السياسية:

قبل حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 لم يكن أحد ليصدق أن المصريين بعتادهم البسيط والمتأخر مقارنة بعداد وتجهيزات الكيان المحتل الضخمة والمتطورة، قادرون على مجرد محاولة الاشتباك أو الاقتراب من خطوط العدو. جميع الأصوات والآراء والتحليلات تقضي بأنّا مهزومون لا محالة، وأن أي مبادرة للحرب واستعادة الأرض بالقوة هي ضرب من الجنون.

هذا المعتقد الذي نجح العدو في ترسيخه في العقول والنفوس تبدد في الساعات الأولى من الهجوم العربي بشقيه المصري والسوري وحل مكانه يقين آخر يقضي بأن وعد الله هو الحق، وأن الأمر يتعدى كل مفردات العتاد بمفهومه المادي والبشري.

يرصد الصحفى العبري بون بورات في مقالة له بعنوان “الأحد 7 أكتوبر/تشرين الأول، ظل النكبة” حالات الهلع؛ بداية من صفوف الجنود وقياداتهم في الميادين وحتى القيادات السياسية والعسكرية العليا؛ فيقول:

“في حوالي الساعة الحادية عشرة مساءً، وبعد بضع ساعات من القتال الدامي، استطاع قائد الوحدة الاتصال بالجنرال رفائيل إيتان وقال له: لقد انتهى كل شيء، أعتقد أن كل شيء قد انتهى”.

ويقصّ حواراً بين أعتى جنرالات جيشهم المغتصب وبين ضابط تحت قيادته على الجبهة يسأل القائد فيه عن ما إذا كان الضابط يملك من العتاد ما يمكنه من الدفاع به عن نفسه، فيجيب الضابط أنه ليس لديه سوى سلاحه الخاص، فيقول الكاتب: “ولم تكن هذه نكتة. إن ذلك يمكن أن يكون رد أي ضابط في القيادة العامة المتقدمة في الجبهة المصرية. فقد كان كل منهم على استعداد لكي يدافع عن حياته بسلاحه الخاص”. هم يعلمون جيداً أنهم جبناء وأنهم كذلك يواجهون من لا يخشى الموت أو يتوارى عنه.

هذا الفزع الذي دب في نفوسهم على أرض المعركة يمكن استيعابه كرد فعل طبيعي لنفسية جندي مغتصب يواجه الموت وهو يعلم يقينًا- وإن تفانى في الإنكار- أنه ليس على شيء، وأنه ليس صاحب حق. وإنما ما يدعو للتأمل هو ردود أفعال قيادات الكيان الذي صور نفسه للجميع بغطرسة وعنجهية مفرطة أنه لا يمكن المساس به، فتجد وزير ماليتهم بنحاس سابير يقول من هول الفاجعة التي ألمت بهم: “لم تكن هناك سوى خطوة واحدة باقية، ثم تباد إسرائيل تماماً”.

ويقول بن بورت: “إن كل هزيمة تفتح فجوة جديدة في الطريق إلى تل أبيب”…”إن أية هزيمة عسكرية لا تعني احتلالاً أو ضياع استقلال، ولكنها تعني ببساطة محواً كاملاً من فوق الخريطة الجغرافية”.. “بعد انقضاء أقل من 24 ساعة من القتال، إذ بإسرائيل تتخبط كالحيوان المطارد من أجل بقائها نفسه، بعد أن أصبحت مهددة بالدمار الكامل”.

هم يعون أنهم حتماً إلى زوال، مهما تظاهروا بعكس ذلك، مهما علوا في الأرض وتجبروا، ومهما كانت لهم الغلبة اليوم، فغداً ليس لهم ولن يكون لهم أبداً.

وهذا تحديداً ما أود أن أصرخ به في نفوس المنهزمين من أمتنا، أولئك الذين أصبحوا يرون كل القوة في يد الكيان المغتصب وأن مجرد المقاومة ما هي إلا جلب الوبال لأهل الديار وبطبيعة الحال ضرب من الجنون.

“إن دورات التاريخ السيئة التي يدخرها- مفجعة كانت أم دامية- تتكرر بلا انقطاع، ولكن دون أن تأخذ شكل المثال الذي يحتذى”.

جوناثان جويفين، كاتب صهيوني، مشيداً بغباء الكيان المحتل.

في الواقع إن هذه الأمة الصهيونية المغتصبة الواقعة بطبيعتها تحت سيطرة الخوف من الإبادة لم تأخذ عبرة من دروس التاريخ ولا تزال تعيث في الأرض فساداً وظلماً وتجبراً، ظناً منها أنها قادرة فعل أي شيء وأن القوة التي في يدها ستمكّنها من الغلبة، متناسيةً أن لديها خصماً مؤمناً بقضيته وبحقه إيماناً لا تعرف أمثالها له طريقاً ولا مذاقاً، إيماناً يدفع الأطفال والنساء، الشباب والشيوخ إلى الموت بصدور عارية دون خوف أو مهابة ممتلئين باليقين أنهم منتصرون في جميع الأحوال.

ولقول الحق ليسوا هم فقط من استهانوا بعِبَر التاريخ، فكثير منا أيضاً تخلى عن دعمه للقضية الفلسطينية وحلم تحرير الأقصى متحدثين بخنوع تام عن تلك القوة التي لا تُهزم وضرورة التعايش مع الأمر الذي أصبح واقعاً، وقبوله وغض الطرف عن جرائمه وانتهاكاته الخسيسة. لقد نسي أولئك أن سنة الله محققة وأن المعتدين زائلون ومدحورون ولو بعد حين، وبغض النظر عن موازين القوى والسيطرة. فالذي قضى برعبهم في سيناء والجولان، قادر على محو قبتهم الحديدية بقطعة حجارة أو برشة ماء.

اليوم تجد العديد من شبكة المؤثرين وأصحاب المحتوى العرب يتخاذلون عن ذكر الموقف أو الإشارة لما يحدث على الأراضي المحتلة، فضلاً عن دعم القضية ونصرتها، فتجد مثلاً واحدة من المؤثرات ترد حين طالبها متابعوها بالتحدث عن الأمر أن القضية أكبر وأهم من دعمها بــ”بوست”. هذه الانفلونسر نفسها حينما اتهمها البعض بالتربح من شيء تافه مثل فيديوهاتها خرجت على البرامج التلفزيونية لتدافع عن قيمة وقوة تلك الفيديوهات ومدى تأثيرها، أغلب أولئك الذين يصرون على تجاهل الأحداث الحالية في أحياء القدس وقطاع غزة، كانوا قد دعموا من قبل قضايا عدة من خلال كلمة في “بوست” واستطاعوا حشد الجمهور للتعاطف والتوعية. وهذا يعني أن إقصاء قضية الأقصى مقصود ونابع عن اختلاف واختلال سلم الأولويات لديهم، فما يحدث خارج الحدود الوهمية التي وضعها المحتل قديماً سيبقى خارج دائرة الاهتمام. عشرات وربما المئات ممن يملكون سطوة الكلمة وإمكانية التوعية والتوجيه اختاروا الصمت والالتفات لمسابقاتهم وهداياهم وإعلاناتهم وتحدياتهم السخيفة.

وهكذا أيضاً حال كثير من المثقفين والمحنكين الذين يتبارون في تحليل مشاهد الدراما يومياً مستعرضين مؤهلاتهم ومهاراتهم في إبداء الرأي والنقد والتفنيد واختيار الحق دون حياد أو تحييد، مرددين أنها قضايا مجتمعية يجب الالتفات لها والتوعية بها لأن”كلمتهم” هي القادرة على إصلاحها، أما قضايا مثل الأقصى وتشريد أهله من ديارهم فهي قضايا محسومة مسبقاً لأصحاب القوى ولا طائل من المقاومة ولن تغير “كلمتهم” من الأمر شيئاً.

يظن أصحاب المحتوى ممن لديهم قراء وشعبيات عريضة أن الفضل بيدهم يمنون به على من يشاؤون ويضنون به على من خالف هواهم، وأنهم لن يُحاسبوا على مستنقع الغفلة الذي يجرون إليه الآلاف يومياً ويشغلونهم بترهاتهم دون دفعهم لفعل شيء نافع لأنفسهم ولأمتهم. غافلين عن أننا جميعاً أينما كانت مواقعنا في هذه الدنيا فإننا في امتحان يمتحننا الله فيما آتانا، وأنه سبحانه وتعالى لا ينتظر نصرتنا للحق بل يمتحن الحق في قلوبنا، فإن انتصرنا له نصرنا الله وإن خذلناه خذلنا.

“الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ”.

القدس والأقصى ليست قضية قومية لنا الاختيار في دعمها أو العزوف عنها، إنما هي امتحان النجاح فيه نجاة لأنفسنا قبل أي شيء. تلك الأراضي المقدسة تمس هويتنا وعقيدتنا ولا يمكن وصفها أو إدراجها تحت الشؤون القومية التي تتعلق بالحكومات وسياساتها، إنما هي شرف الأمة وأولى القبلتين ومسرى نبينا الكريم ووجهة عيسى عليه السلام. ولذلك علينا المدافعة عنها وإن لم يكن لنا من الأمر شيء، وإن لم نملك ما ندفع به الأذى عن إخواننا المستضعفين فلنبرأ من الظلم والسكوت عنه ونجهر بالحق ونؤيده، ولو بكلمة!

ولنتذكر أن المعركة لم تكن معركة قوى أبداً ما دام أحد طرفيها مسلحاً بالإيمان بالله رافعاً رايته، محتسباً آلامه لنصرة الحق وتأييده. فلتكن لهم كل القوة والعدة وليكن لنا الإيمان!

“فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ”.

فلنكن من الصابرين ونعلم أن تصور أن جيش الكيان المعتدي والمغتصب جيش لا يقهر وأن لديهم مداداً لا ينفد هو تصور مسكين، ليس بالمنطق ولا بالتحليلات والأرقام.. هي مسألة إيمان!

* بقلم حنان فارس
* المادة الصحفية نقلت حرفيا من موقع عربي بوست ولاتعبر عن رأي الموقع