السياسية – مركز البحوث والمعلومات: خالد الحداء

العديد من المتغيرات شهدتها السياسة الخارجية الأمريكية منذ وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض، ولم يكن الملف الأفغاني استثناء لذلك التوجه، خاصة مع إعلان بايدن وإدارته عن مراجعة الاتفاق الموقع ما بين إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب وحركة طالبان الافغانية، وبعيداً عن التصريحات الإعلامية الحالية التي يطلقها بعض المسؤولين الأمريكيين لا بد لنا من العودة قليلاً إلى الوراء والبحث في مسار عقدين من التواجد الأمريكي في أفغانستان وللوقف على مآلات ذلك التواجد مستقبلاً.

خلال السنوات الماضية كان من الواضح أن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان ومنذ البدايات سعى إلى تدشين استراتيجيته الجديدة فيما يخص يسمى “الحرب على الإرهاب” في محاولة مكشوفة على استغلال ما شهده العالم مع  بداية الألفية الثالثة “وتحديداً في الحادي عشر من سبتمبر 2001 من هجمات استهدفت مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، وفي ضوء ذلك الحدث التاريخي شهدت العلاقات الدولية تحولات كبرى، وفي مقدمتها  ذلك التحول في الاستراتيجية الأمريكية عموماً ومسار السياسية الخارجية الأمريكية تجاه العالمين العربي والإسلامي على وجه الخصوص.

وبناء على ما سبق، تغيرت العديد من التوجهات الامريكية وبصورة جذرية، وتشكلت على اثره تحالفات جديدة، قائمة على ما يسمى الحرب على الإرهاب، وكانت الحرب الأمريكية على أفغانستان في مقدمة مسار طويل من المتغيرات والتحولات التي شهدها العالم في السنوات التالية، وكانت لدى واشنطن في حربها تلك مجموعة من الأهداف في مقدمتها: إسقاط حكم حركة طالبان، والقضاء على تنظيم القاعدة “المتهم أمريكياً بأنه من يقف وراء هجمات سبتمبر” ، ومن ثم تنصيب حكومة موالية.

وعلى الرغم من تحقيق الأمريكيين النجاح “ولو شكلياً” إلا أن السنوات التالية لم تكن بتلك السهولة كما كان يعتقد الساسة في واشنطن، خاصة مع قدرة حركة طالبان على تجميع قدراتها وامكانياتها وبما يتناسب وحرب العصابات، ومع مرور الوقت تزايدت المواجهات ما بين الطرفين في مختلف الجغرافيا الأفغانية وبدأت القوات الأمريكية في النزيف وبصورة متصاعدة من عام إلى أخر.

وكان لهذا الوضع انعكاس كبير على مدى قبول الجمهور في الداخل الأمريكي على استمرار التورط في أفغانستان، ولكن هذا الرفض قوبل من الرئيس بارك أوباما “في عهدته الأولى” بزيادة عدد القوات الأمريكية في أفغانستان وفي مخالفة صريحة لتعهداته بإنهاء الحرب والتدخل الأمريكي في أقرب فرصة.

وفي هذا السياق، كانت المؤشرات داخل واشنطن تشير الى أن التخبط الأمريكي من الحرب في أفغانستان لم يصل إلى نهاية، وحسب العديد من الكتاب الأمريكيين فإن من بوادر ذلك التخبط هو ما قام به الرئيس “أوباما” عندما رفع عدد قواته إلى أكثر من 100 ألف مقاتل في محاولة للحسم، ولكن مسار الحرب خالفت تلك التوقعات وتصاعدت وتيرتها وبصورة كبيرة خاصة مع قدرة حركة طالبان وحلفائها على إعادة تنظيم قدراتها المحدودة في سبيل توجيه الضربات الموجعة للقوات الأجنبية والأمريكية إلى جانب القوات الأفغانية الموالية للحكومة في كابول.

ومع تزايد الخسائر البشرية والمادية في تلك الحرب بدأت مرحلة الشك تسود داخل أروقة الإدارة الأمريكية في عهد أوباما خلال عهدته الثانية، وحسب العديد من القراءات فإن الموقف الأمريكي من البقاء في أفغانستان لم يعد بذات الحماس، خاصة مع تسارع انسحب أغلب القوات المقاتلة الأجنبية في العام 2014. ولم تكن الولايات المتحدة استثناء من تلك الانسحابات، وفي هذا السياق سعت واشنطن إلى مواكبة تلك المتغيرات من خلال تسريع عملية تسليم السلطات والمسؤوليات إلى الأفغان في محاولة للاستعداد للبدء في تقليص أكبر للقوات الأمريكية، ولكن التردد الأمريكي خلال تلك المرحلة إلى جانب الصراع ما بين حلفاء واشنطن في الداخل الافغاني حال دون المضي في الانسحاب الكامل.

ولكن الوضع تغير مع وصول الرئيس دونالد ترامب وإدارته إلى البيت الأبيض في 2017، الذي لم يخفي حماسه نحو تقليص التدخلات الأمريكية في الصراعات حول العالم ومنها أفغانستان، وأعلن صراحة خلال حملته الانتخابية معارضته بشأن استمرار الحرب الأمريكية في أفغانستان، ولكن ما حدث من تردد في الأشهر الأولى من رئاسته بشأن الانسحاب من أفغانستان وما أعقبه من إعلان استراتيجية جديدة تدعم الحرب وبقاء القوات الأمريكية كخيار وحيد لتحقيق السلام، خالف ما كان منتظر من أغلب المراقبين.

هذا التناقض “الترامبي” تجاه أفغانستان لم يكن له أن يحصد سوى مزيد من القتل والدمار، وهذا ما أثبتته الأحداث خلال الأشهر التالية من استراتيجية ترامب، حيث تأزم الوضع وبصورة أكثر خطورة عن ما كان عليه الوضع سابقاً، وفي مختلف المسارات دون استثناء، فقد تزايدت الصراعات السياسية داخل النظام السياسي الأفغاني هو ما انعكس سلباً على الاوضاع الاقتصادية للمواطن الأفغاني، ولا سيما مع ارتفاع أعداد النازحين من ديارهم إلى نحو 1.4 مليون نازح ، فيما كان الوضع العسكري يشير إلى مزيد من الخسائر للأمريكان وحلفائهم سواء في الأرواح والعتاد فيما حركة طالبان توسع نفوذها على الأرض من خلال اسقاط المناطق عسكرياً الواحدة تلو الأخرى وبسرعة دون مقاومة حقيقة من جيش الحكومة الأفغانية بإستثناء “العاصمة كابول وعدد من المدن الرئيسية” إلى أن بلغت سيطرتها على نحو نصف مساحة البلد.

الفشل والمراجعة:

حالة الفشل لم يكن أن تخطئها عين تجاه الاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان، ويمكن القول في هذا المنحى أن إدارة ترامب لم تكابر مطولاً أمام ذلك الفشل وبعد أن سقطت كافة الخيارات العسكرية الأمريكية في أفغانستان، وتأكد الفشل في المضي في الاستراتيجية الامريكية التي حاولت تجنب سنوات الفشل في حسم الامور عسكرياً وبالتالي الوصول إلى السلام، كان من الطبيعي أن تشهد التوجهات الأمريكية تحولاً كبيرا ولا سيما مع شخصية كالرئيس ترامب، وبدا واضحاً الرغبة في الخروج من ذلك المأزق خاصة وأن الملف الأفغاني أزداد تعقيداً خاصة مع دخول أطراف دولية في الصراع المحتدم.

وحسب العديد من القراءات التحليلية، فإن الخوف من انهيار كارثي للنظام والحكومة الأفغانية والعودة إلى الفوضى ما بين القوى المتصارعة قد يشجع الجماعات الارهابية على تعزيز موقفها على الأرض خاصة تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، وبالتالي عودة أفغانستان إلى بؤرة جاذبة يتهافت إليها المتشددين من مختلف دول العالم ومن ثم تحاولها إلى مصدر لعدم الاستقرار في المنطقة والعالم.

وأمام هكذا سيناريو مفزع كان من الضروري البحث عن اقل الأضرار، وهو ما كان فعلاً من خلال التوجه الأمريكي في البحث عن الخيارات المتاحة، والمتمثلة في الدخول مع حركة طالبان في تفاوض مباشر على أمل إدماجها في الحكم  داخل أفغانستان والوصول إلى تحقيق السلام والاستقرار المنشود، وكان تعيين “زلماي خليل زاد” مبعوثا خاصا للرئيس الأميركي إلى أفغانستان في أكتوبر 2018، بمثابة البداية الفعلية لمشوار طويل من جلسات المفاوضات مع طالبان في العاصمة القطرية الدوحة، وتواصلت الجولات خلال الأشهر التالية بصورة متسارعة، وفي 29 فبراير 2020 توصل الطرفان إلى اتفاق سلام تاريخي تضمن “جدول زمني لانسحاب جميع القوات الأميركية من أفغانستان، إضافة إلى منع استخدام الأراضي الأفغانية من قبل أي جماعة أو فرد ضد أمن الولايات المتحدة وحلفائها، وإجراء مشاورات سلام موسعة بين الحركة والحكومة الأفغانية من أجل التوصل لاتفاق سلام شامل، وعلى الرغم من العوائق التي واجهت الاتفاق خلال المرحلة التالية، إلا أن النجاح في صمود الاتفاق كان ملفتاً حسب أغلب المراقبين.

من جهة أخرى، كان الموقف الأوروبي إلى جانب حلف شمال الأطلسي (ناتو) من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان معارض للخطوة الأمريكية، خاصة وأن التوجه الأمريكي لم يراعي مصالح الحلفاء وقواته المتواجدة في أفغانستان والمقدرة بـ سبعة آلاف من قوات الناتو والتي تعتمد بصورة كبيرة على الولايات المتحدة في الدعم اللوجيستي، إضافة إلى أن الاتفاق لم يلتفت للمصالح أو المخاوف الأوروبية والمبنية على قراءة أن الحكومة الأفغانية لن تقوى على الصمود أمام حركة طالبان أو بقية الحركات والجماعات المسلحة التي تنشط في الميدان، وهناك من يعتقد أن الرفض الأوروبي للانسحاب الأمريكي السريع مبررة، لا سيما وأن الجغرافيا الأفغانية والقريبة من وسط آسيا ليست ببعيد عن القارة الأوروبية.

وبالتالي فإن أي اختلالات أمنية في أفغانستان مستقبلاً سوف تشكل تهديداً استراتيجياً على الأمن في القارة العجوز، والذاكرة الأوروبية في مثل هكذا تهديدات مازالت حديثة نتيجة الانفلات الأمني الذي اعقب سقوط العراق تحت الاحتلال الأمريكي عام 2003 وما تلاه من اختلالات امنية كبيرة في سوريا ما بعد 2011 ، والذي انعكس على الأمن في القارة الأوروبية من تدفق ملايين اللاجئين إضافة إلى نجاح التنظيمات المتشددة من إيجاد موطئ قدم لها في كلا من العراق وسوريا.

ولكن المخاوف الأوروبية تراجعت قليلاً مع وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض الذي لم يخفي تردده بشأن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ولم يكن مفاجئا في هذا السياق أن يعلن الرئيس عن صعوبة في انسحاب جميع الجنود الأميركيين من أفغانستان بحلول الأول من شهر مايو القادم “كما هو منصوص عليه في الاتفاق مع حركة طالبان”، متحججاً بأن طالبان لم تلتزم بقطع علاقتها مع الجماعات الإرهابية إضافة إلى أن المفاوضات الأفغانية التي بدأت في سبتمبر تراوح مكانها.

والمؤكد أن ذلك التردد لم يكن له أن يلغي حقيقة أن الانسحاب اصبح قرارا لا رجعت فيه وأن بايدن لن يختلف كثيراً عن سلفه دونالد ترامب، سوى في رغبة الإدارة الأمريكية الحالية في تحقيق مزيد من المكاسب على حساب طالبان، من خلال البقاء بقواعد عسكرية في الداخل الأفغاني في سبيل الحفاظ على المصالح الاستراتيجية في أفغانستان والمنطقة عموماً، وفي سبيل تحقيق تلك المصالح كانت خطة بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن التي تسعى إلى تشكيل حكومة أفغانية وإحلال إدارة مؤقتة من خلال صيغة مؤقتة لتقاسم السلطة، وإفساح المجال للمشاركة الدولية والدول الرئيسية بالمنطقة تحديداً.