المرحلة الانتقالية في السودان وطبول الحرب
السياسية – مركز البحوث والمعلومات:
كشفت الأحداث خلال عامان من الثورة السودانية أن تحقيق أهداف الثورة في الحرية والسلام والعدالة والانتقال بالتجربة الثورية إلى بر الأمان، مازالت بعيدة المنال على الرغم من كل التضحيات التي قدمها الثوار قبل وبعد نجاح الثورة.
وأمام هكذا وضع تتزايد التساؤلات لدى شريحة واسعة من أبناء الشعب السوداني، عن الأسباب الحقيقية في ما آلت إليه الأوضاع خلال المرحلة الانتقالية؟ وعن الأطراف المستفيدة من ذلك؟ ويبقى السؤال الأهم في الوقت الحاضر عن الطرف المستفيد من التصعيد مع الجارة إثيوبيا؟
عامان من الفوضى:
حالة الإرباك التي يعيشها السودان اليوم لم تختلف عن ما كان عليه الوضع قبل عامان، بل أنها ازدادت تعقيداً رغم حالة الاستقرار النسبية التي عاشتها البلاد خلال الفترة الماضية، فمنذ الإطاحة بحكومة البشير واستلام العسكر زمام الأمور كان من الواضح أن السودان على وشك الدخول في نفق جديد (بعد أن ظل في نفق نظام الانقاذ نحو ثلاثون عاماً)، لن يختلف كثيراً عن سابقه، ولا سيما أن العسكر في كلا الحالتين هم المتحكم بزمام الأمور، وكانت أولى مؤشرات تلك الفوضى “المقصودة” ما حدث في 3 يونيو 2019 عندما اقتحمت قوات “أجهزة الأمن والدعم السريع” اعتصام المحتجين أمام مقر القيادة العامة للجيش في العاصمة الخرطوم، والتي أودت بحياة 128 معتصماً، والمئات من المصابين، وعدد من المفقودين، وحسب العديد من المراقبين كشفت تلك الأحداث أنه من الصعوبة إقناع العسكر بضرورة البقاء في ثكناتهم بعيداً عن السلطة والحكم
وفي أعقاب الحادثة، أعلنت قوى إعلان الحرية والتغيير “قائدة الحراك الاحتجاجي” وقف كافة الاتصالات مع المجلس العسكري الانتقالي “التي كانت قائمة ما بين بين الطرفان”، ولكن تلك المقاطعة لم تستمر طويلاً نتيجة دخول من الوساطات الداخلية والخارجية على خط الأزمة للوصول إلى تسوية شاملة تسمح بالانتقال من المرحلة الثورية إلى المرحلة الدستورية.
وبعد مفاوضات طويلة، كان التوافق على تقاسم السلطة خلال فترة انتقالية ما بين العسكريين والمدنيين “ائتلاف قوى إعلان الحرية والتغيير” بحسب الاتفاق الدستوري، وفي 21 اغسطس 2019 تم تشكيل مجلس سيادي يتولى مقاليد الحكم خلال فترة زمنية تمتد 39 شهر، وكان من الواضح أن بنود الوثيقة الدستورية أعطت الحكومة “القيادة الفعلية للبلد” فيما أُنيط بالمجلس السيادي دور إشرافي واستشاري، إلا أن مسار الأحداث التي أعقبت الاتفاق كشفت أن اتفاق تقاسم السلطة لم يكن سوى التفاف على مطالب الثورة، وأن أغلب الملفات الحيوية بما فيها سلطة اتخاذ القرارات المهمة والمصيرية والتي تعنى بحاضر ومستقبل السودان يهيمن عليها المكون العسكري في السلطة الانتقالية.
ومع استمرار حالة الفوضى التي يعيشها السودان، يبقى الوضع الاقتصادي المتردي الأكثر تأثيراً على أغلب الشرائح، ولم يعد خافياً على السلطة الحاكمة سيطرة حالة الرفض المتصاعدة من قبل الشعب، خاصة مع استمرار تبادل اللوم ما بين طرفي السلطة، فالمدنيون يشيرون بأصابع الاتهام للعسكر لكونهم من يتحكم في معظم الموارد الاقتصادية وبأن كثير من صلاحيات الحكومة مجرد حبر مكتوب لا أكثر على “الوثيقة الدستورية” و بأن المؤسسة العسكرية تمتلك القدرة على حلحلة الأزمة الاقتصادية الخانقة.
والمتابع للشأن السوداني لا يخفى عليه أن التردي الاقتصادي الحالي لم يختلف عن ما كان عليه الوضع مع نهاية حكم الرئيس السابق عمر البشير والتي كانت أحد أهم الأسباب في أسقاط نظامه بعد أن تفجرت الاحتجاجات والتظاهرات في مختلف مناطق السودان بسبب انعدام الخبز وارتفاع الأسعار وسوء الظروف المعيشية، ويشير عدد من المراقبين أن حالة الاحباط الحالية ناتجة عن استمرار الأزمة الاقتصادية منذ ما قبل الثورة، وإلى يومنا هذا، بل أن الأوضاع وحسب أغلب المؤشرات شهدت مزيداً من التدهور ولا سيما في بعدها الاقتصادي الذي دفع بمزيد من السودانيين إلى حافة الفقر.
حيث أن التردي الاقتصادي في البلد مازال واقعاً معاشاً ولم يطرأ أي إصلاح على الاقتصاد ولم تتبدل الاوضاع السيئة ولكنها اتجهت نحو الأسوأ على غالبية الشعب السوداني، بعد أن فشلت حكومة عبدالله حمدوك من السيطرة على تفاصيل الأزمة الاقتصادية بما فيها: ارتفاع الأسعار التي تضاعفت خلال العام الماضي، بالإضافة إلى استمرار انهيار سعر الجنيه مقابل العملات الأجنبية حيث وصل سعر الدولار الواحد إلى نحو 255 جنيه، فيما أرتفع معدل التضخم إلى أكثر من 240% وتضاعفت أسعار المواد الغذائية نحو ثلاث مرات، وفي هذا المنحى لم يخفي مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية الواقع الصعب للأوضاع الاقتصادية في السودان، حيث أشار المكتب في تقريره إلى ان أكثر من 9.6 ملايين سوداني يعانون من انعدام شديد في الأمن الغذائي ويحتاجون الى مساعدات انسانية.
طبول الحرب؟
كان المجال الدبلوماسي حاضراً وبصورة مستمرة خلال العقود الماضية ما بين الجانب السوداني والإثيوبي لتسوية أي خلافات ومنها النزاعات الحدودية ،ولكن التصعيد الأخير تجاه الأراضي المتنازع عليها وتحديدا حول منطقة الفشقة الحدودية والتي ظلت محل خلاف دون غيرها من الحدود البالغة 744 كيلومتراً شكل مفاجئة للكثير، فمن جهة السودان يمر بمرحلة انتقالية وبحاجة إلى إعادة ترتيب الوضع الداخلي، ومن الجهة الأخرى الجانب الإثيوبي لديه تمرد داخلي وليس بحاجة إلى الدخول في صراع عسكري مع السودان.
وفي هذا السياق، يرى عدد من المراقبين أن خروج رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان وغيره من القيادات السودانية بتصريحات نارية تجاه الخلاف الحدودي مع إثيوبيا كان مقصوداً وواضحاً، والقارئ لما وراء ذلك التصعيد يتكشف له أن هناك مجموعة من المكاسب المراد تحقيقها في مقدمتها:-
- تحشيد الشعب السوداني خلف الجيش على اعتباره الجهة الأكثر قدرة على الخروج بالبلاد من مختلف الأزمات.
- وقف المحاولات الداعية إلى ضرورة تحجيم دور المؤسسة العسكرية السودانية خلال الفترة الانتقالية.
- التأكيد على أن القيادات العسكرية تمسك بزمام الأمور وبأنهم الحاكم الفعلي في مختلف الملفات الداخلية والخارجية.
- حسم معادلة الصراع نهائياً “بين المدنيين والعسكريين” من خلال التصدي للمهام الرئيسية بما فيها إعلان الحرب.
- التصعيد العسكري سوف يضمن وقف استقواء المدنيين بالدعوات الدولية المطالبة بضرورة عودة العسكر إلى ثكناتهم.
- تمديد الفترة الانتقالية مرحلة أخرى، كما حدث عند توقيع اتفاق السلام مع الفصائل السودانية وبالتالي قطع الطريق أمام الانتقال السياسي واستلام المدنيين السلطة من العسكر حسب الاتفاق الدستوري الموقع في اغسطس 2019.
- التصعيد على الحدود سوف يعزز من الدعم الخارجي للجيش من أجل تعزيز موقع السودان في لعبة المحاور الإقليمية.
لم يكن تفرد العسكر بقرار التصعيد مع الجانب الإثيوبي هو الأول من نوعه، ولن يكون الأخير حسب أغلب المراقبين فقد سبق هذا القرار مجموعة من القرارات وفي ملفات حساسة والتي انفرد بها العسكر والتي تعنى بحاضر ومستقبل السودان، وفي مقدمة تلك الملفات التطبيع مع الكيان الصهيوني بحجة أن السودان مقبل على مرحلة جديدة في علاقاته الدولية وأن التطبيع هو مفتاح ذلك الانفتاح على العالم، بالإضافة إلى استمرار تورط القوات السودانية في الحرب على اليمن والتدخل في الصراع الليبي الداخلي.
وفي الختام يمكن القول، أن حسابات القيادات العسكرية سوف تكون حاسمه في الذهاب بعيداً نحو التصعيد على الحدود الإثيوبية، والتاريخ في الدول النامية وبأحداثه المشابهة يرجح أن الذهاب باتجاه إشعال الحروب الخارجية قد يكون خياراً مفضلاً للحيلولة دون الخروج من السلطة، والمبرر في هذ التوجه أن التهديدات المحتملة تستوجب بقاء المؤسسة العسكرية للحفاظ على سيادة السودان واستقلاله من أي عدوان خارجي.