحاسبون الغربيون، والشركات الوهمية، والمحامون، وجماعات الضغط، والمصرفيون، ومطورو العقارات الفاخرة، كلهم ساعدوا الحكومات الفاسدة والمسؤولين في غسيل الثروات المنهوبة من بلدانهم الأصلية. ويُعطي إصدار أوراق بنما في عام 2016 -عن طريق تسريب لأكثر من 11 مليون وثيقة من أحد أكبر الجهات المزودة للشركات الخارجية في العالم- صورة جلية للجانب المظلم من النظام الاقتصادي الليبرالي. وضح التسريب كيف استخدم الحكام والنخب والمسؤولون المنتخبون ديمقراطياً في جميع أنحاء العالم شركة المحاماة البنمية موساك فونسيكا في شراء أصول معقدة مصممة لإخفاء مصدر ثرواتهم المختلسة.وقد بذلت الولايات المتحدة، أمُّ الليبرالية، الكثير من العمل لجعل الليبرالية الاقتصادية صديقة للفساد. في مؤشر السرية المالية لعام 2020، صنفت شبكة العدالة الضريبية، الهيئة الرقابية لمكافحة الفساد، الولايات المتحدة على أنها ثاني أكثر دولة “متواطئة” في العالم، بعد جزر كايمان مباشرة، من حيث تمكين المجرمين والأثرياء من غسل أموالهم. المساعدات الدولية وشبكات المصالح تفضل الحكام الطغاة ومن الممكن أن تؤدي المساعدات الإنمائية، وهي جزء أساسي من النظام الليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية، إلى مساعدة القادة غير الليبراليين في ترسيخ أنظمتهم. فبرامج التنمية، مثل الترتيبات التجارية والاستثمارية المواتية، تساعد الحكومات في توليد الشرعية عن طريق توفير المنفعة المادية لمواطنيها. لكنها في حالة الحكام الفاسدين تخلق فرصاً للبحث عن الريع، عبر إثراء أنفسهم، وتشحيم شبكات المحسوبية المحلية الخاصة بهم. وتقدِّر دراسة للبنك الدولي حُظِر نشرها في السابق أن ما يصل إلى 7.5% من المساعدات الإنمائية الرسمية المرسلة إلى أفقر البلدان النامية يتم تحويلها إلى أصول خارجية.وتلعب المساعدات الصينية دوراً مركزياً في هذه العملية.بعد الأزمة المالية لعام 2008، قدمت الصين القروض والاستثمارات للدول غير الراغبة أو غير القادرة على الوصول إلى جهات الإقراض الغربية في حالات الطوارئ. وكان الإعلان عن مبادرة الحزام والطريق في الصين في عام 2013 إيذاناً بدخول الصين بثقلها في مجال توفير الاستثمارات وتمويل البنية التحتية. ورغم المزاعم الأولية بأن مبادرة الحزام والطريق ستوفر تحسينات “غير سياسية” للبنية التحتية، وأنها ستكمِّل المصادر الموجودة بالفعل للمساعدة الإنمائية، فقد تدخلت الجهات الاقتصادية الفاعلة الصينية المشاركة في مبادرة الحزام والطريق في السياسات الداخلية للعديد من البلدان، بما في ذلك سريلانكا وباكستان وطاجيكستان وكمبوديا. الخلاصة: هكذا تتلاقى مصالح القادة غير الليبراليين مع مصالح القوى العظمى في البحث عن أدوات لفرض النفوذ الاقتصادي.

المستقبل: لكن الليبرالية لن تختفي أبداً

إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فمن المرجح أن النظام الدولي الناشئ سيظل يحتوي على خصائص ليبرالية. سيبقى الاتجاه الليبرالي في التعاملات الحكومية بين الدول -في شكل منظمات متعددة الأطراف وعلاقاتٍ دولية- قوة كُبرى في السياسة العالمية. ولكنها ستكون تعاملات حكومية ذات خصائص استبدادية. ستستمر الدول الاستبدادية في هدم الليبرالية السياسية في المؤسسات الدولية الأقدم، بينما تبني لها بدائل غير ليبرالية. ومن المرجح أن يظل المجتمع المدني العابر للدول موقعاً للخلاف الأيديولوجي المستمر، تتنافس فيه مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة الرجعية والشعبوية والمؤيدة للاستبداد مع الجماعات الليبرالية ومع بعضها. مثل هذا العالم سيكون أقرب إلى عالم عشرينيات القرن الماضي منه إلى الحرب الباردة. حتى “العودة” إلى ما وصفته استراتيجية الأمن القومي لعام 2017 لإدارة ترامب بـ”التنافس بين القوى العظمى” من المرجح أن تشجع التوجهات غير الليبرالية.في المنافسة الاقتصادية مع الصين تعزف أمريكا على وتر العداء مع العرق الصيني.وتمارس الضغوط لتوسيع إجراءات المراقبة المحلية.ومن المرجح كذلك أن تنشط جماعات المناصرة والمؤسسات والشبكات الليبرالية.لكن من أين يبدأ أنصار الليبرالية حربهم على التراكمات المؤلمة لنمو الطغيان؟ 

الخطوة الأولى والأكثر أهمية هي التركيز على جهود مكافحة الفساد. يجب على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي دعم تدابير جديدة لمكافحة الفساد تمتد خارج الحدود الإقليمية.النبأ السار هو أن هناك القليل من الأعراف الفعالة لمكافحة الفساد.تفضل الحكومات الفاسدة إقناع مواطنيها بأن الجميع متساوون في الفساد، ثم تبدأ في استعمال إجراءات مكافحة الفساد سلاحاً ضد المعارضين السياسيين. الخطوة الثانية هي إعطاء الأولوية لأبعاد الليبرالية السياسية، سواء في الداخل أو في الأطر الحكومية الدولية. وهذا يعني الدفاع عن الليبرالية السياسية قولاً وفعلاً. ويعني أيضاً تأكيد أسسها المعيارية الحالية بدلاً من تقويضها.

* موقع عربي بوست