السياسية:

أحياناً تقف الكلمات عاجزة عن وصف ما يتعرض له الفلسطينيون في قطاع غزة من معاناة بسبب الحصار الذي يفرضه عليهم الاحتلال، فهم بشر وليسوا أرقاماً تتداولها التقارير الإعلامية.

وقد شهدت الأراضي الفلسطينية عموماً، وقطاع غزة خصوصاً تغطية إعلامية مكثفة طوال 11 يوماً (10 مايو/أيار حتى 21 مايو/أيار)، شاهد خلالها العالم أبراجاً سكنية وبيوتاً تهدمها صواريخ العدو الإسرائيلي وأراضي زراعية تحترق وطرقاً ومحطات مياه ومشافي تتعرض للقصف على الهواء مباشرة.

ومن بين نحو 250 شهيداً سقطوا في غزة وحدها خلال تلك الفترة، كان هناك 67 طفلاً فلسطينياً كان أول من فقد حياته منهم الطفل براء الغرابلي بعد خمس دقائق فقط من بدء إسرائيل هجومها المكثف على القطاع، ولم يكن براء الغرابلي مقاتلاً ضمن صفوف المقاومة الفلسطينية، لأن عمره 5 سنوات فقط، بحسب تقرير لصحيفة أمريكية هي New York Times، وليس وسيلة إعلام عربية قد يتهمها البعض بالانحياز للفلسطينيين.

مأساة أطفال مرضى

وبعيداً عن المسار السياسي أو العسكري أو الاقتصادي للحرب في غزة، التي حققت خلالها المقاومة الفلسطينية بزعامة حركة حماس انتصاراً لافتاً على الاحتلال الإسرائيلي باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، يرصد هذا التقرير الذي نشره موقع Middle East Eye البريطاني جانباً من المأساة الإنسانية لسكان القطاع المحاصر.

تجلس منى الغول بجانب سرير ابنها “وسيم” البالغ من العمر 5 سنوات والمصاب بسرطان الدم. يتحول انتباهها إلى شاشة هاتفها المحمول لتتابع سيل الأخبار المتدفقة من قطاع غزة.

أطفال في قطاع غزة

يستطيع أي شخص بسهولة رؤية علامات التوتر والحزن على وجه هذه الأم الموجودة بمفردها مع ابنها المريض منذ عدة أسابيع بمستشفى “المطلع” (أوغستا فيكتوريا) في القدس، وهو المستشفى الذي يُحال إليه أطفال غزة المرضى بالسرطان لتلقي العلاج. يعيش هؤلاء المرضى وذووهم المرافقون لهم بعضاً من أصعب أيام حياتهم على خلفية العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة.

دائماً ما كان البقاء فترة طويلة في مستشفيات القدس يُمثل تجربة صعبة بالنسبة لفلسطينيي غزة. وقد تضخمت المعاناة هذه المرة بسبب الحملة العسكرية الإسرائيلية التي دامت 11 يوماً، وخلّفت وراءها تركة هائلة من الدمار والموت وحسرة القلب من دون أن يكون لدى هؤلاء الفلسطينيين الموجودين في القدس من أجل العلاج خيار العودة للانضمام إلى أحبائهم في قطاع غزة.

“وسيم” ووالدته في مستشفى بالقدس

استغرق تشخيص مرض وسيم عدة أشهر بسبب ندرة المعدات الطبية المتخصّصة في قطاع غزة. عندما شُخّصت حالته أخيراً بسرطان الدم في أبريل/نيسان، تركت منى منزلها وبقية أفراد أسرتها في غزة واصطحبت ابنها المريض إلى القدس لتلقي العلاج.

التمست منى مساعدة المستشفى للحصول على الدعم النفسي لكي تستطيع التعامل مع ما تواجهه من قلق وتوتر ناجم عن مرض ابنها، لكن بمجرد أن بدأت تشعر بالتحسّن بدأ الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة وجلب معه موجة جديدة من الخوف والقلق.

قالت منى في مقابلة مع موقع Middle East Eye: “لقد واصلت الليل بالنهار، يعاني ابني وسيم من مرضه، وأنا أعاني من أجله ومن أجل زوجي وأطفالي الثلاثة الآخرين الذين تركتهم في غزة، أمشي بمفردي ليلاً عبر ممرات المستشفى، داعية الله أن يحمي عائلتي”.

باتت مخاوف منى حقيقة بعد تدمير منزل عائلتها في إحدى الغارات الجوية الإسرائيلية. قالت منى: “كنت أتطلع إلى عودتي مع وسيم إلى غزة ولم شمل أسرتنا مُجدَّداً، لكن إلى أين سأعود الآن بعد قصف منزلي وتدميره. أين سنعيش؟”

لم تكن هذه المرة الأولى التي يتعرّض فيها منزل عائلة الغول للتدمير، بل كانت المرة الثانية. عندما تعرّض المنزل للتدمير في عام 2014، استغرق الأمر منهم عدة سنوات حتى يستطيعوا إعادة بنائه بسبب الافتقار إلى المال والموارد. يقيم حالياً زوج منى وأطفالها مع أقرباء تعرّضت منازل البعض منهم أيضاً للتدمير في الغارات الإسرائيلية.

كانت دولة الكيان الإسرائيلي قد شنّت حملتها العسكرية على قطاع غزة، في 10 مايو/أيار، بعد أن أطلقت حركة حماس صواريخ باتجاه إسرائيل، رداً على الهجمات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وإجراءات القمع العنيفة ضد الفلسطينيين المحتجين على محاولة طرد عائلات فلسطينية من منازلها في حي الشيخ جراح بالقدس. وبدأ سريان اتفاق وقف إطلاق النار بوساطة مصرية في الساعات الأولى من يوم 21 مايو/أيار.

كانت منى الغول تتمنى لو كانت موجودة مع أسرتها في غزة أثناء العملية الإسرائيلية، لاسيما إلى جانب ابنها الأصغر “زين” الذي يعاني من مرض مزمن في الكلى.

غزة.. أعز مكان في العالم

لم يكن الوضع أفضل في الغرفة المجاورة، حيث يعالج موسى الزين البالغ من العمر 13 عاماً من سرطان العظام.

قال موسى لموقع Middle East Eye: “عندما يتصل بي إخوتي وأقاربي من غزة وأسمعهم يضحكون أشعر كأنَّني قد شُفيت من مرضي. قال موسى بنبرة صوت تتجاوز كثيراً سنوات عمره: “أتمنى لو أستطيع العودة إلى منزلي في غزة، لكن الجميع غادروا إلى مناطق أكثر أماناً بسبب الحرب”.

وأضاف: “غزة هي أعز مكان في العالم على قلبي. أرجو أن تنتهي المعاناة التي يتحمّلها سكان قطاع غزة جراء الحروب والأمراض والحصار”.

تجلس إلى جانب موسى والدته “شادية”، التي غادرت غزة لأول مرة في حياتها قبل شهرين لمرافقة طفلها الأصغر إلى القدس لتلقي العلاج. اضطر أفراد عائلة شادية -زوجها وأطفالها التسعة- إلى مغادرة منطقتهم السكنية في بداية الحرب بسبب القصف الجوي الإسرائيلي.

قالت شادية: “عندما اندلعت الحرب فقدت الأمل في نجاة أسرتي لأنَّنا نعيش في منطقة حدودية. غمرني الخوف عندما انقطعت اتصالاتهم بنا، لكنني أخفيت ذلك عن موسى حتى لا يؤثر سلباً في مسار علاجه”.

أطفال مرضى وأمهات تعاني

تستقبل مستشفى “المطلع”، وفقاً للبيانات المسجلة، حوالي 6 آلاف مريض سنوياً، من بينهم 4 آلاف مصابون بالسرطان و50% منهم من قطاع غزة.

تتلقى أروى الشريف، فتاة من غزة تبلغ من العمر 17 عاماً، رعاية تلطيفية في مستشفى “المطلع” (أوغستا فيكتوريا) لدعمها نفسياً في مواجهة السرطان المنتشر في جميع أنحاء جسدها.

تجلس إلى جانبها والدتها “أسماء”، التي تستقبل الزوار بابتسامة تخفي سنوات من الألم جراء مشاهدة ابنتها وهي تمر بمراحل مختلفة من الأورام السرطانية والجرعات العلاجية.

تقول أسماء: “لا يوجد مكان آمن في غزة، أتابع الأخبار على مدار الساعة برعب شديد من احتمالية رؤية منزلي وعائلتي وسط الضحايا”.

طفلة عاشت أهوال القصف على قطاع غزة

تستطيع أروى بالكاد فتح عينيها وتطلب حينها من والدتها الاتصال بإخوتها والاطمئنان عليهم، ثم تغلق عينيها مرة أخرى. تقول أسماء إنَّ ابنتها قلقة للغاية على إخوتها في غزة وتتوق لرؤيتهم مُجدَّداً رغم حالتها الصحية.

في السياق ذاته، يقول محمد قباجة، رئيس طاقم التمريض الخاص بقسم الأطفال، إنَّ المستشفى يضاعف الدعم النفسي والاجتماعي للمرضى القادمين من قطاع غزة، نظراً لما يواجهونه من ضغط نفسي وتوتر بسبب انفصالهم تماماً عن عائلاتهم، ليمكثوا في القدس فترات طويلة من أجل تلقي العلاج.

يقول قباجة إنَّ هذا النوع من الانفصال يؤدي إلى إصابة المرضى وذويهم المرافقين لهم بالقلق والتوتر الشديد، الأمر الذي يجعل دور الخدمات الاجتماعية حيوياً للغاية.

يزداد الوضع تعقيداً في أوقات الحرب، حيث تسوء الحالة الذهنية والنفسية للمرضى. وصف قباجة حالة منى عندما علمت بقصف منزلها بـ”الكارثية”، وهو ما استدعى تدخلاً طبياً ونفسياً واجتماعياً من المستشفى لتمكينها من مواصلة دعم طفلها في رحلة علاجه.

تشير شوشان إفرنغية، رئيس الوحدة النفسية-الاجتماعية في المستشفى، إلى ضرورة أن يشعر مرضى غزة بتعاطف طاقم المستشفى مع فصلهم عن عائلاتهم، لاسيما خلال القصف الإسرائيلي، وتقديم الرعاية النفسية لهم.

انطلاقاً من هذا الهدف، تنظم الوحدة النفسية-الاجتماعية أنشطة ترفيهية وجلسات دعم نفسي يومية لتلك العائلات، بهدف اجتياز هذه الفترة الحساسة بأقل قدر ممكن من الضرر. إذ تؤكد شوشان إفرنغية أنَّ قدرة الجسم على الاستجابة للعلاج الطبي تضعف عندما يكون المريض في حالة نفسية سيئة.

عربي بوست