حمزة الخنسا*

“(…) لست متأكدًا على الإطلاق من أننا سنتمكن من إجراء انتخابات حرة ونزيهة في نوفمبر أو إجراء انتقال سلمي للسلطة الرئاسية في يناير. نحن نتجه نحو حرب أهلية ثقافية، لكننا هذه المرة لم نكن محظوظين: أبراهام لنكولن ليس الرئيس”.

كانت تلك أسوأ مخاوف الكاتب والصحفي الأميركي توماس فريدمان، التي عبّر عنها في مقال في نيويورك تايمز (2/6/2020) بعنوان: “أميركا التي كسرناها؛ ذهبت. من أين لنا بقائد ينقذها؟”.

آلاف المقالات والتقارير التي تتحدث عن مصير الولايات المتحدة الأميركية، كان الرئيس دونالد ترامب، القاسم المشترك فيها، بوصفه القطرة التي أفاضت الكأس. إلا أن الكأس الأميركية تلك، كانت، وعلى مرّ الزمن، قد مُلئت بكل أسباب التضعضع على طريق الانهيار.

يقول الكاتب إيان بريمر، في مجلة “التايم” الأميركيّة، إن أعمال الشغب التي حصلت أخيرًا في الكابيتول جاءت نتيجة لتراكمات عقد طويلة، بسبب ثلاث سمات مميزة للمجتمع الأميركي تمّ تجاهلها من قبل السياسيين الأميركيين لفترة طويلة جدًا وهي: الإرث الدائم للعرق، والطبيعة المتغيرة للرأسمالية، وانقسام مشهدنا الإعلامي الجماعي.

اليوم، إذا نظرنا إليها من الخارج، تبدو الولايات المتحدة كقوة عظمى في حالة تدهور يصاحبها النظام السياسي المتدهور، وانتشار الفساد، وانهيار قدرة الدولة. ويستعرض ديمون لينكر في مجلة “ذا ويك”، المجالات التي فشلت فيها الولايات المتحدة فشلًا ذريعًا والتي أدّت الى ما يصفه بـ”انهيار وسقوط أميركا”، وهي: الأحزاب والفشل السياسي – النظام السياسي وتدهور الديمقراطية – رئاسة ترامب – فشل “اسرائيل” في إيقاف تزوّد حزب الله بالصواريخ الدقيقة – فشل توزيع اللقاح – تمكن روسيا من اختراق أجهزة كمبيوتر لأكثر من 250 وكالة وشركة فيدرالية – فشل الدفاعات الأميركية – انهيار صادم في النظام العام وارتفاع معدلات الجرائم العنيفة – الاضطرابات الاقتصادية.

ما سمّاه ديمون لينكر مجالات فشل الولايات المتحدة، كان محل اهتمام دراسة مفصّلة لمركز غرب آسيا للأبحاث، تناولت ثغرات البنية السياسية الأميركية. تشتغل الدراسة على نقاط اتصال النفوذ الأميركي على أصعدة عدة: الحضور العسكري، وعقيدة التسلح، وصورة القيادة الأميركية، والنفوذ الاقتصادي، والشراكة والمصالح (الحلفاء والشركاء والوكلاء)، والتأثير الإعلامي، والنفوذ السيبراني، والرؤية الاستراتيجية. وتدرَس في كل من هذه الثغرات العناوين والأبعاد التالية: الأسباب، والتأثير، والاستمرارية، والدينامية، والسياسات الأميركية تجاهها، والمخاطر، والفرص، والأفق الزمني، وعتبة الثغرة.

على سبيل المثال، في خصوص ثغرة عقيدة التسلح، تحدثت الدراسة عن التقهقر في عقيدة تفوق التسلح والتخلف أمام روسيا والصين. وأوردت عدة تأثيرات لها منها:

1. انخفاض حجم البحرية الأميركية، وتنامي الحضور الصيني في البحار المحيطة بحدودها وانتشار قوة تقنياتها الهجومية على الموانئ والمطارات، وتنامي التهديد الإيراني في الخليج الفارسي.

2. تنامي القدرات العسكرية الروسية، وفي طليعتها الصواريخ النووية والغواصات التي تطلق صواريخ نووية، والتخلف الأميركي عن التفوّق الروسي والصيني في الأسلحة فوق الصوتية بفارق كبير وخطير وغير مسبوق.

3. تفوق القوة الروسية على الأميركية في الدبابات والمدرعات والمدافع والمنظومات الصاروخية.

4. قدم أنظمة الدفاع الجوية الأميركية أمام الروسية والصينية، وفقدان أميركا ميزتها التكنولوجية في صنع أنواع الأسلحة ضد الأسلحة فوق الصوتية الروسية والصينية.

5. وجود تهديد حقيقي على الأمن القومي الأميركي ناجم عن افتقار أميركا لوسائل الحماية ضد النظام الصاروخي الاستراتيجي “أفانغارد”، وفقًا لمكتب المحاسبة الحكومي (GAO).

أما عن الثغرة في الصورة الأميركية، فقد أوردت الدراسة عدة تأثيرات لها منها الاضطرار إلى الانكفاء من غرب آسيا لموازنة القوى المنافسة الكبرى، واستعادة القيادة:

1. ضعف الفعالية الأميركية الخارجية بشكل متزايد مع الانشغال في الداخل.

2. تقويض صورة النموذج الأميركي الديمقراطي في الداخل والخارج، وتاليًا صعوبة استخدام النموذج الأميركي كمثال، والحاجة إلى إعادة ترميم صورته في الوعي العالمي.

3. افتقاد الدعم الدولي، والمساهمة في نهاية الأحادية الأميركية مع صعود الأقطاب الأخرى.

4. ضعف النفوذ الدبلوماسي في معالجة الأزمات وحل النزاعات وتسجيل الانتصارات السياسية بسهولة.

5. نمو قوى طامحة تحررت من القيد الأميركي نسبيًّا إلى ملء فراغ إقليمي، كتركيا.

6. تثبيت المنافس الروسي حضوره في قواعد عسكرية في سوريا، والتقدم نحو ليبيا.

7. ارتباط حلفائها وشركائها بعلاقات مع منافسيها وخصومها، مثلًا التركي مع الروسي والإيراني، السعودي مع الصيني، الإماراتي مع الإيراني.

وفي ما يتعلق بالثغرة في الرؤية الاستراتيجية، تحدثت الدراسة عن عدم نجاح الاستراتيجيات الأميركية رغم التفوق الهائل في الموارد وكثافة ابتكار أو تغيير السياسات. وأوردت لذلك عدة تأثيرات منها:

1. تضخم في ميزانية الإنفاق العسكري الأميركي.
2. استنزاف موارد القوات الأميركية دون تحصيل الفعالية أو النجاعة المطلوبة.
3. وقوع الأميركي في فجوة الغرق في الحروب الأبدية بدل الفوز في الحروب السريعة.
4. تغيّر موازين القوى، وعجز الأميركي عن فرض معادلاته، ونشوء معادلات عسكرية وسياسية جديدة، واحتضار القطبية الأحادية.
5. إرباك العلاقات الأميركية بالوكلاء (دول، منظمات)، وتشنج بعضها، واصطدام الوكلاء في ما بينهم.
6. فقدان الأميركي الإمساك بزمام المبادرة بقوة.
7. تراجع في قدرة الأميركي على إنتاج الأحداث التي تغيّر الموازين الكبرى.

مع توافر المزيد من الإشارات الى دخول أميركا في عصر الانحدار، يحلو للعديد من الكتّاب وصف دونالد ترامب بأنه بوريس يلتسن أميركا، والذي على يديه سوف يتفكّك الاتحاد الذي يجمع الولايات الأميركية، كما تفكّك الاتحاد السوفييتي على يدي يلتسن.

هنا، تطفو على السطح الكثير من الأسئلة المصيرية، إذا ما تحققت نبوءات الكثير من الكتّاب والمؤلفين الذين تحدثوا عن “صعود القوى العظمى وسقوطها”، خصوصًا تلك الأسئلة المتعلقة بمصير “إسرائيل”، نظرًا لحقيقة أن السياسة الاميركية ترتبط بوجود “إسرائيل” ومصلحتها. وهو ما دفع صحيفة “جيروزاليم بوست” العبرية إلى القول إن مصلحة “إسرائيل” هي أن ترى أميركا مستقرة سياسيًا وقوية ويمكنها مرة أخرى إظهار قيمها وقوتها حول العالم. عندما تكون أميركا قوية، تكون “إسرائيل” قوية، وعندما تردع أميركا الأعداء تساعد “إسرائيل” على ردع الأعداء… ولعل العكس صحيح أيضاً.

* المصدر : موقع العهد الإخباري