السياسية:

جاء الإعلان عن العقوبات الأمريكية على إثيوبيا بسبب فظائع حرب تيغراي، متزامناً مع تصاعد أزمة سد النهضة، ومع انصياع أديس أبابا اللافت في الوقت ذاته لضغوط واشنطن لاستبعاد الصين من مناقصة داخلية كبرى في مجال الاتصالات.

ويشير هذا التزامن بين الأحداث الثلاثة إلى تعقد السياسة الأمريكية تجاه إثيوبيا بين الغضب المضبوط من أزمة تيغراي، والقلق غير الفعال من سلوكها في أزمة النهضة، إضافة إلى الرغبة الجامحة في إبعادها عن الصين.

تفاصيل العقوبات الأمريكية على إثيوبيا

وقالت الحكومة الأمريكية، الأحد 23 مايو/أيار 2021، إنها فرضت قيوداً واسعة النطاق على المساعدات الاقتصادية والأمنية لإثيوبيا بسبب “الفظائع” في إقليم تيغراي، كما حظرت منح تأشيرات لمسؤولين إثيوبيين حاليين أو سابقين وكذلك لمسؤولين بالحكومة الإريترية على صلة بالأزمة.

وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قال إن العقوبات الأمريكية على إثيوبيا تهدف للضغط من أجل حل الأزمة في تيغراي، موضحاً: “هذا وقت تحرك المجتمع الدولي”.

كما دعت الولايات المتحدة الدول الأخرى للانضمام إليها في هذه الإجراءات والعقوبات، مؤكدة في الوقت ذاته استمرارها في تقديم المساعدات الإنسانية في مجالات مثل الصحة والغذاء والتعليم.

ويوم الخميس الماضي، قال البيت الأبيض إن مستشار الأمن القومي جيك سوليفان عبر عن مخاوف الولايات المتحدة من الأزمة في منطقة تيغراي الإثيوبية خلال اتصال هاتفي مع نائب رئيس الوزراء الإثيوبي ديميكي ميكونين.

وسبق أن تحدث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن هاتفياً في نهاية شهر أبريل/نيسان 2021، مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ليؤكّد له قلق الولايات المتحدة البالغ إزاء تدهور الأزمة الإنسانية وحقوق الإنسان في البلاد، مركّزا على خطر المجاعة المتعاظم في منطقة تيغراي الإثيوبية، إضافة إلى استمرار فقدان الأمن في أجزاء أخرى من البلاد. وشدّد الوزير على ضرورة تنفيذ التزامات إثيوبيا وإريتريا بسحب القوات الإريترية من تيغراي فوراً وبشكل كامل وقابل للتحقّق منه. 

أكبر متلق للمساعدات الأمريكية 

وإثيوبيا هي أكبر متلقٍّ للمساعدات الخارجية الأمريكية في إفريقيا.

ووفقاً لمسؤولين ومساعدين في الكونغرس مطلعين على الأمر، تحدثوا لمجلة “فورين بوليسي”، فإن إدارة بايدن تخطط لزيادة الضغط على آبي أحمد بطرق أخرى، بما في ذلك وقف تمويل المساعدة الأمنية الأمريكية لإثيوبيا، واستهداف برامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في البلاد، حسبما ورد في تقرير لموقع “إندبندنت عربية”.

وأفادت شبكة “بلومبيرغ” الأمريكية، نقلاً عن أشخاص مطلعين، لم تحدد هويتهم، بأن إدارة بايدن تعد عقوبات اقتصادية ضد إثيوبيا قد تنطوي على وقف التمويل الأمريكي والقروض من المؤسسات المالية الدولية.

وأوضح الأشخاص أن العقوبات الأمريكية التي يجرى النظر فيها ستؤثر بشكل أساسي على التمويل لدعم ميزانية إثيوبيا، وستتضمن طلباً بأن يحجب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التمويل.

إثيوبيا تحاول استرضاء أمريكا على حساب الصين

ولكن اللافت أنه قبيل قرار العقوبات الأمريكية بيوم بدا أن إثيوبيا تغازل الولايات المتحدة على حساب الصين، إذ فاز مشروع مدعوم من واشنطن على حساب مشروع آخر يحظى بدعم بكين بمناقصة ضخمة في مجال الاتصالات في هذا البلد الإفريقي الكبير.

وأعلنت الحكومة الإثيوبية السبت الماضي عن فوز تحالف “الشراكة العالمية من أجل إثيوبيا” (GPE) ) الذي تقوده شركة “فودافون” البريطانية، بمناقصة لبناء شبكة اتصال من الجيش الخامس في البلاد.

وأشارت صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى أن مشروع GPE الذي تصل قيمته مليارات الدولارات يحظى بتمويل من شركة تمويل التنمية الدولية (DFC) التي أنشأتها الحكومة الأمريكية في عام 2019 لتقديم بديل عن التمويل الصيني لمشاريع البنى التحتية في الدول النامية.

وتعرض هذه الشركة الحكومية الأمريكية قروضاً بفائدة مخفضة لكن ذلك شريطة عدم استخدام هذه الأموال لاقتناء معدات من إنتاج شركتي “هواوي” وZTE الصينيتين اللتين ترى فيهما واشنطن تهديداً استخباراتياً.

ولفتت “وول ستريت جورنال” إلى أن المشروع المنافس الخاسر يعود إلى مجموعة MTN الجنوب إفريقية ويحظى بتمويل جزئي من مستثمر صيني، مؤكدة أن هذه المجموعة الجنوب إفريقية تعد شريكاً طويل الأمد لـ”هواوي” وZTE وقدمت طلباً للانضمام إلى “صندوق طريق الحرير” الحكومي الصيني.

وأعلنت سلطة الاتصالات الإثيوبية أن منح ترخيص لـ”الشراكة العالمية من أجل إثيوبيا” يرمز لبدء عهد جديد في تاريخ البلاد.

وأشارت “وول ستريت جورنال” إلى أنه كان بإمكان حكومة أديس أبابا الموافقة على كلا المشروعين أو رفضهما معاً.

وتحمل هذه المسألة طابعاً جيوسياسياً في ظل تشديد الصراع في مجال التكنولوجيات بين الولايات المتحدة والصين في السنوات الأخيرة، حسبما ورد في تقرير لموقع قناة “روسيا اليوم”.

وتسعى لإظهار تجاوبها مع الضغوط في أزمة تيغراي

كما يبدو أن أديس أبابا تحاول إظهار أنها تتعامل بجدية مع الوضع في تيغراي، وبعد تصاعد الانتقادات الأمريكية والغربية عامة، فقد أعلنت الحكومة الإثيوبية، الجمعة الماضية، إدانة ثلاثة جنود بالاغتصاب وأحدهم بقتل مدني، في أول بيان علني عن إدانة أفراد من جيشها بارتكاب جرائم في تيغراي. ويحاكم أكثر من عشرين جندياً آخرين بتهم اغتصاب وقتل مدنيين، حسبما أفادت رويترز.

كما اتهمت إثيوبيا، للمرة الأولى، قوات من إريتريا بقتل 110 مدنيين في مجزرة في إقليم تيغراي المضطرب.

وناقض المدعي العام الإثيوبي مؤخراً رواية مسؤولي قوات إنفاذ القانون الذين قالوا في وقت سابق إنّ “الغالبية العظمى” للقتلى في مدينة أكسوم من المقاتلين وليس المدنيين.

وتمثل عمليات القتل في أكسوم في نوفمبر /تشرين الثاني 2021 أحد أكثر الحوادث دموية في النزاع المستمر منذ ستة أشهر في الإقليم.

ووافق مجلس الشيوخ الأمريكي، مؤخراً بالإجماع على قرار يدعو إلى الانسحاب الفوري للقوات الإريترية من تيغراي، وهي الخطوة التي أعقبت تحقيقاً لـ”سي إن إن” يكشف أن القوات الإريترية المتخفية في زي وحدات عسكرية إثيوبية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى تيغراي.

ويضغط المشرعون على إدارة بايدن للتحرك بسرعة أكبر وبقوة لمحاسبة المسؤولين الإثيوبيين والإريتريين، بما في ذلك من خلال العقوبات.

قلق من مصير أسوأ من سوريا

ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية تتعامل بحذر شديد وحساسية مع الوضع في إثيوبيا.

فلقد أرسل بايدن حليفاً رئيسياً في مجلس الشيوخ، السناتور الديمقراطي كريس كونز، للقاء آبي أحمد في مارس/آذار 2021.

كما عينت واشنطن الدبلوماسي السابق المخضرم في الولايات المتحدة والأمم المتحدة، جيفري فيلتمان، مبعوثاً خاصاً لها إلى القرن الإفريقي.

والعديد من المسؤولين الأمريكيين الذين تحدثت مجلة Foreign Policy الأمريكية إليهم أجروا مقارنة بين إثيوبيا ويوغوسلافيا في عام 1992، قبل انهيارها مباشرة واشتعال سلسلة من الحروب وحملات التطهير العرقي الشنيعة. وهو تشبيه يسلط الضوء على مدى قلق البعض في واشنطن بشأن استقرار الدولة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في شرق إفريقيا، لا سيما في أعقاب الصراع في تيغراي والتوترات المتصاعدة بين منطقتي أوروميا وأمهرة في البلاد.

الرئيس الإريتري أسياس أفورقي مع رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد/رويترز

وقال جيفري فيلتمان، مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص إلى القرن الإفريقي، لمجلة Foreign Policy، عقب توليه منصبه، إنَّ انهيار إثيوبيا يمكن أن يجعل سوريا تبدو وكأنها “لعبة أطفال”. وقد كان عدد سكان يوغوسلافيا قبل الحرب نحو 23 مليون نسمة، وهو نفس عدد سكان سوريا قبل الحرب الأهلية. وبالمقارنة، يبلغ عدد سكان إثيوبيا 110 ملايين نسمة.

ومما يظهر حجم الاحتقان في إثيوبيا، ما أعلن مؤخراً عن اتهام رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في إثيوبيا أبون ماتياس حكومة أديس أبابا، بارتكاب إبادة جماعية ضد شعب تيغراي، وذلك عبر فيديو جرى تسريبه إلى خارج البلاد.

وبينما كان يراقب البعض في إدارة بايدن الوضع الإثيوبي عن كثب، كان الأمر في هذه الدولة بالنسبة لبقية عالم الأمن القومي، الذي استهلكه الانسحاب من أفغانستان والتحول إلى منافسة القوى العظمى مع الصين، فهي نقطة عمياء يمكن أن تنفجر في أي وقت.

أزمة سد النهضة ليست أولوية أمريكية

ولكن اليوم أصبح الاهتمام العالمي مركزاً على منطقة القرن الإفريقي بسبب أزمة سد النهضة، ومأساة تيغراي، ولكن يبدو أن إثيوبيا لديها أوراق مهمة أيضاً بالنسبة لأمريكا.

ولأن الولايات المتحدة، تنظر إلى كل العالم بمنظور صراعها من الصين، فمن الواضح أن أديس أبابا تغازل واشنطن عبر الإطاحة بعرض الاتصالات المدعوم من بكين.

أما عن الموقف الأمريكي من أزمة سد النهضة، فيبدو أن واشنطن لا تعطي الأولوية لعلاقتها مع إثيوبيا من هذا المنظور، فإدارة بايدن لم تدن التعنت الإثيوبي من الأزمة، عكس إدارة ترامب التي فرضت عقوبات على أديس أبابا بسبب تنصلها من نتائج الوساطة الأمريكية السابقة.

في المقابل، فإن الرؤية الأمريكية الحالية تبدو ميالة لاستئناف المفاوضات تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، إذ يتضح من البيان الأمريكي الأخير أن واشنطن لن تكون راعية للمفاوضات القادمة بل ستكون بقيادة الاتحاد الإفريقي، بينما ترى مصر والسودان أن وساطة الاتحاد الإفريقي لم تجد.

كما تجاهل البيان الأمريكي الحديث عن اتفاقية واشنطن التي وقعت في 2019 “كأن المفاوضات كانت تدار من خلال أشخاص وليست من خلال دولة ذات مؤسسة، وفقاً لما نقله موقع جريدة الأهالي المصرية عن دكتور محمد نصر الدين علام، وزير الري الأسبق، الذي أكد أن البيان الأمريكي تحدث عن تشجيع العودة للمفاوضات تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، وكأننا ما زلنا في بداية المفاوضات، مشيراً إلى عدم توضيح أسباب فشل المفاوضات السابقة التي كانت تحت رعاية الاتحاد الإفريقي أيضاً، ولم يشر البيان إلى التعنت الإثيوبي الذي يحول دون الوصول إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن ملء وتشغيل السد الإثيوبي، حسب قوله.

كما أن الإدارة الأمريكية استهلت عهدها بإزالة العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب بسبب عدم استجابتها للوساطة الأمريكية، بينما بدأت تفرض عقوبات بسبب تيغراي.

يشير كل ما سبق إلى أن الإدارة الأمريكية إذا كان لديها استعداد للضغط على إثيوبيا سوف يكون ذلك في ملف أزمة تيغراي، ويأتي ذلك مع تصاعد توجهات في الغرب، تميل إلى إعطاء الأولوية للمنظور الإنساني في القضايا على حساب منظور حقوق الشعوب والدول التاريخية.

وقد يظهر ذلك من الانتقادات الواسعة لعملية التهجير للفلسطينيين من حي الشيخ جراح، وقصف المدنيين لغزة، دون إعطاء تركيز كاف لأصل المشكلة وهو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967 والذي يعد مخالفة للقانون الدولي، وكذلك عدم إعطاء أولوية لانتهاكات إسرائيل للمسجد الأقصى.

ورغم اهتمامات إدارة بايدن بملف تيغراي، فيظل المنظور الصيني هو الغالب عليها، الأمر الذي يثير تساؤلات حول مدى استعدادها لممارسة ضغط حقيقي على إثيوبيا في ملفي تيغراي، وأزمة سد النهضة، إذا قدمت أديس أبابا تنازلات كافية في الملف الصيني كما بدا من صفقة المحمول الأخيرة.

ويثبت نهج إدارة بايدن في أزمة تيغراي بما في ذلك العقوبات الأمريكية على إثيوبيا (والذي أثمر تنازلات إثيوبية ولو محدودة)، أنها قادرة عبر التلويح بالعقوبات والمساعدات على حل أزمة سد النهضة، بطريقة تجنب المنطقة تصعيد قد لا يمكن السيطرة عليه.

ولكن على الأرجح فإن أي ضغط أمريكي على إثيوبيا في ملف أزمة سد النهضة، لن يكون من منطلق حماية حقوق الشعوب في المياه والالتزام بقواعد الشرعية الدولية، ولكن قد يكون من خوفها من رد فعل مصري سوداني قد يؤدي إلى مزيد من تعقيد الأوضاع في القرن الإفريقي.

وبالتالي الكرة في الملعب المصري السوداني، فالعالم سيتحرك في هذه القضية بناء على قدر تحركاتهم هم أنفسهم دفاعاً عن مصالحهم.

* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رآي الموقع