إستقرار أو فوضى قاتلة.. أميركا إلى أين؟
شارل أبي نادر*
لم يكن منتظرًا بالنسبة للكثير من المتابعين ما حدث في الولايات المتحدة الاميركية وبالتحديد في العاصمة واشنطن، لناحية اقتحام مبنى الكابيتول من قبل مجموعة من المعترضين على نتائج الانتخابات الرئاسية، وإحداث هذا الخراب والفوضى غير المألوفة في مبنى مجلس النواب الاميركي. لكن تلك الأحداث جاءت لتبدد نظرة طالما كانت سائدة، في الداخل كما في الخارج، عن متانة الوضع الأمني والاجتماعي داخل الولايات المتحدة الاميركية، وأنها دولة تملك من الديمقراطية ومن القدرة الأمنية والادارية ما هو كافٍ لأن تكون محصّنة أمام أي نوع من الأحداث مهما كان مستواها.
هذه الأحداث الدامية والصادمة، والتي نتجت عن اعتراض واسع على نتائج الانتخابات الرئاسية، وسببت ما سببته داخل الولايات المتحدة الأميركية من عدم توازن أمني وسياسي واجتماعي، برهنت أن الديمقراطية التي طالما طُبع بها المجتمع الأميركي هي زائفة وخادعة، وأن الشعب الأميركي بنسبة كبيرة منه، غير مؤهل لتقبل نتائج أية انتخابات اذا كانت في غير توجهاته، وأنه قابل لأن يتحول وبلحظات الى التصرف بعنف وبعدوانية مفرطة، اضافة لما ظهر لدى الكثيرين منه من عنصرية وعدوانية.
اللافت أيضا في ما قاله الرئيس ترامب، والذي يعتبر المسبب الرئيس لهذه الأحداث من خلال ما مارسه من تحريض علني وصريح ومثبت، في تغريداته أو في مقابلاته الاعلامية، في قوله بعد الأحداث المذكورة، بأنه أصدر تعليمات للوكالات الاتحادية باستخدام كل الموارد اللازمة لفرض النظام أثناء نقل السلطة، وبقوله في كلمة مصورة: “أدين العنف الذي شهدناه الأسبوع الماضي، وان هذا العنف يتعارض مع كل ما أؤمن به وكل ما تمثله حركتنا، ولا مناصر حقيقياً لي يمكنه أن يهدد أو يعتدي على مواطن أميركي”.
طبعا، هذه التصريحات التي صدرت عن الرئيس ترامب بعد أحداث الكونغرس، هي خادعة ولا تعبر عن حقيقة الوضع وعن موقفه وموقعه الفعلي من الأحداث، وذلك للأسباب التالية:
أولًا: كشفت صحيفة “واشنطن بوست” والتي عنونت ذلك تحت عبارة “فشل استخباراتي سبق اقتحام الكونغرس”، أن مكتب التحقيقات الفيدرالي “اف بي اي” في ولاية فرجينيا كان قد حذّر قبل اقتحام مبنى الكونغرس من أن متطرّفين يخطّطون للذهاب إلى واشنطن من أجل “الحرب” وارتكاب أعمال عنف، الأمر الذي يناقض – ودائما حسب الصحيفة المذكورة – ما قاله مسؤول أميركي كبير حول أن وكالة ” اف بي اي” لم يكن لديها معلومات تشير إلى أن المتظاهرين كانوا يخطّطون للعنف، غير أنها نقلت عن مسؤول في أجهزة إنفاذ القانون قوله إن الفشل لم يكن استخباراتيًا وإنما فشل في الاستفادة من المعلومات الاستخباراتية. وبحسب الكاتب، فان عدم اتخاذ الإجراءات المناسبة من قبل الشرطة المكلّفة بحماية مبنى الكونغرس رغم تحذيرات الوكالة يعكس الإهمال على أقل تقدير والتآمر في أقصى تقدير”.
ثانيًا: هذا التناقض في ما صدر عن وكالة التحقيق الفيدرالية “اف بي اي”، لا يمكن وضعه الا في خانة غض النظر وتسهيل استدراج المتظاهرين أو المعترضين للقيام بأعمال عنف، والذي يؤكد ذلك التواطوء عبر غض النظر، ان الاجراءات الاستباقية لمنع ما هو مقدر من أحداث لم تكن على قدر الحدث أو المسؤولية، والدليل على ذلك هو أولا العدد غير الكافي من عناصر الشرطة والأجهزة الأمنية والمخابراتية في محيط وساحات ومداخل الكابيتول، وثانيًا ما ظهر من تراخ من قبل هؤلاء الأمنيين في مواجهة المعترضين الذين أقدموا على الدخول عنوة الى مبنى الكابيتول، في الوقت الذي كان الجميع فيه يعيش أجواء التحريض على العنف وتهديد مجلس النواب في حال التصديق على نتائج الانتخابات، الامر الذي كان يتطلب، مُسبقا، تشديد الاجراءات الامنية واتخاذ ما يلزم لضبط الوضع ومنع التعديات.
في الواقع، لناحية التناقض في معطيات “اف بي اي”، أو لناحية تواضع الاجراءات الأمنية أو التنظيمية لحماية مبنى “الكاببيتول” أثناء جلسة التصديق على الانتخابات، أو لناحية تواطوء بعض الأمنيين المعنيين بحماية المبنى، لا يمكن ابعاد مسؤولية الرئيس ترامب عن كل ذلك، وهو الرئيس الأعلى للقوات المسلحة والمدير الأول للأجهزة الأمنية والمخابراتية استنادا للدستور، وحيث الكم الهائل من التقارير الامنية التي تصل الى مكتبه يوميًا، عليه متابعتها واتخاذ القرار المناسب حولها، وعلى الأقل فهو يتحمل مسؤولية تقصيرية اذا لم تكن مقصودة عمدًا من خلال التحريض أو التواطوء.
بحسب نشرة صادرة عن المركز الوطني لمكافحة الإرهاب ووزارتي العدل والأمن الداخلي الأميركية، فإن حركة تدعى “بوغالو” وهي حركة تسعى وراء نشوب حرب أهلية ثانية، بالاضافة الى مجموعة من المتطرفين الذين يهدفون إلى إشعال حرب عرقية، قد يستغلون تداعيات خرق الكابيتول من خلال شن هجمات لزعزعة الاستقرار وفرض صراع جذري في الولايات المتحدة”.
من جهة أخرى، وبعد ورود تحذيرات من إمكانية ارتكاب أعمال عنف جديدة من قبل أنصار ترامب، انتشر العشرات من عناصر الحرس الوطني في أروقة مبنى “الكابيتول”، كما وتشهد وكالات الامن والاستخبارات، وعلى عكس ما حصل قبل الأحداث الدامية الأخيرة، تشهد هذه الوكالات استنفارًا معقولًا ومناسبًا للتعامل مع أي مستجد قد يطرأ، حيث من الناحية العملية، من المستبعد استمرار التواطوء وغض النظر من قبل بعض الأجهزة الأمنية بعد اليوم، عما يمكن أن يرتكبه مؤيدو ترامب كردة فعل على مسار مساءلة الرئيس ترامب أمام مجلس الشيوخ بعد ان وافق مجلس النواب على ذلك، أو على حفل تنصيب الرئيس بايدن، حيث ستكون اجراءات هذه الأجهزة مختلفة وذلك للاسباب التالية:
أولًا: لقد أصبحت العناصر المشاغبة مكشوفة باغلبها تقريبًا، وقد تم استدعاء قسم كبير منهم والتحقيق معهم حول الأحداث، الأمر الذي سوف يقيد حركتهم لاحقًا الى حد ما، على الأقل في المدى القريب.
ثانيًا: لقد تم تسليط الأضواء داخليًا وخارجيًا على تلك الأحداث، وكان لافتًا وعلى صعيد ردة فعل أغلب مسؤولي دول العالم، تحميلهم الرئيس ترامب مسؤولية التحريض على الفوضى والتسبب بالتوتر الأمني الذي حصل، الأمر الذي سوف يقيد مناورته لاحقًا، ويدفعه للتعقل، على الأقل في تصريحاته العلنية، وقد حصل ذلك فعلاً، بعد تصريحاته الأخيرة الاستيعابية للوضع.
ثانيًا: بعد فشل المحاولة الأولى واحتوائها، حيث كان مقدرًا أن ينتج عنها انقلاب أو فوضىً عارمة، تقلب الأوضاع رأسًا على عقب، وتؤثر في نتائج الانتخابات أو تفرض اعادتها، أو تؤدي الى ضياع وعدم توازن في ادارة الأحداث الحرجة، فتتوقف من جراء ذلك حركة التغيير الديمقراطي بسلاسة، لم يعد هذا السيناريو قابلًا للنجاح، الأمر الذي من المستبعد محاولة اطلاقه من جديد.
ثالثًا: بعد اكتشاف هذا الكم الهائل من الأسلحة مع هؤلاء الفوضويين من مؤيدي ترامب، حيث لا يمكن لأحد توقع نتائج أو تطور أي حادث اطلاق نار، وما يمكن أن ينتج عنه من فوضى قاتلة، أصبح مطلوبًا ومن الجميع، وكما يبدو من الرئيس ترامب شخصيًا ومن فريقه القريب، تهدئة الأجواء وإبعاد الناس عن الشوارع وضبط حركة اعتراضهم.
عمليًا: برهنت تلك الأحداث أن هناك أكثر من ثغرة أساسية موجودة في هيكلية وبنية المجتمع الاميركي، وهذه الثغرات، اذا ما تم إهمالها من قبل مراكز القرار في الدولة العميقة الأميركية، أو اذا ما عُمل عليها من قبل بعض الأطراف الخارجية القادرة على استغلال الأحداث ونقاط الضعف، ستكون قاتلة للمجتمع وللسلطة أو للادارة في الولايات المتحدة الأميركية، وستتفكك وتنهار جراء ذلك الدولة التي طالما كانت اللاعب الأول والأقوى عالميًا في التأثير على أغلب المجتمعات والشعوب والحكومات الخارجية.
* المصدر : موقع العهد الإخباري