هكذا تفرض الكتلة المالية اليهودية الأميركية سيادتها العالمية
صوفيا ـ جورج حداد*
يوصف النظام السياسي الأميركي بأنه نظام ديمقراطي ـ رئاسي يقوم على قاعدة “نظام الحزبين”، هما “الحزب الجمهوري” و”الحزب الديمقراطي”، اللذان يتنافسان انتخابيًا لحيازة مركز الرئاسة، كما ولحيازة الأكثرية في كل من “الكونغرس” (مجلس النواب) و”مجلس الشيوخ” (السيناتورات). وتُحكم البلاد بالتنسيق بين الرئيس المنتخب والمجلسين النيابيين.
ولكن خلف هذه الواجهة الديمقراطية الشكلية توجد كتل مالية واقتصادية واجتماعية، وسياسية واتنية وعنصرية ودينية، تتوزع داخل كلا الحزبين الرئيسيين وخارجهما.
ومن هذه الكتل ـ على سبيل المثال لا الحصر- القطاع المالي البورصوي والبنكي، القطاع الصناعي ـ الحربي، القطاع الانتاجي المدني، القطاع التجاري الداخلي والخارجي، وغيرها. وتنشأ بين هذه الكتل عملية معقدة ودائمة من الصراع والتنافس الدائمين والمهادنة والتعاون المؤقتين. ويعود لنتائج هذه العملية الصراعية ـ التوفيقية تقرير التوجهات العامة، الجيوسياسية والجيوستراتيجية، للدولة الاميركية، في كل مرحلة معينة وفي كل ولاية رئاسية. وأهم تلك الكتل على الاطلاق الكتلة المالية اليهودية.
ولكن علينا أولا أن نقدم الملاحظة الأساسية التالية:
ان الرأسمال (الناشئ عن الثروات الاقتصادية أو الطبيعية) لا وطن له، ولا دين، ولا مذهب، ولا حزب الخ. وهذا يدفع الكثيرين، وعن حق، الى التحفظ على توصيف أي كتلة مالية بأنها يهودية او كاثوليكية، او اميركية او روسية، او ما اشبه. وهذا صحيح تماما بحد ذاته، وبمعزل عن الحالة المجتمعية الشاملة، الا انه صحيح بالمعنى الشيئي فقط. ولكن الرأسمال (او الثروة بالاجمال) ليس شيئا فقط، بل هو علاقة اجتماعية، ويعبر عن نفسه ويتحقق ليس من ذاته بذاته بطريقة آلية عمياء، بل من خلال مالكه، اي من خلال الرأسماليين والمؤسسات الرأسمالية الذين يملكونه ويحركونه ويديرونه وبالتالي يعطونه “الحياة” الملموسة، و”المعنى الاجتماعي” الملموس، والمفاعيل الاقتصادية والسياسية والعسكرية الخ الملموسة. وبهذا المعنى فإن كتلتي الرأسمال، المتشابه شيئيا، اللتين يملكهما مالكان مختلفان، يمكن ان تؤديا وظيفتين مختلفتين او متناقضتين تماما، تبعا لمفاهيم وتوجهات ومصالح مالكي تلك الكتلة. وفي واقعنا الراهن مثلا، نجد ان كتلة الرأسمال (الناشئ عن الثروة النفطية) في السعودية يستخدم لتمييع القضية الفلسطينية وتطويع الشعب الفلسطيني، ومساندة الامبريالية الاميركية والتطبيع مع العدو الاسرائيلي، في حين ان كتلة الرأسمال (الناشئ عن الثروة النفطية كذلك) في ايران تستخدم لدعم القضية الفلسطينية والمقاومة ضد الامبريالية الاميركية والعدو الاسرائيلي.
وانطلاقا من وجهة النظر الواقعية هذه نرى انه من المحتم النظر في دور كل من الكتلتين الماليتين اليهودية والكاثوليكية في الولايات المتحدة الاميركية وطبيعة الصراع بينهما. وبدون ذلك لا يمكن بتاتا فهم التوجهات الاساسية والصراعات الداخلية للدولة الامبريالية الاميركية.
وتوجد خاصية مشتركة تجمع الكتلتين الماليتين الاميركيتين اليهودية والكاثوليكية، وهي ان كلا منهما ليست اكثر من قمة او رأس جبل الجليد لمؤسسة عالمية تنطلق من صبغة دينية محددة.
واذا كانت الحركة الدينية ـ الايديولوجية الاولية، التي نشأت على اساسها الظاهرة، فالرابطة، الدينية او المذهبية المحددة، هي “القابلة القانونية” التاريخية لولادة المؤسسة الدينية المحددة، وهنا “المؤسسة العالمية اليهودية” او “الكاثوليكية”، فإنه من الثابت تاريخيا انه، بعد ولادة الظاهرة فالرابطة، الدينية، وعلى اساسها، تولد “المؤسسة الدينية”. وتصبح لهذه “المؤسسة” جدلية حياتها الخاصة، المستقلة نسبيا عن الظاهرة الدينية او المذهبية التي انبثقت منها، ويصبح الدين والمذهب لا اكثر من وسيلة ذرائعية “ايديولوجية وطقوسية” مقدسة، لتبرير استمرار وجود، ووحدة، وعمل “المؤسسة”.
ولكن هناك اختلاف جوهري بين الطابع الدولي للمؤسسة اليهودية العالمية، من جهة، والمؤسسة الكاثوليكية العالمية، من جهة اخرى، وهو ان المؤسسة العالمية اليهودية هي ذات طابع اقلوي، مفصول عن جميع “الاسواق” او “الاقتصادات” او “المجتمعات” الوطنية في العالم، باستثناء “دولة اسرائيل” (اي فلسطين المحتلة). اما المؤسسة العالمية الكاثوليكية فهي مؤسسة اكثروية، وهي تشمل “السوق” او “الاقتصاد” او “المجتمع” الوطني باسره او بغالبيته او بقسم كبير منه، في العديد جدا من الدول في اوروبا واميركا. ومن ثم فهي ـ اي المؤسسة العالمية الكاثوليكية ـ ملزمة بأن تأخذ بالاعتبار المصالح الوطنية العامة لتلك الدول بحد ذاتها، كما ولعلاقات تلك الدول بمختلف دول العالم ذات المعتقدات الدينية والايديولوجية المختلفة.
اما الكتلة المالية اليهودية في اميركا، كما في غيرها من البلدان (باستثناء دولة اسرائيل كما اسلفنا)، فهي كتلة اقلوية كما اسلفنا، الا انها تمتلك في اميركا وضعا مميزا ومهيمنا اكثر بكثير من اي دولة اخرى، يوجد وينشط فيها الرأسماليون اليهود.
وتفيد الاستقصاءات ان الولايات المتحدة تُعَد موطنا لأكبر تجمُّع يهودي في العالم (أو موطن ثاني أكبر تجمع يهودي – بعد إسرائيل – على حسب التعريف الديني والبيانات السكانية المستنَد إليهما). ففي 2012 قُدِّر تعداد اليهود في أمريكا بما بين 5.5 ملايين و8 ملايين – على اختلاف التعريفات -، وهذا يمثل 1.7% – 2.6% من إجمالي سكان الولايات المتحدة. ولكن متوسط الدخل المالي لليهود في الولايات المتحدة يبلغ اكثر من ثلاثة اضعاف متوسط الدخل السنوي للفرد الاميركي، وتحديدا يبلغ 150,890 دولارا أميركيا، مقابل متوسط 48,200 دولار للفرد الاميركي بالاجمال.
وحسب قائمة نشرتها مجلة “فوربس” (المختصة بالابحاث عن اثرى اثرياء العالم) فإن اكثر من 100 فرد من اصل 400 من اصحاب المليارات فى امريكا هم يهود.
وجاء في دراسة مجلة فوربس ان عدد المليارديرات في العالم بلغ 946 فردا، منهم 415 من الاميركيين وربع هذا العدد الاميركي هو من اليهود، الذين شاركوا في تمويل الحرب الاسرائيلية ضد الفلسطينيين ولبنان وغيره من البلدان العربية.
كما ان اليهود فى شارع البورصات وول ستريت والبيت الأبيض والكونجرس وهوليود وشبكات التلفزة والصحافة الأمريكية يمثلون نسبة اكبر بكثير من نسبة اليهود في الولايات المتحدة الاميركية. وللمثال فإن مؤسس غوغل سيرغي براين، هو ابن رجل يهودي، ومؤسس الفيسبوك مارك تسوكربيرغ هو يهودي، ومثله نائبه ديفيد فيشر، والاخير هو ابن ستانلي فيشر، محافظ البنك المركزي (إسرائيل)، و”بنشالوم بيرنانكي”، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي “الفيديرال ريزرف” الاميركي، هو يهودي، كما كان سلفه “إيلان غرينسبان”.
وتشكل المساعدات التي تقدمها اميركا لـ”اسرائيل” أساسا لتمتين العلاقات بين اليهود في أميركا و”اسرائيل” الذين يشكلون معا 80% من يهود العالم.
وهناك واقعة تاريخية شديدة الأهمية وهي أن الكتلة المالية اليهودية الأميركية تعمل بشكل اندماجي لصيق تماما مع العائلات المالية شديدة الثراء التي تنتمي الى ما يسمى الطائفة البروتستانتية الاسقفية (البيضاء الانغلو ـ ساكسونية) ذات المعتقدات “التوراتية” التي تعطي مكانة خاصة لليهودية وتقول ان “العالم الجديد” (اميركا) هو “اسرائيل الجديدة” وان اليهود والتوراتيين هم “شعب الله المختار” وكل من عداهم هم “كنعانيون” أحلّ “الله” ابادتهم. وهذا ما يفسر قيام اميركا بالقاء القنبلة الذرية على اليابان بدون اي مبرر عسكري، وشن حروب الابادة الاميركية ضد المدنيين في كوريا والفيتنام وافغانستان والعراق وغيرها. وتاريخيًا ينتمي العديد من العائلات الأميركية الثرية الشهيرة مثل: روكفلر، مورغان، فورد، روزفلت، فاندربيلت، كارنجي، دو بونت، آستور، فوربس، وعائلة بوش إلى “التوراتيين” المزيفين.
ومن خلال حجمها المالي الهائل ووضعها المميز في الولايات المتحدة الاميركية، وعبرها، فإن الكتلة المالية اليهودية الاميركية تكاد تتماهى تماما مع الطغمة المالية اليهودية العالمية، وتشغل موقعا متقدما جدا عن جميع القيادات الاسرائيلية ذاتها، وهي تعمل على عدة خطوط جيواستراتيجية رئيسية اهمها:
اولا ـ التنسيق مع القيادات الاسرائيلية، السياسية والعسكرية والدينية الخ، لاجل رسم السياسة التي ينبغي أن تسلكها “اسرائيل”، بالتنسيق مع القيادات الاميركية، من خلالها هي، اي من خلال الكتلة المالية اليهودية الاميركية ذاتها. ويعني ذلك أن الكتلة المالية اليهودية الاميركية تعمل كي تكون هي “الحكومة الفعلية” لـ”اسرائيل”.
ثانيا ـ العمل المحموم لرسم السياسة الأميركية ذاتها، ليس حيال “اسرائيل” فقط، بل والسياسة الدولية برمتها لأميركا. أي أن الكتلة المالية اليهودية الاميركية تعمل لاحتلال مركز “قيادة العالم” أو “السيادة على العالم” من خلال الهيمنة العالمية للامبريالية الاميركية.
ثالثا ـ تحويل الدولة الاميركية الى “اسرائيل كبرى” حقيقية، تتحكم بها وتديرها الكتلة المالية اليهودية الاميركية، المندمجة والمتماهية مع الطغمة المالية اليهودية العالمية، وهي تتقدم على “اسرائيل” ذاتها، التي يتم تحويلها الى تابع صغير لـ”اسرائيل الكبرى الاميركية”، سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وضمن هذا المخطط تكتسب “اسرائيل” الحالية أهمية خاصة تتمثل في تحويلها الى “محجة طقوسية ـ روحية لليهود”، كما هي فلسطين محجة دينية للمسيحيين والمسلمين.
رابعا ـ بدون التخلي عن قاعدتها “الاسرائيلية الصغرى” وقاعدتها “الاميركية ـ الاسرائيلية الكبرى”، وبالتنسيق والتماهي والاندماج التام مع الطغمة المالية اليهودية العالمية، وبالتطوير النوعي العميق، “روحيا” وسياسيا واقتصاديا، للعلاقة اليهودية المميزة مع “المسيحيين المزيفين”الانغلو ـ ساكسون ـ الاميركيين، تعمل الكتلة المالية اليهودية الاميركية للارتفاع فوق “السوق” و”الاقتصاد” و”الدولة الامبريالية” الاميركية ذاتها، عن طريق الانخراط في تشكيل “السوبر ـ امبريالية” العالمية، التي تقف فوق جميع “الاسواق” و”المجتمعات” و”الدول” الوطنية، وتحكمها وتتحكم بها، وذلك عن طريق انشاء وتوسيع “الشركات المالية متعددة الجنسية وعابرة القارات”، التي تعشش فيها افاعي “شعب الله المختار”.
* المصدر : موقع العهد الإخباري
* المادة تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع