أربعة أسباب دفعت أردوغان للمُجاهرة بعزمه الإنضِمام إلى مُعسكَر التطبيع مع “إسرائيل”.. ما هي؟
وهل ستُؤدّي هذه “المُقامرة” لكسر عُزلته فِعلًا؟ وكيف سيكون ردّ فِعل “الإخوان المسلمين” و”حماس” والإسلام السّياسي عُمومًا؟ ولماذا سيكون نِتنياهو الكاسِب الأكبر من هذا “الانقِلاب”؟
السياسية :
فجّر الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان قنبلةً سياسيّةً، ربّما تكون هي الأكبر، بين نظيراتها السّابقات، عندما أعلن أنّ بلاده ترغب في عُلاقات أفضل مع إسرائيل، وكشف أنّ مُحادثات على المُستوى الاستخباري مُستمرّة في الوقت الرّاهن وجرى نشر تسريبات إسرائيليّة صحافيّة بكثافةٍ تقول إنّ أنقرة وتل أبيب باتا على وشَك إعادة تبادل السّفيرين اللذين جرى سحبهما عام 2018 بسبب تصاعُد العُدوان الإسرائيلي على قِطاع غزّة.
هذه النّوايا التطبيعيّة العلنيّة التي عبّر عنها الرئيس أردوغان يوم أمس كان لها وقع “الصّدمة” على حركات الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، وخاصّةً حركة “الإخوان المسلمين” التي تعتبره “القُدوة” والإمام، والحائط المتين في مُواجهة خطوات التّطبيع المُتناسلة في العالم العربي، وما عزّز هذا الانطِباع الموقف الرافض القويّ الذي اتّخذه الرئيس التركي ضدّ الحُكومات العربيّة المُطبّعة في الإمارات والبحرين والسودان، وهدّد بسحب سفيره من أبو ظبي احتِجاجًا.
من المُفارقة أنّ هذه “المُجاهرة” التركيّة بالرّغبة في تطبيع العُلاقات مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي، جاءت بعد أن أقدم حزب العدالة والتنمية المغربي الذي يُوصَف بأنّه أحد فُروع حركة “الإخوان” وأكبرها في الاتّحاد المغاربي على تأييد تطبيع العُلاقات المغربيّة الإسرائيليّة، وقام السيّد سعد الدين العثماني، رئيس الوزراء، بتوقيع اتفاقيّات التطبيع شخصيًّا، جنبًا إلى جنبٍ مع مائير بن شبات، رئيس الأمن القومي الإسرائيلي، الأمر الذي أحدث “صدمةً” في أوساط مُعظم الإسلاميين، تعزّزت بعد دعم السيّد عبد الإله بن كيران، رئيس الوزراء السّابق للحزب والحُكومة، هذه الخطوة التطبيعيّة وأشاد بها.
التّطبيع بين تركيا ودولة الاحتِلال الإسرائيلي عَميقُ الجُذور، ولم يَكُن وليد السّاعة، ويعود إلى عام 1949 عندما اعترفت الحُكومة التركيّة في حينها بقِيام دولة إسرائيل وتبادلت العُلاقات الدبلوماسيّة معها، ورغم توتّر هذه العُلاقات عام 2010 بسبب العُدوان الإسرائيلي على سفينة مرمرة التي كانت تحمل مُساعدات إنسانيّة إلى قِطاع غزّة، ممّا أدّى إلى استِشهاد عشرة من النّشطاء الذين كانوا على ظهرها، فإنّ التّعاون الاستِخباري بين البلدين لم يتأثّر مُطلقًا، والشّيء نفسه يُقال عن العُلاقات الاقتصاديّة، حيث وصل حجم التّبادل التّجاري إلى حواليّ عشرة مِليارات دولار سنويًّا في عام 2019، وكانت شركات الطّيران التركيّة تقوم بأكثر من 60 رحلة أسبوعيًّا إلى مطار تل أبيب، وكانت إسرائيل مصدر صفقات السّلاح الرئيسيّة لتركيا، وبلغت هذه الصّفقات ذروتها بعد اجتِياح الجيش التركي لشِمال قبرص عام 1974 عندما فرضت الولايات المتحدة والدول الأوروبيّة حظرًا على بيع السّلاح لتركيا احتِجاجًا.
هُناك العديد من التكهّنات حول الأسباب التي دفعت الرئيس أردوغان إلى كسر “محظوراته” السّابقة، والتوجّه لتعزيز العُلاقات مع دولة كان يَصِفها حتى الأمس القريب بأنّها “مارقة”، و”مُجرمة” تقتل أبناء الشّعب الفِلسطيني وتُجوّعهم حتى الموت، ويتبنّى حركة “المُقاومة الإسلاميّة “حماس” سياسيًّا، ويفتح أبواب بلاده على مِصراعيها أمام قِيادتها، ويُمكن إيجازها في النّقاط التّالية:
أوّلًا: الشّراكة الاستراتيجيّة المُتسارعة والمُعمّقة بين الرئيس إلهام علييف، رئيس أذربيجان، وحليفه رجب طيّب أردوغان، وهي الشّراكة التي تعزّزت أثناء حرب إقليم “قرة باخ” حيث أرسل أردوغان قوّات ومَعدّات عسكريّة ثقيلة وطائرات مُسيّرة (بيرقدار) لدعم حليفه علييف الذي يُقيم عُلاقات تحالفيّة وثيقة جدًّا مع “إسرائيل” في الوقت نفسه التي دعمته في الحرب نفسها، ويتردّد أنّ الرئيس علييف هو الذي قام بدور الوِساطة بين أردوغان ونِتنياهو لتطبيع العُلاقات.
ثانيًا: الرئيس أردوغان يُواجه عُقوبات اقتصاديّة مُزدوجة: من أمريكا على أرضيّة شِرائه منظومات صواريخ “إس 400” الروسيّة، ومن الاتّحاد الأوروبي الذي يدعم اليونان وقبرص في النّزاع الحُدودي المائي المُتعلّق بمخزونات الغاز والنّفط، ويعتقد الرئيس التركي أنّ اللّوبي اليهودي في أمريكا وأوروبا يُمكن أن يُساعده في منع، أو تخفيف، هذه العُقوبات.
ثالثًا: بخسارة الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسيّة الامريكيّة الأخيرة، وفوز جو بايدن خصمه الذي يدعم المُتمرّدين الأكراد وقضيّتهم، بات الرئيس أردوغان بحاجةٍ إلى الحليف الإسرائيلي ونُفوذه للوقوف إلى جانبه في أيّ صِدامٍ قادمٍ مع الإدارة الأمريكيّة الجديدة التي يُتوقّع أن تدعم خُصومه، وخاصّةً الداعية فتح الله غولن، المُتّهمة حركته بالوقوف خلف الانقِلاب العسكري الأخير.
رابعًا: في ظِل تواتر عمليّة تطبيع حُكومات عربيّة مع إسرائيل، وخاصّةً في الخليج، قرّر الرئيس أردوغان استِغلال هذه الفُرصة للانضِمام إلى هذه المسيرة، في الإقدام على هذه الخطوة، ومُحاولة تطبيع عُلاقاته ليس مع إسرائيل فقط، وإنّما مع بعض الدول العربيّة والخليجيّة الأُخرى مِثل السعوديّة ومِصر، وكان لافتًا أنّه لم ينتقد، ولو بكلمةٍ واحدة، خطوة التّطبيع المغربيّة الأخيرة، رغم أنّه لا يَكِنّ الكثير من الوِد للمغرب، ومحور ارتِكاز عُلاقاته مع دول الاتّحاد المغاربي هي الجزائر، وبدَرجةٍ أقل تونس.
تبادل عودة السّفراء، وزيادة حجم التّبادل التّجاري، وتعميق العُلاقات التركيّة الإسرائيليّة سيكون عُنوان المرحلة المُقبلة، ولكن هل سيُؤدِّي هذا “الانقِلاب” إلى حُدوث تغيير في سِياسة “تركيا أردوغان” تُجاه حُلفائه، وخاصّةً حركات الإسلام السّياسي، والإخوان المسلمين، وحركة “حماس” تحديدًا؟
اللّافت أنّ حركة “حماس” التي انتقدت الحُكومات العربيّة المُطبّعة بشَراسةٍ، وآخِرها الحُكومة المغربيّة، لم تُعلّق لو بكلمةٍ واحدة على إعلان النّوايا التركيّة التطبيعيّة وعلى لِسان الرئيس أردوغان نفسه، فهل هذا يعني أنّها لم تُفاجَأ بالخطوة التطبيعيّة التركيّة، أو كانت على عِلمٍ مُسبَقٍ بها؟
وهُناك سُؤال آخَر هو: هل يكون هذا التّطبيع التركي الإسرائيلي مُقدّمة، أو غِطاء، لتطبيع قطري إسرائيلي أيضًا باعتِبار أنّ قطر أكبر حُلفاء أردوغان في المِنطقة؟
لا نملك إجابات مُحدّدة على هذه التّساؤلات، ولكنّنا لا نَستبعِد أن يُؤدّي هذا التّطبيع التركي الرسمي المُتسارع مع إسرائيل إلى اهتِزاز مكانة الرئيس أردوغان في أوساط حُلفائه الإسلاميين أو مُعظمهم، وربّما حُدوث انقِسامات في حركات الإسلام السّياسي في العالم الإسلامي، والشّرق أوسطيّة تحديدًا، وظُهور تيّارين، الأوّل يستمرّ في البقاء تحت المِظلّة الأردوغانيّة بذريعة “البراغماتيّة”، والثّاني الانشِقاق عن المرجعيّة التركيّة، وتبنّي استراتيجيّات مُتشدّدة، وهذا ما يُذكّرنا بالسّيناريو المُماثِل الذي حدث في مِصر بعد توقيع اتّفاقات كامب ديفيد بطريقةٍ أو بأُخرى، حيث انشقّت حركات عديدة مِثل الجِهاد الإسلامي، والجماعة الإسلاميّة المُقاتلة.
ربّما أراد الرئيس أردوغان من خِلال هذه الخطوة التطبيعيّة مع “إسرائيل” التي تتناقض مع كُل أدبيّاته ومُعتقداته المُعلَنة، أن يَكسِر عُزلته الإقليميّة والدوليّة، ولكنّه أقدم على الخطوة الخطَأ في رأينا، التي قد يكون هو شخصيًّا أكبر ضحاياها لأنّه قد يَفقِد ما تبقّى له من أصدقاء، ودُون أن يَكسِب الأعداء، وما أكثرهم، ولا نعتقد أنّ إسرائيل ولوبيّاتها ستَغفِر له، وتتجاوز عداءه، وإخراجه من أزَماته الحاليّة بالتّالي، وستُحاول ابتِزازه بأقصى قَدرٍ مُمكن للحُصول على ثمنٍ باهظ في المُقابل.. واللُه أعلم.
* المصدر : افتتاحية (رأي اليوم)
* المادة التحليلية تم نقلها حرفيا من المصدر ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع