السياسية:

إذا كانت منازلنا تعكس شخصياتنا، فإن منازل الفنانين قد تبوح بأسرار محيرة. ويلقي كتاب “عندما تلتقي الحياة بالفن: داخل منازل كبار المبدعين في العالم”، نظرة على مجموعة من التصميمات الداخلية لمنازل عاش فيها نخبة من الفنانين والنحاتين والموسيقيين والكتّاب.

واختار سام لوبيل، مؤلف الكتاب، 250 منزلا من أروع المنازل وأكثرها إثارة للانتباه والفضول في العالم. وقد تحول بعض هذه المنازل الآن إلى متاحف تتضمن الأعمال الفنية التي أبدعها الفنانون الذين عاشوا وأحيانا عملوا فيها، وبعضها قد يوصف بأنه “نصب تذكاري” لتخليد أعمال صاحبه.

لكن ما هي الأسرار التي تكشفها هذه المنازل عن شخصيات أصحابها؟ مما لا شك فيه أن هذه المنازل تدحض الصورة الشائعة للفنان المعدم الذي يعيش في غرفة صغيرة ضيقة. فقد كانت صفحات الكتاب مليئة بأمثلة لمنازل فخمة وأنيقة وأثاث فاخر، باستثناء القليل من المنازل المتواضعة. وذكر لوبيل صراحة: “كنت أستبعد المنازل التي لا تروق لي”.

غير أن هذا الكتاب لم يكن الهدف منه أن يكون مرجعا لمصممي الديكور أو لتُستلهم منه التصميمات الداخلية للمنازل. فعلى الرغم من أن الكثير من الغرف تحولت إلى متاحف ومعارض فنية، فإن الكثير من هذه المنازل لا يزال يتميز بطابع خاص يعكس شخصيات سكانها، وينبض بأرواحهم، سواء في أرفف الكتب أو البيانو القديم أو طاولة الكتابة، أو التحف الفنية أو المقتنيات الشخصية المعروضة.

وتقول أمينة المتاحف، لوسي بورتن: “إن الأثاث والممتلكات الشخصية للفنان قد تسرد قصة حياته”.

وأبرز مثال على ذلك، الفيلا العائلية التي صممها المهندس المعماري أوتو واغنر، أحد أعضاء الحركة الانفصالية الفنية في فيينا. وتزخر الفيلا، التي تعد أروع نماذج طراز الفن الجديد في فيينا، بالأعمال الفنية غير المتجانسة، للفنان إرنست فوكس مؤسس المدرسة الواقعية السحرية.

فقد افتتن فوكس، الصبي المعدم، بهذا المنزل، وقطع على نفسه عهدا بأن يشتريه لأمه يوما ما. وفي عام 1970، استطاع فوكس أن يحقق حلمه ويشتري هذه الفيلا التي كانت مهجورة آنذاك. واستخدم فوكس في تجديدها طرز متنوعة، وملأ أركانها بأعماله الفنية الواقعية الخيالية. ويطلق عليها الآن متحف إرنست فوكس.

وبينما قد ينزع أغلب الناس للاعتقاد بأن الموسيقيين والكتّاب وغيرهم من الفنانين لا يهتمون بشكل عام بترتيب بيئتهم لأنهم منشغلون بإبداعاتهم الفنية الخاصة، فإنه من الصعب إطلاق التعميمات حول أساليب حياة الفنانين.

إذ يتميز منزلا الموسيقار جاكومو بوتشيني والموسيقار تشايكوفسكي، بدقة الترتيب كأنهما محرابان يزخران بالتحف الرائعة، أتاحا للفنانين وضع ألحانهما في هدوء. أما أسطورة الجاز لويس أرمسترونغ، فقد أراد أن يعيش في منطقة حيوية. وآثر أن يعيش في منطقة متواضعة متنوعة عرقيا في كوينز بنيويورك، رغم الثروة الضخمة التي جمعها.

وعندما تتصفح كتاب “عندما تلتقي الحياة بالفن”، ستدرك أن منازل الفنانين لا تعكس بالضرورة مدرسة الرسم التي ينتمون لها. فلو نظرنا إلى منزل بيتر بول روبنز، الذي كانت لوحاته الزيتية مضربا للأمثال في الشبق الجنسي والإثارة الحسية، في أنتويرب ببلجيكا، سنجد أنه كان منزلا متحفظا.

وقد صمم روبنز الرواق المعمّد والحديقة الخلفية على طراز عصر النهضة الإيطالي. والعجيب أن فنانا يعشق التصميم المتناسق إلى هذا الحد أنتج الكثير من الأعمال الفنية التي تتسم بالفوضوية والتناقض.

وينم منزل النحات النرويجي غوستاف فيجلاند عن ذوق يتعارض جملة وتفصيلا مع أعماله الفنية التي يصفها لوبيل بأنها “مفعمة بالحيوية والطاقة”، والتي تعرض الآن في متنزه فيجلاند في أوسلو. إذ يقع منزل فيجلاند وورشته الفنية في مبنى بسيط بالطوب الأحمر، صممه المهندس المعماري لورينتز ري، وشيده شيوخ المدينة مقابل تعهد بالحصول على مجموعة أعماله الفنية.

ربما كان فيجلاند يحلم فقط بأن يمتلك منزله الخاص، إلى حد أنه لم يهتم بوضع تصميمات لمنزله قبل الانتقال إليه. ولعله تراجع في اللحظة الأخيرة ورسم تصميمات لجميع قطع الأثاث في منزله، من الوسائد وحتى الشموع والمصابيح.

أرواح ملونة

توفي الشاعر الألماني فريدريش شيلر بعد ثلاث سنوات من شراء منزله. ففي عام 1802، انتقل شيلر، الذي كان يعد أحد أقطاب التنوير، مع عائلته إلى منزل مطلي باللون الأصفر في مدينة فايمار بالقرب من صديقه الحميم غوته. ويتكون المنزل الريفي من طابقين ويعد فاخرا مقارنة بمنازل الكتّاب في هذا العصر.

وكتب شيلر، الذي كان يبلغ من العمر آنذاك 42 عاما: “تحققت أخيرا أمنيتي القديمة باقتناء منزل خاص. ولم أعد أفكر على الإطلاق في مغادرة فايمار، وأعتقد أني سأعيش وأموت على أراضيها”. وتوفي شيلر، الذي أنهكه العمل المتواصل والمرض، بعد ثلاث سنوات فقط.

وفي مقدمة كتابه، استشهد لوبيل باقتباس لكوكو شانيل عن التصميم الداخلي، الذي وصفه بأنه: “انعكاس طبيعي للروح”، وخير مثال على ذلك، فيلا سانتو سوسبير، بالقرب من مدينة نيس، حيث عاش الأديب والشاعر الفرنسي جان كوكتو. وكانت صاحبة الفيلا فرانسين ويسويلر قد دعته في عام 1950 لقضاء أسبوع في فيلتها بسان جان كاب فيرات. ولم تكن تعرف حينها أنه سيبقى في الفيلا 11 عاما، ويغطي جدرانها بتصميماته التي استلهم معظمها من الآلهة الإغريقية.

ولم يستخدم كوكتو إلا القليل من الألوان، وأطلق على رسوماته “الوشوم”، ومنها استمدت الفيلا، التي أصبحت معلما سياحيا، اسمها “الفيلا ذات الوشوم”. ويقول كوكتو: “أردنا أن نهزم روح الهدم والتخريب التي هيمنت على العصر، ولهذا عمدنا إلى تزيين الجدران التي يحلم الآخرون بهدمها”.

ويجسد منزل آخر روح صاحبه المبدعة، وهو منزل اللورد فريدريك ليتون الأرستقراطي. واشتهر هذا الفنان والنحات الفيكتوري بلوحته “لهيب يونيو”، التي تظهر فيها امرأة مغطاة بحرير برتقالي شفاف ومستغرقة في النوم هربا من قيظ الصيف.

وكان منزل ليتون في متنزه هولاند بارك في لندن في البداية عبارة عن مبنى بالطوب الأحمر على قطعة أرض اشتراها ليتون. ويضم المنزل مدخلا سريا كانت تدخل منه العارضات خلسة بعيدا عن أنظار جيرانه المتزمتين في العصر الفيكتوري. وأضاف إليه ليتون فيما بعد الكثير من التعديلات والملحقات التي استلهمها من أسفاره، وكان أبرزها “الرواق العربي” الذي صممه على غرار قصر في جزيرة صقلية، يجمع بين البلاطات الأندلسية والخشب المفرغ والنقوش المطلية بالذهب والأعمدة الرومانية.

وأضاف ليتون إلى المنزل “مرسما شتويا”، يشبه الصوبة الزراعية للتغلب على مشكلة الضباب في الشتاء. وأضاف بعدها “غرفة الحرير”، التي تزخر بلوحات ومنحوتات أنتج الكثير منها فنانون من وحدة عسكرية تطوعية تابعة للجيش البريطاني، تأسست عام 1859. وتضم هذه الوحدة التطوعية رسامين وموسيقيين وممثلين ومهندسين معماريين، تحت قيادة ليتون. ونال ليتون لقب بارون في عام 1896 لكنه توفي إثر إصابته بنوبة قلبية في منزله بكنسنغتون في اليوم اللاحق.

ويغص كتاب لوبيل بأمثلة لمراسم للفنانين استقطبت الكثير من الزوار، وكان أشهرها مرسم جاكسون بولوك في بلدة إيست هامبتون، حيث أبدع بولوك لوحات مستخدما فن التقطير، ولا تزال آثار قطرات الطلاء تغطي أرضية المرسم.

وتقول لويزا باك، الصحفية المتخصصة في الفن المعاصر بصحيفة “آرت”: “يهوى الناس رؤية الأماكن التي خرجت منها إبداعات الفنانين، ولا يعرف أحد السبب وراء هذا الشغف، حتى الفنانين أنفسهم”.

وبينما تناسب الكثير من التصميمات الداخلية العصر الذي ظهرت فيه، فإن بعضها يبدو كأنه ينتمي لعصور لاحقة، مثل منزل مصمم الأثاث والمهندس المعماري الدنماركي فين جول، الذي قد تخال أنه مأخوذ من مجلات التصميمات الداخلية المعاصرة. فالمساحة المفتوحة والألوان الجذابة والمقاعد الحديثة، كلها كانت مصممة بإتقان لتواكب الطراز الحديث في العصر الحالي.

وقد يعد “المنزل العضوي” الذي صممه المهندس المعماري والمصمم خافيير سينوسيان بالقرب من مكسيكو سيتي بمثابة إطلالة على مستقبل المعمار والتصميم. وقد استلهم سينوسيان تصميمه من النماذج الطبيعية المنحنية، مثل الفطر والصدف.

ويضم المنزل أول سقف في العالم، مغطى بالكامل بالأزهار والحشائش والشجيرات. وصمم المنزل من الداخل على غرار الكهوف. ويقول سينوسيان في الكتاب: “لا يوجد في الطبيعة خطا مستقيما، كل شيء متعرج وحلزوني”.

أما منزل فنان الخزف والنحت كاواي كانجيرو، في كيوتو باليابان، فيعد بمثابة نصب تذكاري يخلد أعماله الفنية. وقد شارك كانجيرو في تأسيس حركة مينجي للفنون والحرف اليدوية التقليدية اليابانية في مطلع القرن العشرين.

ويجمع منزل كانجيرو، الذي كان ثمرة تعاون بين كانجيرو وبين أخيه المهندس المعماري، بين الطراز الريفي البسيط وبين الأناقة الحضرية المعاصرة، ويعكس بوضوح شغف صاحبه بإثراء المهارة اليدوية التقليدية بالتقنيات الحديثة. ويحوي المنزل نماذج منسقة ومرتبة بعناية من الأعمال الفنية التقليدية المتواضعة والبسيطة التي تحتفي بها حركة مينجي، والتي تتميز بألوانها الطبيعية المستمدة من البيئة وتصميماتها البسيطة.

وكشأن منازل سائر الفنانين، يعطينا هذا المنزل لمحة عن مشاعر صاحبه وأفكاره وآرائه.

وكالات