فيولا مخزوم*

تُعدُّ مهارات القرن الحادي والعشرين التي ظهرت في العام 2002، من المهارات المُهمّة والهادِفة إلى دعم الطلاب في الحياة الجامعيّة والعمليّة، وقد برزت أهميّة هذه المهارات من خلال الإعلان الصادر عن الشراكة التي تمَّت بين مؤسَّسات التربية في الولايات المتحدة الأميركيّة ومجموعة من المؤسَّسات التجارية كشركة مايكروسوفت (Microsoft)، والرابطة القومية للتربية (The National Education Association)، وقد أصبحت هذه الشراكة من أهمّ قادة تنمية وتعليم مهارات القرن الحادي والعشرين في العالم بحسب نورتون وآخرون (Norton & others, 2014). نتجت أيضاً من هذه الشراكة خمسة أدلَّة في النُظُم الداعمة للتعليم، وهي: المعايير، والتقويم، والتنمية المهنية، والمناهج وطُرُق التدريس، وبيئات التعلّم، عِلماً أنّ مهارة التعلّم والإبداع تتكوَّن من مهارات الإبداع والابتكار، ومهارات التفكير الناقد وحلّ المشكلات، ومهارات التواصُل الفعَّال بحسب (Meka& others,2015).

إنّ حاجة الإنسان إلى التفكير أمرٌ حياتي يُلازمه في جميع حياته، وهو عملية ذهنية ناشِطة ومتواصِلة يقوم بها الفرد ما دام عقله يعمل. لذلك، فإنّ الإنسان، وفي ظلّ التقدّم السريع والمُتطوّر الذي يُرافق نمط الحياة التي نحياها في القرن الحادي والعشرين، بحاجةٍ إلى نمط التفكير الإبداعي، عِلماً أنّ مفهوم الإبداع يتقاطع مع مفهوم الابتكار من ناحية النتيجة؛ فكلٌّ منها يهدف إلى تطوير نظام الحياة الإنسانية. والإبداع من أبرز المزايا العقلية، وقد ساعدت تلك الميزة البشرية على التطوّر منذ أقدم العصور عن طريق حلّ المشكلات، وإيجاد الطُرُق لسدّ الحاجات الأساسية، وتوفير إمكانيات الرفاهية. وقد حدَّد العُلماء عدَّة مستويات للإبداع، منها الفردي الذي يعتمد على الخصائص الفطرية للإنسان كالذكاء بأنواعه والمواهب المختلفة، والإبداع الجماعي القائم على التعاون بين عدَّة أفراد لتطبيق الأفكار على أرض الواقع وتغيير الأشياء إلى الأفضل، وغيرها من أنواع الإبداع المُرتبطة بطريقة حياة الإنسان الحديث؛ ومن أجل أن تأخذ هذه الإبداعات في التفكير صوَراً وأنواعاً عدَّة تشمل الموهبة والعطاء والإبداع، تحدَّث بعض المُفكّرين كتيلور ورفاقه عن أنواعٍ عدَّة لمثل هذه الإبداعات، وكذلك تحدَّث كلٌّ من(Corazza& all, 2010) ومن هذه الأشكال:

– الإبداع التعبيري: وهو يضمّ النشاطات العفوية والحرّة كالأداء الموسيقي عند لويس (Louis).

– الإبداع الفنّي: ونقصد به كفاءة عملٍ ما كالموهبة في إنتاجٍ مُعيَّن، مثل إنتاج أنطونيو (Antonio) لآلة الكمان.

– الإبداع الخلاّق: ويمثّل براعةً في إنتاج مجموعة نادرة من العلاقات خلال المواد أو الأشياء كاختراع أديسون (Edison) المصباح الكهربائي.

– الإبداع المُفاجىء: ويتضمَّن تثبيت المعرفة، والمبادىء، والافتراضات التابعة لنوعٍ مُعيَّنٍ من المعرفة، كما في أعمال أينشتاين (Einstein).

– الإبداع المُتجدِّد: ويعتمد على مقدرة الفرد على التَغَلْغُل في فَهْم أساسيّات ومبادىء صُنِعَت من قِبَل آخرين كألفرد آدلير(Alfred Adler).

إذاً ما هي سِمات المُبدعين السلوكيّة؟

يتمتَّع المُبدعون بصفاتٍ شخصيّة، وعقليّة، ونفسيّة يتشاطرونها وقد تكون بدرجاتٍ مُتفاوتة. فالشخص المُبْدِع لديه حبّ الاستطلاع، والاستفسار، والحماسة، والمُثابرة في حلّ المشكلات من خلال الرغبة لديه في التقصّي، والاكتشاف، والفضول الشديد، وحبّه لتعلّم أمورٍ جديدة حتى ولو لم تكن في مجال عمله؛ فقد ترى شخصاً رسَّاماً، أو أديباً مُبْدِعاً لكنه يقرأ في مجالات الفلك، أو العلوم، أو غيرها، الأمر الذي يشير إلى أنّ العمل المُبْدِع ليس سوى حصيلة لمجموعةٍ من المعلومات المُتوافِرة مُسْبقاً. يُلاحظ أيضاً عند الشخص المُبْدِع انخفاض السِمات العدوانيّة لديه، وتقبّله للآخر، واحترامه للآراء المختلفة والثقافات المُتعدِّدة. يتميَّز المُبْدِع أيضاً بطرحه الأسئلة النوعيّة والمفتوحة القابلة للحوار العقلي الناضِج من خلال الاستقلاليّة في طرح الأفكار النابعة لديه من الدافعيّة الذاتيّة، وحبّ الاستقصاء، ومعرفة الحقائق، ولعلَّ أهمَّ ما يُميِّز المُبْدِع أيضاً سرعة بديهته في الملاحظات التي يُبديها، وتفهّمه لكل ما يحيط به من مواقف وظواهر، وهو في الوقت نفسه تقليدي ومُتحرِّر،لأنّه شخص يُقدِّر الماضي ويحاول في الوقت عينه البحث عن طُرُقٍ لتحسينه، فضلاً عن أنّه شخص مُتحفِّظ لكنَّه قد يقوم بمُجازفاتٍ في بعض الأحيان؛ وعلى الرغم من ميله إلى الهدوء والسكينة، إلا أنّه يتمتَّع بقوّةٍ وطاقةٍ بدنيّةٍ عالية تُمكّنه من العمل لساعاتٍ طويلةٍ من دون فُقدان التركيز والحماسة اللذين يقودانه.

من المُلفت أيضاً في الشخص المُبْدِع أنّه يمزج ما بين الخيال والواقع، وهذا ما يجعله يحوِّل الخيال إلى واقعٍ ملموس. فالأفكار التي يطرحها الشخص المُبْدِع، سواءً في مجال الفن أم العِلم، قد تبدو للشخص التقليدي غير واقعيّة وأقرب إلى الخيال، لكن بعد فَهْمِها واستيعابها، تبدو له واقعيّة. هو قادر أيضاً على المَزْج بين الانفتاح والانغلاق، أي إننا نجد دوماً من الناس مَن يُحب أن يكون بين الزُحام ووسط الأشخاص، ومَن يُحب أن يكون في الهامش وبعيداً عن الناس، ولكنّ الشخص المُبْدِع وبشكلٍ ما يتمكَّن من المزج بين الصفتين.

من السِمات الشخصيّة أيضاً للشخص المُبْدِع هي التواضع، والخجل، والسبب في ذلك، أنّه يعلم ما هو عالم الإبداع ويُدرك مساهمات المُبْدعين التي سبقته والتي أوصلته إلى ما هم عليه الآن، فضلاً عن أنّه يهتمّ بالآخرين ويُراعي مشاعرهم لأنّه يعلم تماماً أنّ ما يُقدِّمه بحاجةٍ إلى جمهور. وقد قال أحد أبرز مُبدعي القرن العشرين إرنست هيمنغواي في هذا الإطار إنه “تعلَّم الكثير من استماعه للآخرين؛ فمعظم الأشخاص لا يستمعون”، كما نُقِل عنه (Cherry, 2018).

أما عُلماء الإدارة فقد حدَّدوا خصائص المُبدعين بالقول، إنّ الشخص المُبْدِع يجب أن تتوافر في شخصيّته، خصائص مُعينَّة بحسب دراسة (Agnoli& All, 2018) وفقاً للتقسيمات التالية:

الخصائص العقليّة

يشعر الإنسان المُبْدِع بالمشكلة من حوله، أكانت هذه المشكلة صغيرةً أم كبيرةً، ولو عدنا بالزمن إلى الوراء، لوجدنا أن الإبداعات كانت في الأشياء البسيطة، وذلك عندما استشعر البعض بوجود مشكلة تُعيق عملهم كالدّفع بالأحجار الثقيلة على الأرض لإيصالها إلى المكان المنشود، ما دفعهم إلى اختراع العَجَلة التي سهَّلت عليهم نقل هذه الأحجار عملاً بقاعدة “الحاجة أمّ الاختراع”، أي أنّ المُبْدِع، بعد استشعاره المشكلة، يقوم بدراستها من كافّة الجوانب، لا سيّما الأسباب التي دفعت إلى وجودها، وإمكانيّة وضع الحلول وتنفيذها. وهو يتمتَّع بالمرونة والتكيُّف، فتجده يتعلَّم من أخطائه ويعمل على عدم تكرارها، ويتمكَّن من معرفة الأسباب الكامِنة وراء الخطأ الذي ارتكبه، محاولاً الاستفادة من هذه التجربة قَدْر الإمكان. فضلاً عن ذلك، هو إنسان مُنْصِت لنصائح مَن هم أكثر خبرةً منه ومُسْتَمِعاً إلى ملاحظاتهم للاستفادة منها، ويستثمر الانتقادات التي توجَّه إليه لكي يستفيد منها في تطوير نفسه، ليقينه أنّ الإنسان بطبعه خطَّاء، وقد يُخطئ من دون أن يعلم.

الخصائص الوجدانيّة، والاجتماعيّة، والدافعيّة

يتمتَّع الإنسان المُبْدِع بالدافعيّة القويّة لاكتشاف المعرفة وممارستها من أجل تحقيق الإنجازات في العديد من النواحي الحياتيّة كالتعليم، والعمل، وحتى الحياة الاجتماعيّة الخاصّة به. فتجده يعيش حياةً مُتكامِلةً من النجاحات عبر تحقيق الذات من خلال تمتّعه بأنماطِ تفكيرٍ خاصّة به نابعة من استقلاليّته في إصدار الأحكام نتيجة الثقة بالنفس العالية التي يتمتَّع بها. هذا ويتحمَّل الإنسان المُبْدِع مسؤوليّته تجاه ما يقوم به من أعمال، أو تجاه ما يصدر عنه من نتائج علميّة. أمّا في ما يتعلَّق بتعريف الابتكار، فقد تعدَّدت وفقاً للمدارس الفكريّة، ووجهات نظر الباحثين، واتجاهاتهم، حيث تمَّ تعريف الابتكار وفقاً لاعتباراتٍ عديدة، بناءً على السِمات المُحدّدة للشخصيّة، عقليّة كانت أمْ وجدانيّة، ومن أبرز هذه التعاريف:

لقد عرَّف سيمبسون الابتكار (عام، 2009، ص. 50) على أنّه “ما يُبديه المرء من قُدراتٍ للتخلّص من نمط التفكير العادي، واتّباع نهجٍ جديد في التفكير”. وأشار أيضاً إلى أنّه عند الاهتمام بالابتكار، يجب البحث عن الأشخاص الذين يمتلكون العقول القادرة على البحث والتطوير والتأليف، وأنّه عند مناقشة موضوع الابتكار ومعناه، يجب أخذ الخيال، والاختراع، والاكتشاف وحبّ الاستطلاع بعين الاعتبار. وقد ورد عن جيلفورد أنّ الابتكار يشتمل على مجموعةٍ من السِمات العقليّة كالمرونة والطلاقة”.

أمّا بحسب تشيرميرهورن، فالابتكار، كما استشهد به (الدريني 2001، ص.161) هو”إيجاد أفكارٍ جديدة وخلاّقة، ومن ثمّ تطبيقها وممارستها، وقد خَلُصَ إلى توسيع مفهوم الابتكار ليبدأ من الفكرة، ومن ثمّ تطبيقها لتنتقل إلى حيِّز الإنتاج والممارسة، قبل طرحها في السوق لتدخل حيِّز التنافس”.

استناداً إلى التعاريف السابقة، يُمكننا القول إنّ الإنسان المُبْتَكِر يتميَّز بقُدرته على اعتماد أسلوب الوعي واللاوعي في تحديد أهدافه، ويمتلك قُدرةً مثالية وغير مألوفة على حلّ المشكلات، بالمُقارنة مع باقي الشخصيات. يتميَّز أيضاً بوعيه بجوانب المشكلات التي يمرّ بها، فضلاً عن امتلاكه القُدرة على اعتماد المُصطلحات، والتعبير بطلاقة، والقُدرة على إقناع الأشخاص بحلول المشكلة بشكلٍ مُبسَّط. هذا ويتَّصف الشخص المُبْتَكِر بليونة الأفكار، والتي تُعتبَر من أهمّ مزايا المُبْتَكِر، بالإضافة إلى قوّة الذاكِرة لديه.

ما هي معوِّقات الابتكار والإبداع؟

يواجه الإبداع والابتكار العديد من المُعوّقات، لكنّ أبرزها يكمُن في التردّد، والخَجَل، وعدم ثقة الفرد بنفسه، وخوفه من تكرار الخطأ، ما يجعله فاقِد القُدرة على تحديد أهداف ووسائل حلّ المشاكل التي تعترضه. هذا ويجعل الخوف من الخروج عن المألوف، كالعادات والتقاليد المجتمعيّة، الفرد مُكبَّل اليدين، خاصّةً إذا انعدمت عوامل التّحفيز لديه. ففُقدان الطموح والحماس واللامُبالاة يؤدّيان إلى تأجيل الفرد المهام التي يريد تنفيذها أو إلغاءها كليّاً. هذه العوامل قد تحوِّل الفرد المُبْدِع إلى شخصٍ آخر يعمل ضمن منهجيّة أشخاصٍ آخرين، مُتّبِعاً نهجهم الخاص، ومن خلال التعرّف على مهارة الإبداع والابتكار أنّها تُساعد على خلق فَرْص عملٍ جديدة للشخص الذي يمتلكها، وبالمُقابل تنعكس إيجاباً على المجتمع ككلّ عبر تحسين الإنتاج والخدمات للمؤسَّسات مهما كانت طبيعة عملها، فضلاً عن تطوير هذه الخدمات والمُنتجات بواسطة الابتكارات والتطوّرات التي سوف تُحسِّن منها. نلاحظ أيضاً من خلال هذه المهارة أنّها تُساعد على التغيير والتجديد، ما يرفع من الروح المعنويّة لمَن يمتلكها ويستفيد منها. أضف إلى هذه المهارة مهارة جديدة تُساعدها وتُساندها وتُعزِّز منها، وهي مهارة التفكير الناقِد وحلّ المشكلات.

لماذا كتبنا عن الإبداع؟ ولماذا هذا الاهتمام به؟

بكلِ بساطةٍ لأن الإبداع يقود إلى التجديد، والتجديد يُساهم في تقدّم المجتمعات والدول، والأفراد والمؤسَّسات وحتى الدول يمكن أن نُصنّفهم ضمن قسمين، قسم مُتقدِّم وسائر في رَكْبِ التطوّر، وهؤلاء المُبْدِعون، وقسم وقف وقنع ورضي بما عنده، هؤلاء الأتباع المُقلِّدون.

من هنا نستنتج أن مهارة الإبداع تصنع العجائب وهي ليست قوَّة غامِضة أو موهبة خارِقة يمتلكها الأشخاص ذو الحظ السعيد، بل يُعْتَبر الإبداع طاقة يمتلكها كل إنسانٍ بدرجاتٍ مُتفاوتة، ويمكن لكلِ شخصٍ أن يكتسب هذه المهارة ويصبح من المُبٍْدعين، والإبداع هو كفاءة وطاقة واستعداد يكسبه الإنسان من خلال تركيز مُنظَّم لقُدراته العقلية وإرادته وخياله وتجاربه ومعلوماته، كما يُعدُّ سراً من أسرار التفوّق في ميادين الحياة، ويُمكِّن صاحبه من كشف سُبُل جديدة في تغيير العالم الذي يُحيط بنا والخلاص من المَلَل والتكرار.

لقد أصبح الإبداع المادة الأساسية في عمليات التغيير والتطوير، وقد تغلَّب على المعرفة والأساليب لأن كليهما أصبح ممكناً، ومن أجل التمكّن من استخدام الإبداع يجب التخلّص من الغموض الذي يكتنفه واعتباره طريقة لاستخدام العقل ومُعالجة المعلومات والبيانات.

قائمة المصادر والمراجع

الدريني، حسين عبد العزيز، (2001). الابتكار: تعريفه وتنميته. قطر: مجلة عِلم النفس. العدد (09). ص.ص. 162-163.

عامر، طارق عبد الرؤوف، (2009). الاتجاهات الحديثة لرعاية الموهوبين والمُتفوّقين. مصر: المكتبة الأكاديمية.

Agnoli, S., Runco, M. A., Kirsch, C., &Corazza, G. E. (2018). The role of motivation in the prediction of creative achievement inside and outside of school environment. Thinking Skills and Creativity, 28, 167-176.

Cherry, Kendra (29-8-2018), “10 Characteristics of Creative People “، www.verywellmind.com, Retrieved 7-10-2018. Edited.

Corazza, G. E., Pedone, R., &Vanelli-Coralli, A. (2010). Technology as a need: Trends in the evolving information society. Advances in Electronics and Telecommunications, 1(1), 124-132.

Meka, D. P., Müller-Rischart, A. K., Nidadavolu, P., Mohammadi, B., Motori, E., Ponna, S. K., & Miesbauer, M. (2015). Parkin cooperates with GDNF/RET signaling to prevent dopaminergic neuron degeneration. The Journal of clinical investigation, 125(5), 1873-1885.

* المصدر : الميادين نت