الحوار على خطّ الرياض – طهران.. حاجة سعوديّة مُلحّة
في الوقت الذي لم تخفِ الرياض رغبتها ومساعيها لتغيير النظام في إيران، كانت رسائلها تصل إلى العاصمة الإيرانية عبر العراق أو من خلال القناة الكويتية، وحتى عن طريق سلطنة عمان.
إسراء الفاس *
“كلَّما تأخّرت الرياض، جلست على كرسيّ منخفض في طاولة المفاوضات مع طهران”. العبارة التي قالها أحد المعارضين السعوديين تعود إلى خريف العام 2019. يومها، تزامنت مع خروج كلام علنيّ عن رسائل وساطة مع إيران حمّلها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لرئيس الوزراء الباكستاني عمران خان.
دعوات الحوار بين القطبين الخليجيين ليست جديدة. الرغبة الإيرانية في الحوار لم يتنصّل منها أيّ مسؤول إيراني يوماً، فالخطاب الدبلوماسي الإيراني لطالما كان يؤكّد أن اليد ممدودة، وإن لم تحظَ هذه المواقف بقبول شعبٍ لم يتسامح مع دور سعودي تخريبي، وخطاب الكراهية لاحق الإيرانيين عرقاً ومعتقداً.
وفي الوقت الذي لم تخفِ الرياض رغبتها ومساعيها لتغيير النظام في إيران، كانت رسائلها تصل إلى العاصمة الإيرانية عبر العراق أو من خلال القناة الكويتية، وحتى عن طريق سلطنة عمان. كل الخطوط كانت مفتوحة مع إيران متى رغبت السعودية في ذلك، إلا أن مفاعيل كل رسائل التواصل الدبلوماسية لم تُحدث خرقاً على مستوى القطيعة المُعلنة بين الجانبين، لماذا؟ “فتش عن أميركا”.
في مقابلة مع تلفزيون “بلومبرغ” مؤخراً، دعا وزير خارجية قطر إلى الحوار بين إيران والدول العربية في الخليج، مشيراً إلى دول مجلس التعاون بأن تلاقي الدعوة القطرية برغبتها في هذا الحوار. الترحيب الإيراني سرعان ما لاقى الدعوة القطرية، فأتى تصريح وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف ليؤكد أن بلاده تمد يد الصداقة باتجاه جيرانها الخليجيين. والدعوة في مضمونها تأخذ بُعداً سُعودياً أكثر من بُعده الخليجي العام، وخصوصاً أنها جاءت بُعيد أيام من حفلة العناق التاريخي على هامش فعاليات قمة “العُلا”.
القمة القطرية السعودية التي وضعها الإعلام السعودي في إطار توحيد الجهود لمواجهة ما يصفه بالتهديد الإيراني بدت مفاعليها معاكسة، حتى إن تصريح وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، الذي وُظِّف بالشكل لإظهار الرياض بصورة المُتمنع الذي يُجرّ حرجاً للتفاوض مع طهران، لم يكن كذلك في مضمون سطوره، فبدا كلام الوزير السعودي حمّال أوجه، وكان يرمي الكرة في الملعب الإيراني.
وللدعوة الخليجية المستجدّة اعتباراتها المُلحة سعودياً. اعتبارات فرضها التبدل في المشهد السياسي في الولايات المتحدة، فكلّ التبدلات في صورة الحكم في واشنطن تقلق محمد بن سلمان. 6 سنوات قضاها الرجل يعبّد طريقه إلى العرش، ويزيح منافسيه، ويتخلّص من معرقلي مسيرته بالتصفية السياسية والجسدية. وبشعار “السّعودية العظمى”، كان يمضي مشعلاً المعارك الإقليميّة سياسياً وعسكرياً. ومقايضاً بالمال والمواقف السياسية التي أتت على حساب القضية الفلسطينية، كان ابن سلمان يبادل الحماية المفتوحة التي أمّنتها له إدارة دونالد ترامب.
وعندما قطع الرجل أشواط الألف ميل باتجاه حلمه بالعرش، منتظراً خطوته الأخيرة، أتاه التغيير أميركياً. وفي وقت كانت نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية تحسم فوز جو بايدن، كانت علامات استفهام كبيرة تُطرح حول المصير السياسي لمحمد بن سلمان. وعلى الرغم من كون استقرار حكم البيت السعودي الحاكم في الجزيرة العربية يُعد من ثوابت السياسة الأميركية في المنطقة، فقد كان احتمال عزل ابن سلمان محلّ تناول في القراءات السياسية، ربطاً بتعهّد بايدن بإعادة تقييم روابط العلاقات بين بلاده والسعودية على خلفية سجلها الحقوقي.
على أكثر من جهة، كانت السعودية تباشر لملمة أوراقها المتبعثرة. داخلياً، تحركت محاكمات الناشطين العالقة، وأخذت الأحكام تبدو مقبولة نسبة إلى ما دأب عليه القضاء المحكوم رسمياً، وتم التراجع عن عدد من أحكام الإعدام التي كان قد بُتت مسبقاً. هكذا كانت السلطة الحاكمة تقطع الطريق على استخدام قضايا الناشطين في الداخل كملفات مساومة في أي مواجهة مع الإدارة الأميركية.
وأبعد من ذلك، أخذت الرياض تجري مراجعة للمناهج الدراسية للعام 2020 – 2021، فأقدمت على حذف مواد لطالما كانت تحت مرمى النقد الغربي أو الحقوقي، وشُطبت فصول كاملة حملت عنوان “التهديد الصهيوني”، وأُزيلت مواد تحثّ على الجهاد أو تهاجم الشذوذ الجنسي مثلاً.
وبالتوازي مع الداخل، كانت المصالحة مع قطر تلملم أحد الملفات المفتوحة إقليمياً، ليبقى ملف الحرب على اليمن أكثر الملفات اشتعالاً. هي الحرب التي يوازي عمرها عمر ابن سلمان السياسي. ومنذ أيامها الأولى، أرادها الرجل حربه، مباهياً بنقل صوره من داخل غرفة عمليات التحالف وهو يشرف على الضربات ويتنقّل بين ضباطه… قبل أن تتحول إلى كابوس يلاحق اسمه وحضوره، فعلى مدار ما يقارب السنوات الستّ، كان بنك الأهداف السعودي للغارات يطال المدنيين في الأسواق والأعراس والمآتم، ويلاحق معالم التاريخ في البلاد، من دون أن يسجّل منجزاً ميدانياً ترفعه السعودية كإنجاز، بل كانت الارتدادات تأتي عكسيّة، فتكسر خطوطاً حمراً لم تكن المملكة لتحتمل حدوثها يوماً، لتسقط العاصمة الرياض في مرمى استهداف الصواريخ اليمنية التي لم توفّر حتى أكبر مصافي “أرامكو”.
هنا، كانت “السعودية العظمى” تسقط يومياً؛ سقوط لم يعد بإمكان الحكم السعودية تحمل نتائجه وكلفته الباهظة مادياً ومعنوياً، بالتوازي مع التبدلات في السياسة الأميركية الجديدة التي بدأت بتحريك ورقة وقف مبيعات الأسلحة، وذهبت إلى ما هو أبلغ في دلالاته بإعلانها عن مراجعة قرار تصنيف “أنصار الله” كمنظمة إرهابية. هو مشهد الأزمة تشدّ حبالها على عنق السعودية الحريصة على طيّ الملف بسرعة بيّنها إعلان تشكيل حكومة معين عبد الملك، كاستكمال شكلي لاتفاق الرياض الموقع في العام 2019، وتحريك مساعيها إقليمياً للوصول إلى اتفاق سياسي من شأنه أن يضع أوزار الحرب في الشمال.
بهذا الأمل، تعيد الرياض اليوم طرق أبواب طهران، مستفيدة من كل القنوات الخليجية المتاحة، لا عن طريق الدوحة فقط، فتردّ إيران بأن يدها لا تزال ممدودة بمحدّدات تعيد تأكيدها بأنَّ الحل إن أُريد لليمن، فبدايته وقف الحرب، وكل ما عداه من هواجس متعلقة بالنفوذ الإيراني، فإن طهران جاهزة لتبديده بالحوار.
وعلى الرغم من أن المزاج السعودي أكثر رغبة في تغيير النظام الحاكم للجمهورية الإسلامية، وهي رغبة لم تخفِها السعودية في مجمل سياساتها، سواء بالتهجم العلني على إيران ووضعها في خانة المعادين أو بالتوعد الصريح الذي جاء على لسان محمد ابن سلمان بنقل المعركة إلى داخلها، وحتى بظهور كبار مسؤوليها في احتفاليات منظّمات تقف خلف عشرات العمليات الإرهابية المنفذة في الداخل الإيرانيّ… فإنَّ الحسابات السياسية محكومة دوماً بقاعدة تقديم الأهم على المهم.
وأمام الأهمّ المتمثّل بعرش سعى إليه محمد ابن سلمان بكل ما امتلك، فلا مهم بالنسبة إليه سوى ضمان اعتلائه، وخصوصاً أن الزمن لم يعد بإمكانه العودة إلى الوراء، فاحتجاج تركي الفيصل “كلا يا سيد أوباما” (صحيفة الشرق الأوسط – آذار/مارس 2016) لم يعد بالإمكان تكراره بسجلّ سعودي حافل سواداً راكمته سياسات محمد بن سلمان.
* المصدر : الميادين نت
* المادة التحليلية تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع