السياسية:

بعد انتصار أمريكا في حرب الخليج عام 1991، ظن الأمريكيون أنهم قد تخلصوا من عقدة فيتنام أو ما يعرف بـ”متلازمة فيتنام”، واليوم مع تطور التكنولوجيا العسكرية وخاصة الطائرات المسيرة يعتقد بعض الأمريكيين أنهم باتوا قادرين على الانتصار في الحروب بلا خسائر.

ولكن تجربة حرب أفغانستان قد مثلت درساً مهماً لأصحاب تلك النظرية، وهو أن الحرب يمكن أن تؤدي إلى انتصار الطرف الأضعف، حسبما ورد في تقرير لمجلة National Interest الأمريكية. 

متلازمة فيتنام

منذ حرب فيتنام، والعسكريون الأمريكيون قلقون باستمرار من الخسارة في جنوب شرق آسيا. كانت أشباح فيتنام، المعروفة باسم “متلازمة فيتنام”، تطارد القوات المسلَّحة الأمريكية منذ سقوط وتدمير فيتنام الجنوبية. 

ويُقال إن الرئيس ريتشارد نيكسون هو الذي صاغ هذه مصطلح متلازمة فيتنام لوصف الشعور بالضيق لدى القوات المسلحة الأمريكية، والحكومة والمجتمع الأمريكي أيضاً من مثل هذه الحروب. 

اعتبر المؤمنون بـ”متلازمة فيتنام” أنها عائقٌ ثقافي أمام النجاح العسكري الأمريكي. 

كانت الفكرة الأساسية هي أن الشعب الأمريكي أصبح يكره الخسائر منذ الحرب العالمية والصراعات التالية، قد يقدِّم المواطنون دعماً لمغامراتٍ أجنبية ذات عواقب أقل للمصلحة الوطنية، ويسحبون هذا الدعم بمجرد أن تتزايد التكاليف وتبدأ أكفان الجنود في العودة إلى الوطن بأعدادٍ كبيرة. الأمر غير مستقر في هذا المضمار. لا يمكن لمجتمعٍ ديمقراطي أن يشن حرباً بتكلفةٍ كبيرة، ولفترةٍ طويلة، بدون هذا الدعم الشعبي المهم للغاية. ومن هنا جاءت كارثة فيتنام وآثارها. 

كان يظن بعد حرب الخليج أن التكنولوجيا سوف تقلل خسائر الأمريكيين وتجعلهم يتخطون متلازمة فيتنام، فلقد قدَّمَت القوات الأمريكية بالفعل عرضاً لقوة نيران عالية التقنية في الخليج، بما في ذلك أول استخدام قتالي للمركبات الجوية المسيَّرة غير المأهولة، التي أصبحت الآن شعار الحرب البعيدة. لكن عاصفة الصحراء لم تقهر أشباح فيتنام، بل استرضتهم، حسب وصف المجلة الأمريكية.

ومن خلال ضرب الجيش العراقي، جعل منفِّذو الاستراتيجية الجديدة الناس العاديين مقتنعين بأن الحرب كانت سريعةً وغير دموية بطبيعتها. ستكون جميع الحروب المستقبلية عواصف صحراء، وسريعة، وخالية من الدم. 

أمريكا تستطيع هزيمة الجيوش القوية الكبيرة لا الميليشيات.. لماذا؟

هذه هي المغالطة بشأن قدرة أمريكا على تخطي متلازمة فيتنام تواجه اعتراضاً ذا ثلاثة أوجه. الأول هو أن الحرب عالية التقنية توفِّر النجاح في معركةٍ تقليدية مثل حرب الخليج. ولكن الأمر مختلف في بلدانٍ مثل فيتنام أو أفغانستان، حيث لا يتكتَّل الخصوم في وحداتٍ كبيرة تُكتَشَف ويجري تتبُّعها واستهدافها بسهولة، بل ينتشر الخصوم في مجموعاتٍ معزولة، ويختلطون بالسكَّان والتضاريس ويرفضون محاربة قتال أمريكا على طريقتها. 

الخصوم لديهم أجنداتهم وطرقهم الخاصة في الحرب. إنهم لا يحتاجون إلى الامتثال للطرق الأمريكية، ولا يتعيَّن عليهم ذلك إذا أرادوا النصر. 

وبهذا المعنى، فإن حركة طالبان وتنظيم القاعدة والجماعات المسلَّحة المشابهة لها يتَّبِعون نصيحة كلاوزفيتز. يحذِّر الجنرال البروسي البارع كارل فون كلاوزفيتز من أن الحرب هي صراعٌ تفاعلي للإرادات بين الأعداء، مع كلِّ حافزٍ لتسخير قوتهم وتجاوز قوة العدو والضرب في نقاط ضعفه. لا يمكن للجماعات المسلَّحة غير النظامية أبداً أن تواجه خصماً تقليدياً، لذا فهي تفعل شيئاً مختلفاً. 

ومع ذلك، فإن الجماعات المسلَّحة تسير في عكس اتِّجاه كلاوزفيتز أيضاً بطريقةٍ حاسمة. كَتَبَ كلاوزفيتز عن الجيوش التقليدية التي تهيمن على ساحات المعارك التقليدية. ويرى أن الجيش المصبوب في القالب التقليدي يكون بمثابة “مركز ثقل”. يتعرَّف الجنرالات الحكماء على خصمهم، ويحدِّدون مركز ثقلهم، ويركِّزون قوتهم، ثم يوجِّهون “ضربةً تلو الأخرى” إلى تلك النقطة المحورية حتى يستسلم العدو أو يتوقَّف عن المقاومة. 

ومثل كلِّ المقاتلين، تمتلك أيُّ جماعةٍ مسلَّحة غير نظامية مركز ثقل واحداً أو أكثر. لكن مراكز ثقلها أقل وضوحاً، وبالتالي فهي مُراوِغة أكثر من الكتلة الكبيرة للجيش التقليدي.

كما أن الدعم الشعبي شيءٌ، والقدرة على إعادة الإمداد من الريف والسكَّان شيءٌ آخر. ويُعَدُّ الوصول إلى مصادر القوة والتماسك هذه أمراً مختلفاً تماماً عن القتال ضد جيشٍ حاشدٍ يحدِّق فيك عبر ميدان القتال. 

هنا مرةً أخرى، ينطبق مثال فيتنام. قال الجندي جون بول فان ذات مرة ساخراً إن السلاح الرئيسي لقتال متمرِّدي الفيتكونغ هو السكين. جعل القتال بالسكاكين القوات الأمريكية وجهاً لوجه مع العدو، وبالتالي كان أكثر تأثيراً من المدفعية بعيدة المدى والقصف الجوي. واليوم مثلما كان الوضع في حقبة فيتنام، ليس هناك بديلٌ للخروج بين الجماهير وجمع المعلومات وكشف المتمرِّدين. 

هل الطائرات المسيرة والذكاء الاصطناعي هو الحل؟

لا تقدِّم الطائرات المُسيَّرة والعمليات الإلكترونية والذكاء الاصطناعي الكثير -إن قدَّمَت شيئاً- لتهدئة مخاوف بول فان بشأن الحرب عن بُعد. 

أما النقطة الثانية فهي سياسية. تسمَّى الحرب عن بُعد بهذا الاسم من حيث المعنى التقني لها، حيث يضرب المشغِّلون القوات المعادية بطائراتٍ مُسيَّرة وهجماتٍ إلكترونية ووسائل أخرى لا تعرِّضهم لمخاطر شخصية. لكنها حربٌ عن بُعدٍ أيضاً بالمعنى السياسي. لأن الجيش الأمريكي على وجه التحديد معفي من الأذى، فإن الحرب يمكن أن تشتعل في ساحات قتالٍ بعيدة بينما لا تثير المشاعر العامة -أو حتى الاهتمام- داخل الولايات المتحدة. 

إذا كانت الحرب بعيدةً عن الحياة اليومية، فإنها تثير نفس الحماسة الشعبية التي تثيرها الوظائف الحكومية اليومية، مثل فرض القانون والنظام والحفاظ على البنية التحتية. يعتبر الناس هذه الوظائف مهمة، ولكنها روتينية، والأعمال الروتينية لا تثير إلا القليل من الشغف. وبالمثل، فإن الحرب عن بعد تولِّد الرضا عن النفس ومن ثم النسيان. 

إن احتمالية نشوب حرب مُطوَّلة، ومُحيِّرة، من شأنها أن تحيِّر كلاوزفيتز نفسه، الذي رأى أن “الاتجاهات السائدة” الثلاثة تجعل الحرب “ثالوثاً متناقضاً” -“العنف البدائي والكراهية والعدواة”- والتي يجب اعتبارها قوةً طبيعيةً عمياء، و”لعبة الحظ والاحتمال التي تجول فيها الروح الإبداعية”، و”التبعية” للسياسة التي تجعل الحرب “خاضعة للعقل وحده”. 

العقل والإبداع ضروريان، لكن المحارب الذي لا يغذيه قدرٌ من العواطف البدائية المظلمة يفتقر إلى عنصرٍ من عناصر الثالوث. إنه محاربٌ يفتقر إلى القوة. كيف يمكن لمنافسٍ فاترٍ أن يشن حرباً بلا نهاية على ما يبدو؟ ببساطة من خلال الحفاظ على تكلفةٍ منخفضة لخسائره. 

يؤكِّد كلاوزفيتز أن “قيمة الهدف السياسي” تحدِّد حجم ومدة الجهد الذي يبذله المتنافس للوصول إلى هدفه. 

يجب مراعاة عامل الوقت إضافة إلى إجمالي إنفاق المؤسسة العسكرية. يتقدَّم المقاتل العقلاني إذا وجد المعدَّل مقبولاً، ويتخلَّى عن الجهد إذا لم يكن كذلك. والآن، من خلال هذا التعريف، فإن المقاتل اللامبالي يهتم فقط بصورةٍ فاترة بأهدافه الحربية. ومن خلال منطق كلاوزفيتز، فإنه يرفض الإنفاق على هذه الأهداف بسخاء أو لفترةٍ طويلة. وهذا ما حدث في أفغانستان، حيث قاتلت القوات الأمريكية في أفغانستان منذ أعوامٍ طوال دون إحداث رد فعلٍ خطير. 

كيف؟ الحرب عن بُعد تحل محل التكنولوجيا للقوى العاملة العسكرية، وتحمل فلسفة عاصفة الصحراء إلى أقصى حدودها. فكِّروا فقط في الأرقام الأوَّلية. يسرد الأرشيف الوطني 58,220 حالة وفاة نتيجة القتال في فيتنام. سقط 143 قتيل فقط في حرب الخليج، بينما سقط 1,847 في أفغانستان. من غير المُرجَّح أن تثير هذه الأرقام رد فعلٍ عنيفاً، لكنها تسمح للمجتمع باللامبالاة بالقتال لفترةٍ طويلة. 

الهزيمة الأخلاقية

ترتبط نقطة الاعتراض الأخيرة ارتباطاً وثيقاً بالنقطة الثانية، وهي تتمحور حول الأخلاق. عندما تعتمد على أسطورة التكنولوجيا والقتل عن بُعد لبناء أساس منطقي لحربٍ سهلة، ستفقد بلدك روحها. كان صنع القرار سهلاً وخالياً من التكاليف الباهظة وعلى ما يبدو يخفي حقيقة أنه ينطوي على تكاليف باهظة للخصم ولسكَّان أيِّ بلدٍ أو منطقة تشكِّل ساحة المعركة. 

يحذِّر كلاوزفيتز من التعامل مع الحرب بخفَّة. قد يعتقد الكثير من الأشخاص الطيبين أن هناك طريقةً بارعة لنزع سلاح العدو أو هزيمته دون إراقة الكثير من الدماء، وقد يتصوَّرون أن هذا هو الهدف الحقيقي لفن الحرب. لكن هذه مغالطة كبيرة يجب كشفها. يتصوَّر المرء أنه سيذكِّر الأجيال القادمة بأن الحرب تظل عملاً خطيراً للآخرين، حتى لو كانت التكنولوجيا تجعلها غير مؤلمة للأمريكيين. 

لذلك يبدو من السهل شن حرب بعيدة، ومن الصعب الفوز بها، علاوة على أنها تنطوي على مخاطر أخلاقية خفية. 

متلازمة أفغانستان

ينطبق الأمر بشكل كبير على أفغانستان التي وصفتها صحيفة واشنطن بوست بأنها مقبرة الغطرسة الأمريكية.

فبعد مرور 20 عاماً على التواجد الأمريكي مازالت البلاد لا تنعم بالسلام، وبحسب مجموعة البحث في العنف المسلح فقد شهد عام 2020 مقتل عدد من الأفغان بالعبوات الناسفة أكثر من أي دولة أخرى في العالم، ولم يختف من هناك بعد تنظيم القاعدة وتنظيم داعش والجماعات المسلحة الأخرى فهي تنشط من جديد ويشجعها بلا شك الرحيل الوشيك لآخر القوات الغربية المتبقية.

وباتت حرب أفغانستان تعرف بـ”الحرب الأبدية”، ولكنها أيضاً ذات تكلفة حيث كلفت أمريكا أكثر من تريليوني دولار أمريكي و240 ألف قتيل، حسب تقرير لمجلة Militarytimes الأمريكية، فصل تلك الفاتورة اعتماداً على تقرير أمريكي رسمي صادر عن وزارتي الدفاع (البنتاغون) والخارجية.

ويرصد التقرير تكلفة إرسال القوات الأمريكية إلى أفغانستان منذ عام 2001 وحتى نهاية 2020 وأعداد تلك القوات، إضافة إلى الأموال التي أنفقها البنتاغون والخارجية لإدارة الصراع وعلاج ومساعدة العسكريين الأمريكيين الذين أصيبوا هناك، ويخلص التقرير إلى أن الفاتورة المالية تتخطى حاجز تريليوني دولار أمريكي.

ولا تشمل التكلفة الإجمالية التي رصدها تقرير تكلفة الحرب في أفغانستان الأموال التي ستظل الحكومة الفيدرالية في إنفاقها على رعاية قدامى المحاربين مدى الحياة ولا الفوائد والمدفوعات المستقبلية لتغطية القروض الحالية.

أما عن التكلفة البشرية لحرب أفغانستان، فتظهر التقارير المختلفة حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أن الشعب الأفغاني نفسه هو من دفع الفاتورة الأعلى على الإطلاق في تلك الحرب، إذ ركز تقرير لموقع VOA الأمريكي على أن أكثر من 241 ألف شخص قد فقدوا حياتهم على مدى العقدين الماضيين، الغالبية الساحقة منهم من الأفغان أنفسهم.

فقد فقدت الولايات المتحدة الأمريكية، منذ بدء الحرب عام 2001، أكثر من 2300 قتيل، إضافة إلى إصابة نحو 20660 جندياً بجراح أثناء القتال، لكن أرقام الضحايا الأمريكيين تتضاءل أمام الخسائر في الأرواح بين قوات الأمن الأفغانية والمدنيين، بحسب تقرير لـ”بي بي سي”.

وهنا تظهر التكلفة الأخلاقية، فبعد أن انتهى تقريباً التهديد الإرهابي، القادم من أفغانستان، فإن أمريكا والغرب كانا يقولان إنهما مستمران بالتواجد لحماية الشعب الأفغاني وضمان حقوقه خاصة النساء، وتظهر التكلفة البشرية التي دفعها الأفغان أن هذا الكلام ليس صحيحاًً.

ولم يزد استخدام الطائرات دون طيار وغيرها من أساليب الحرب الحديثة الوضع إلا سوءاً.

واليوم لم تتخلص أمريكا من متلازمة فيتنام بل أصبح لديها متلازمة جديدة يمكن تسميتها بـ”متلازمة أفغانستان”.

* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولا تعبر عن رآي الموقع