بقلم: دلماري دلمار

(موقع “نيوز 24- “news-24 الفرنسي- ترجمة: أسماء بجاش, الإدارة العامة للترجمة والتحرير الأجنبي “سبأ”)

اضطر صالح إلى جمع المال لعلاج ابنه محمد في أحدى مستشفيات العاصمة صنعاء, ولكن في الأخير نفد ذلك المال الذي كان بحوزته, حيث كان خياره الأخير والوحيد هو الذهاب إلى مستشفى صغير في إحدى المديريات الواقعة في المناطق الشمالية من البلد والتي يبعد نحو 15 دقيقة سيراً على الأقدام من منزله.

حاول الموظّفون القطاع الصحي في ذلك المستشفى إعادة بث الحياة في جسده المنهك الذي لم يتبقى منه سوى الجلد والعظم فقط.

وذلك بعد أن أطبق مرض سوء التغذية خناقة على جسد ذلك الفتى الصغير الذي يبلغ من العمر تسعة أشهر.

امتلأت عيني صالح بالدموع وانفجر باكياً, فقد حلقت روح طفله الصغير إلى السماء قبل شهرين.

والواقع أن لخفض المساعدات من قِبَل إدارة الرئيس ترامب وغيرها من البلدان الغربية الرامية لمنع الحوثيين في اليمن من اختلاس تلك الأموال وتحويل مسارها، يعمل على تفاقم الأزمة الإنسانية التي تعيشها البلد والتي تعتبر بالفعل الأسوأ والأكثر خطورة في العالم.

وطبقا للتقارير الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الانسانية لليمن, تعتبر تعهدات العام الماضي والتي بلغ مجموعها 61.1 مليار دولار أمريكي أقل من نصف التمويل الذي تم تقديمه العام 2019, ناهيك عن كون مئات الملايين من الدولارات التي تعهد المانحون بتقديمها لم يتم الوفاء بها بعد.

ووفقاً لمسؤولين في الأمم المتحدة, فقد تم خفض أو إغلاق ما لا يقل عن 15 برنامج من أصل 41 من البرامج الرئيسية التابعة للأمم المتحدة، ومن الممكن أن يتم إغلاق تلك البرامج المتبقية في الأشهر المقبلة إذا لم يتم تلقي المزيد من الأموال.

ومن شأن ذلك أن يمنع العديد من المنظمات الإنسانية الغربية، التي تشعر بالقلق إزاء الملاحقات القضائية بسبب الدعم المزعوم للجماعة المسلحة, من العمل في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون حيث يعيش السواد الأعظم من اليمنيين.

قد يؤدي هذا أيضاً إلى انتقام الحوثيين ضد المنظمات الإنسانية، وهو ما من شأنه أن يزيد من تقويض الجهود الرامية إلى مساعدة الملايين من السكان.

ومن جانبه, حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في بيان صدر مؤخراً من أن  خفض التمويل يأتي في الوقت الذي أصبح فيه اليمن الآن على مقربة من الوقوع في مستنقع أسوأ مجاعة يشهدها العالم منذ عقود من الزمان, والتي يمكن أن تُزهق ملايين الأرواح.

قال آدان أوليري، رئيس مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في اليمن، أن نقص التمويل يمكن أن يؤدي إلى وقف المساعدات الغذائية الطارئة لـ 5 ملايين شخص.

كما سيعمل على تعليق الرعاية الصحية الأساسية لـ 9 ملايين شخص، بما في ذلك أكثر من نصف مليون طفل يعانون من سوء التغذية.

اندلع الصراع الدائر في اليمن اليوم والذي لا يزال منهمك في سرد فصوله, بعد أن تمكن الحوثيين الشيعة من طرد الحكومة اليمنية من العاصمة صنعاء, أواخر سبتمبر من العام 2014.

الأمر الذي دفع بدول التحالف العربي السُنّي الإقليمي بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى شن عمليات عسكرية واسعة في أواخر مارس من العام التالي.

كانت الغاية المنشودة وراء هذه الحملة التي تدعمها الولايات المتحدة تكمن في إعادة الحكومة ووضع حد للنفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة.

ولكن ما الذي حدث بدلاً من ذلك؟

بات الصراع اليوم متعثراً, حيث وصل إلى طريق مسدود، مع اشتداد حدة الصراع في بعض المناطق.

ومن جانبهم, قال عمال الإغاثة إن الاقتصاد المنهار والفيضانات المدمرة وأسراب الجراد الصحراوي التي غزت البلد، فضلا عن انتشار الفيروس التاجي، قد أدت إلى تفاقم المشاكل الإنسانية.

واليوم، يحتاج أكثر من 24 مليون يمني، أو نحو ما يعادل  80% من إجمالي عدد السكان إلى المساعدات الإنسانية, بما في ذلك أكثر من 12 مليون طفل، وفقاً للتقارير الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف).

كما أشارت منظمة أوكسفام إلى أن نصف المرافق الطبية في البلد قد دمرت أو لم تعد تعمل بكامل طاقتها الاستيعابية.

ناهيك عن إطبق الأوبئة مثل الكوليرا وحمى الضنك والأمراض الأخرى مخالبها على الجهاز المناعي للملايين من السكان، الأمر الذي جعلهم الأكثر عرضة للإصابة بفيروس كورونا.

ففي مارس المنصرم، علقت إدارة الرئيس ترامب ما لا يقل عن 73 مليون دولار من المساعدات بعد أن اتهمت الحوثيين بتحويل مسار هذه المساعدات وتعطيلها.

لم يقف الوضع في اليمن عند هذا الحد فحسب, بل فقد حذت جهات مانحة غربية أخرى حذو الولايات المتحدة الأمريكية.

في شهر أكتوبر، توصلت دراسة أجرتها منظمة اليونيسيف إلى أن معدل سوء التغذية الحاد بين الأطفال ما دون سن الخامسة كان أعلى معدل والذي سُجل في بعض أجزاء اليمن.

ومن جانبه, دافع المتحدث باسم وكالة التنمية الدولية التابعة للولايات المتحدة بالإنابة بوجا جون جونوالا – وهي الذراع المانحة للحكومة الأمريكية- عن جهود المساعدات التي تبذلها، حيث قال إنه على الرغم من خفض المساعدات فإن الولايات المتحدة لا تزال الجهة المانحة الأكبر لليمن, نظراً لكونها لا تزال ملتزمة بتقديم المساعدة لأكثر المجتمعات ضعفاً في اليمن.

ووفقاً للبيانات الصادرة عن الأمم المتحدة، فإن مساهمة الولايات المتحدة التي بلغت 530 مليون دولار في العام 2020 كانت تمثل نحو 60% من المساهمات التي قدمتها في العام 2019.

كما أشار  بوجا جون جونوالا إلى أن بيانات الحكومة الأمريكية، التي تذهب للسنة المالية بدلاً من السنة التقويمية، تبين أن السنة المالية 2020 انخفضت بنسبة 15 % عن السنة السابقة.

«مصير غير مؤكد»

يعتبر مستشفى ريدة أقل تجهيزا بكثير من اعتباره مستشفى كامل، ولكنه يفتح أبوابه أمام المرضى من جميع أنحاء المنطقة.

أخذت منظمة إنقاذ الطفولة، وهي منظمة خيرية أميركية تتلقى أموالاً من حكومة الولايات المتحدة، على عاتقها  دفع أغلب الرواتب وقيمة الأدوية والمكملات الغذائية ومنتجات النظافة الصحية والمساعدات الأولية.

ومن جانبه, يقول عبد الله صالح التام، المدير العام لمستشفى ريدة: “لقد توقفت جميع هذه الأمور منذ مارس, ونتيجة لهذا، فقد تدهور الوضع هنا في الأشهر الأخيرة, حيث لم يعد المرضى المصابين بأمراض مزمنة يستطيعون إيجاد العلاج الأساسي أو ثمنه لأمراض الجهاز التنفسي والإسهال وسوء التغذية”.

وأضاف: “حتى أولئك الذين كانوا يتمتعون بصحة جيدة, فقد بدأ اليوم  يظهر عليهم علامات سوء التغذية, فهذا الوضع ليس حكراً على الأطفال فحسب، بل إنه أصبح يهدد أيضاً العديد من النساء الحوامل والمرضعات”.

في العام 2019، بلغ عدد الأشخاص الذين استفادوا من المساعدات المقدمة من منظمة إنقاذ الطفولة  1.2 مليون شخص – بالغ وطفل- من مختلف المناطق الواقعة في الجهة الشمالية من اليمن, بما في ذلك المنطقة التي يوجد بها مستشفى ريدة.

وفي العام الماضي، أرغمت المنظمة الخيرية بعد الإعلان عن تخفيضات المساعدات على خفض مساعداتها الغذائية لما يقرب من 21 ألف أسرة.

قالت آنا بانتاليا المتحدثة باسم منظمة إنقاذ الطفولة أن قرار خفض المساعدات تركهم لمصير مجهول وفترة غير مؤكدة, مشيرة إلى 1.2 مليون شخص الذين استفادوا من تلك المساعدات ذات يوم .

كما قالت كريمة المأخذي وهي ممرضة تعمل في مستشفى ريدة، إن العديد من الناس لم يعد بإمكانهم حتى الذهاب إلى المستشفى, ففي الماضي كان المستشفى  مسؤول ليس فقط عن تكاليف النقل، بل أيضاً عن تكاليف السفر إلى مستشفى ريدة أو حتى إلى مستشفيات صنعاء، ولكن للأسف كان علينا أن نتوقف عن ذلك منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر.

وأضاف التام: “في أكتوبر, فارق ستة أو سبعة أطفال الحياة, نظراً لكون أسرهم لم تتمكن من تحمل تكاليف إعادتهم إلى المستشفى, كان جميعهم تحت سن الخامسة, وفي الآونة الأخيرة، اضطررنا إلى عدم قبول تلك الحالات نظراً لعدم توفير الإمدادات”.

الموت بهدوء في المنزل:

قال منصور مطر، وهو مساعد طبيب يعمل في قسم التغذية في مستشفى ريدة, أنه قبل عدة أشهر، جاءت هند القري البالغة من العمر 18 عاما بصحبة طفلتيها التوأم إلى المستشفى, حيث تعاني الطفلتان إيناس وإيمان واللتان تبلغان من العمر 10 أشهر، من سوء تغذية حاد وإسهال شديد, فقد كان الوضع الصحي لطفلتها إيناس هو الأسوأ, حيث كانت تزن نحو ستة أرطال, فقد كانت بالمعنى الحرفي عبارة عن هيكل عظمي”.

كانت حالة الطفلة خطيرة للغاية لدرجة أننا نصحنا عائلتها بضرورة نقلها إلى مستشفى أكبر في العاصمة.

ولكن الأسرة لم تكن قادرة على تحمل التكاليف هذه الرحلة ولم يعد هناك أي مال متبقي من منظمة إنقاذ الطفولة.

ولمساعدة الطفلة, عمل منصور وغيره من موظفي المستشفى على جمع المال لتغطية تكاليف الأدوية والمكملات الغذائية التي تجتاحها الطفلة, كما قام بزيارات متابعة إلى منزل الأسرة.

واليوم تحسن الوضع الصحي للطفلة, حيث أصبحت تزن الآن  5,4 كجم، أي ما يقرب من 12 رطلاً.

ولكن عدداً لا يحصى من الأطفال لا يستطيعون النجاة, حيث تخيم هذه الحالة  بشكل خاص على المناطق النائية من اليمن, إذ أصبح الوصول إلى مرفق صحي صغير أمراً باهظ التكاليف.

قالت فاطمة الوادعي، وهي ممرضة تعمل في عيادة الميدان الواقعة على بعد حوالي 160 كم شمال مستشفى ريدة، إنها أخبرت العديد من الآباء أن التمويل المخصص للنقل إلى المستشفيات الرئيسية قد انتهى.

ونتيجة لذلك, فقد عاد العديد منهم إلى ديارهم, ولأكون صادقة, فقد فارق العديد من أولئك الأطفال الذين اعرفهم الحياة بهدوء في منازلهم.

تقول زوجة صالح في البداية لم نكن نملك المال اللازم كي نتمكن من دفع ثمن سيارة الأجرة التي سوف تقلنا إلى صنعاء.

وفي شهر مايو، وبعد أن سمعت عن تعليق المساعدات, طلبت هي وزوجها من أقاربهم وأصدقائهم وجيرانهم المال, حيث تمكنوا من جمع 1,700 دولار وأخذوا محمد إلى المستشفى الرئيسي في صنعاء

قال صالح :”لكن تلك الأموال التي استخدمت لنقل الدم وغير ذلك من الاحتياجات الطبية، لم تبقى معنا إلا لمدة شهر واحد”.

وطبقاً لنصيحة الطبيب المعالج فقد عادوا إلى قريتهم نظراً لكونهم يفتقرون إلى المال أو الموارد اللازمة للحصول على المال.

ثم استمروا في أخذ محمد مرارا وتكرارا، كلما اشتد به المريض إلى مستشفى ريدة حتى وفاته.

قالت والدته وهي تمسح الدموع على وجهها: “أنا حزينة للغاية لأنني شعرت بالعجز ولم أتمكن من فعل أي شيء لإنقاذ حياة طفلي الصغير”.

* المادة الصحفية تم ترجمتها حرفياً من المصدر وبالضرورة لا يعبر عن رأي الموقع.