الجزء الثاني : إيران والسعودية: وهم الصراع الديني
بقلم: ناثان ديريديك*
( موقع “لو فون سو ليف- Le vent se lève” الفرنسي- ترجمة: أسماء بجاش, الإدارة العامة للترجمة والتحرير الأجنبي “سبأ”)
في الثالث من يناير 2016، أعلنت المملكة العربية السعودية وإيران عن قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما.
وعلى الرغم من أن هذا التدهور المفاجئ في العلاقات بين القوتين العظميين في المنطقة لم يكن يُـنْـظَر إليه باعتباره صاعق او مفاجئ لأحد؛ وذلك نظراً لكون العلاقات بين الرياض وطهران كانت بعيدة كل البعد عن أن تكون في حالة جيدة.
إذ تُعارض كل من الدولتين الأخرى من الناحية السياسية والدينية على حدٍ سواء في منطقة مُبتلاه بصراع الطائفي.
هل ينبغي لنا إذاً أن ننظر إلى الحرب الباردة بين السعودية وإيران باعتبارها منافسة دينية؟
رغم أن المتغير المذهبي لا ينبغي أن يُهمَل، فإنه أبعد ما يكون عن كونه المعيار الرئيسي الذي يُفسر الخصومة بين القوتين الإقليميتين تحت ستار صراع واضح بين السُنة والشيعة, فإن الصراع الدائر بين السعودية وإيران جغرافي سياسي في المقام الأول، حيث تخوض الدولتين حرب نفوذ في المنطقة.
التهديد الحقيقي: الهلال الشيعي أم الوهم السعودي ?
إن الاستراتيجية التي يتبناها النظام الإيراني في دعم الحكومات والكيانات الشيعية خارج حدودها تسمح لها، إن لم يكن تصدير ثورتها، بتوسيع نفوذها إلى حد كبير في المنطقة.
كانت الحكومات السُنّية تشعر بالقلق إزاء ظهور هذا “الهلال الشيعي”, وقد استخدم هذا المصطلح لأول مرة في العام 2004 من قبل العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، الذي كان يخشى ظهور منطقة نفوذ شيعي تمتد من إيران إلى لبنان والعراق وسوريا.
واليوم, وبعد ستة عشر عاماً، يتعين علينا أن ندرك مدى صحة كلامه.
فمن بيروت إلى الحدود العراقية الأفغانية، أصبح الشيعة في موضع قوة، وهم يتمتعون باستمرارية إقليمية معينة.
لقد تحول الهلال الشيعي إلى واقع جيوسياسي ملموس, وفي مواجهة هذا التهديد، تبدو السعودية في حالة من الانزعاج وتنطلق في هيئة قوة موحدة للكتلة السُنّية.
ولكن إدانة هذا الخطر يخدم أيضاً مصالح الرياض, وبالتالي فإن السعودية تعتبر نفسها زعيمة للعالم العربي الإسلامي, وذلك من أجل أن تصبح رأس الحربة للأغلبية السُنّية.
فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من أصالة الهلال الشيعي، إلا أنه لا يشكل بأي حال من الأحوال كتلة متجانسة.
إذ تتباين التيارات الطائفية: الحوثيين الزيديين في اليمن، والشيعة الإثنا عشرية في إيران، والعلويين في سوريا، وبهذا, لا يقف كل الشيعة متحدين خلف الراية الإيرانية.
والواقع أن التحالفات التي تم تشكيلها بين شركاء الشيعة تستند في المقام الأول إلى مصالح استراتيجية متبادلة, تذكروا أن الدول ليس لديها أصدقاء، إذ ليس لديها سوى مصالح فقط.
منافسة اقتصادية تحت علامة الذهب الأسود:
ولا ينبغي لنا أن نتجاهل مصارعة الذراع الاقتصادية في السعودية وإيران, وفي هذا الصراع يحمل السلاح المتميز اسم: النفط.
يذكر أن الرياض وطهران من بين أكبر منتجى الذهب الأسود في المنطقة وقد شاركت في إنشاء منظمة الأوبك في العام 1960.
ولكن في أعقاب قمة كراكاس المنعقدة في العام 1977، أصبحت منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) منحازة إلى جانب السعودية التي يعارض مذهبها في الإنتاج النفطي العقيدة الإيرانية.
ففي ثمانينيات القرن العشرين، زادت السعودية من إنتاجها من النفط و تلاعبت بالأسعار لفرض الضغوط على إيران.
وعلاوة على ذلك، بدءاً من تسعينيات القرن الماضي، أضافت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارة الأميركية ضغوطاً إضافية على صادرات طهران من النفط.
كان لرفع هذه العقوبات في أعقاب اتفاقية فيينا الموقعة في منتصف العام 2015 سبباً في استفزاز الرياض التي كانت تخشى أن يحل الاقتصاد الإيراني محل اقتصادها.
والواقع أن الاقتصاد السعودي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بـ صادراته النفطية، حيث تتمتع طهران بمداخلات اقتصادية أكثر تنوعاً.
إن زيادة إنتاج إيران من النفط من شأنه أن يضعف المملكة الوهابية إلى حد كبير، وهذا يعني بالتالي دعم استئناف إدارة ترامب للعقوبات.
و كعلامة على أهمية النفط بالنسبة للاقتصاد السعودي، أجبر الهجوم المذكور أعلاه على اثنين من منشآتها النفطية في منتصف سبتمبر 2019, الرياض على خفض إنتاجها من النفط إلى النصف.
وعلى الرغم من أن الحوثيين أعلنوا مسؤوليتهم عن هذا العمل، فإن السعودية والولايات المتحدة لم تترددا في اتهام إيران بأنها من يقف وراء هذا العمل – وهو ما نفته طهران دوما- وبالتالي التلويح بفرض عقوبات جديدة.
الجغرافيا السياسية قبل الدين:
إذا كانت إيران والسعودية تستخدمان الدين في سياق هذه الحرب الباردة، فمن الواضح أن موقعها الجيوسياسي لا يأخذ في الاعتبار دائماً حساسياتهما الطائفية.
أولا، دعونا نشير إلى الدعم الإيراني الثابت للقضية الفلسطينية, حيث أكد آية الله الخامنئى مجددا في مايو الماضي أن النضال من أجل تحرير فلسطين واجب اسلامى.
ورغم أن طهران لا تقيم علاقات مع السلطة الفلسطينية، فإنها واحدة من أكثر حلفاء حماس قيمة؛ وعلى هذا فإن السلطات الإيرانية تقدم المساعدات المالية والعسكرية للمنظمة في حربها ضد إسرائيل.
ولهذا تُعتبر حركة حماس طفلة طهران المدللة في المنطقة, بالرغم من كون حماس حركة سُنّية بحته، مثل الغالبية العظمى من الفلسطينيين.
وبالتالي فإن الموقف الإيراني يتجاوز الانقسام السُنّي- الشيعي بهدف جمع المسلمين تحت راية تحرير فلسطين.
هنا يتم تجاهل الفوارق الدينية، بمعنى أن العلاقة التي تربط بين إيران وحركة حماس تقوم على دوافع سياسية واستراتيجية.
وعلى النقيض من ذلك، بدأت السعودية، رغم أنها سُنّية، في التحول تدريجياً بعيداً عن القضية الفلسطينية.
ورغم أن العلاقات بين الرياض وتل أبيب لم يتم تطبيعها بعد، إلا أنها أصبحت الآن أكثر دفئاً مما كانت عليه من قبل.
قامت البحرين والإمارات وهما اثنتان من الأنظمة البترومونية السنية، بتطبيع العلاقات مع الدولة العبرية في سبتمبر 2020.
وإذا كان الأمر يبدو معقداً من الناحية السياسية بالنسبة للرياض, إلا أنه كان عليها أن تخطو هذه الخطوة حتى لو كان الموقف محفوفًا بالمخاطر، فلا شك أنها من يقف وراء قرارات المنامة وأبو ظبي.
فلماذا إذاً هذا التقارب بين هذه الدول ذات الحكومات السُنّية وإسرائيل؟ لماذا اختاروا التخلي عن القضية الفلسطينية؟ مرة أخرى، فأن الدوافع التي تكمن وراء كل ذلك هي دوافع جيوستراتيجية.
وبالنسبة للممالك السُنّية في منطقة الخليج، لم يعد التهديد الإقليمي الرئيسي هو إسرائيل، بل أصبح التهديد الإقليمي الرئيسي يكمن في إيران الشيعية.
وبسبب عداء إسرائيل تجاه طهران وقوتها العسكرية التي لا يمكن إنكارها، فإن من مصالحتها نسج تقارب مع الدولة العبرية وأن كان على حساب القضية الفلسطينية.
في ناغورني كاراباخ، أثناء المواجهات العسكرية الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان في الفترة من سبتمبر إلى نوفمبر من هذا العام, دعت إيران الجانبين إلى وقف الأعمال القتالية، في حين عرضت الوساطة, ولكنها كانت تريد أن تكون أقرب إلى الجانب الأرميني.
إيران تحافظ على علاقاتها الوثيقة مع أرمينيا المسيحية، في حين تشعر بالقلق إزاء أذربيجان الشيعية.
وعلى الرغم من أن إيران وأذربيجان تتبعان ذات النهج الديني، إلا أن العلاقات السياسية بين البلدين قد اتسمت بالاحتقان الشديد.
كما تتبنى طهران وجهة نظر سلبية حول العلاقة الأخوية التي تربط باكو – العاصمة الأذربيجانية – مع النظام التركي.
إذ لم ترق لها اتفاقيات بيع الأسلحة – بما في ذلك استخدام الجيش الأذربيجاني للطائرات الإسرائيلية بدون طيار في ناغورني كاراباخ- بين أذربيجان وإسرائيل.
وأخيرا، في مواجهة القومية الأذربيجانية، تخشى طهران من زعزعة الاستقرار في شمال البلد، حيث تعيش أقلية أذربيجانية*.
وفي المقابل، أبرمت إيران العديد من الاتفاقيات السياسية والتجارية مع أرمينيا، لاسيما فيما يتعلق بصادرات النفط والغاز.
الانتماءات الطائفية لا تقف حاجزاً في وجه المصالح السياسية والجيوستراتيجية.
حرب ستبقى باردة؟
لا تزال التوترات الإيرانية السعودية التي تعصف بالجغرافيا السياسية في منطقة الشرق الأوسط مستمرة.
فهذه التوترات لم تكن وليدة اللحظة, حيث تعود أصولها إلى العام 1979 الذي شهد قيام الثورة الإسلامية في إيران.
ثم عادت هذه التوترات إلى ظهور مرة أخرى مع التدهور المستمر الذي صاحب فترة ثورات الربيع العربي التي جابت المنطقة.
وفي العام 2016, بلغت هذه التوترات ذروتها, بعد الهجوم على البعثات الدبلوماسية السعودية في إيران, مما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
إلى أي مدى قد يقودنا هذا التنافس؟ هل من الممكن نشوب حرب مفتوحة بين إيران والسعودية؟
ففي بداية العام 2020، كانت عملية الاغتيال التي نفذتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الجنرال قاسم سليماني، وهو شخصية بارزة في فيلق القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، سبباً في إثارة المخاوف من اندلاع أعمال العنف في المنطقة.
وبينما كان الرد الإيراني على هذه العملية استهدف القواعد الأمريكيّة في العراق, فقد ظل العالم يحبس أنفاسه, ولكن وقف التصعيد كان فورياً.
ومن جانبها, أعلنت إيران أنها انتقمت, في حين لم ترغب الولايات المتحدة في الرد، وفي المقابل, سارعت السعودية إلى الدعوة إلى ضرورة ضبط النفس.
وكان من شأن الصراع بين إيران والولايات المتحدة أن يقود السعودية الحليف القوي لواشنطن، حتماً إلى ساحة المعركة.
تجمع روسيا وإيران علاقات جيدة, حيث أنها لم تكن راضية في حال اندلاع نزاع كبير في المنطقة.
وعلى الرغم من الخلافات بينهما والحرب بالوكالة التي يخوضونها في الدول المجاورة، إلا أن الرياض وطهران تريدان الحد من أي مواجهة مفتوحة.
ففي وقت مبكر من العام 2019، حَذَّر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان من “الانهيار الكامل للاقتصاد العالمي” إذا ما ذهبت إيران والسعودية في الطريق المؤدية إلى الحرب، خاصة وأن نتيجة مثل هذا الصراع سوف تكون أكثر من غير مؤكدة.
تتمتع الرياض منذ فترة طويلة بموقع قوة في المنطقة، واليوم تفقد السعودية مكانتها و زخمها لصالح النظام الإيراني.
والواقع أن اعتمادها المفرط على النفط وعدم قدرتها وعجزها على التغلب على الحوثيين من أهم الأسباب التي أدت إلى إضعاف هذا الاقتصاد إلى حد كبير وتقويض ادعاءاتها المهيمنة.
تعتمد الرياض على العقوبات الأمريكية للحفاظ على أقصى قدر من الضغط على عدوها الإيراني، الذي على الرغم من فرض تلك العقوبات عليه, إلا أنه أبعد ما يكون عن الاختناق.
ولكن فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها الولايات المتحدة في 3 من نوفمبر المنصرم, قد يغير الموقف، حيث وقد أعلن عن اعتزامه إعادة الولايات المتحدة إلى سابق عهده فيما يخص الاتفاق النووي الإيراني الذي تم المصادقة عليه في العام 2015, الذي سبق وأن انسحبت الإدارة الأمريكية منه في ظل ولاية الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب.
وفي حين ترحب الإدارة الإيرانية بهذا النصر بحذر، فإنها تدعو جو بايدن إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات الإيرانية الأميركية.
وليكن هذا هو ما قد يحدث الآن، فإن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الاستمرار في علاقة الخصومة مع إيران.
بل إن الأمر على العكس من ذلك، فلديهم مصلحة في الاقتراب من العملاق الفارسي قبل أن يقع في أحضان الصين، حتى ولو كان هذا الأمر يعني الإساءة إلى الرياض.
وفي المقابل, لن تكون الخصومة والعداء مع إيران أبدية، في الوقت الذي يلوح في الأفق شبح الحرب الصينية – الأميركية.
وبالتالي، فإن رفع العقوبات وتنفيذ الاتفاق النووي خلال الأمد البعيد, يمكن أن يسمح لإيران بأداء جيد والعودة إلى الطليعة بميزة جيوسياسية قوية.
لا يتبقى لنا إلا أن نرى كيف قد يكون رد فعل المملكة العربية السعودية، التي كانت تعتمد على إعادة انتخاب الرئيس الجمهوري ترامب ولن تقبل بنفس السهولة التقارب الافتراضي بين إيران وأميركا في ظل إدارة بايدن.
وعلى هذا الأساس، تستطيع الرياض أن تعتمد على حليف للظروف والمتمثل في إسرائيل.
ومن جانبها, فإن الدولة العبرية، المعادية للاتفاق النووي الإيراني، تشاطر نفس المخاوف وتحاول الضغط على إدارة بايدن المستقبلية، حتى أنها ذهبت إلى حد القول بأن موقف المرشح الديمقراطي بايدن قد يؤدي إلى مواجهة مفتوحة بين طهران وتل أبيب.
وعلى هذا فإن إعادة دمج الولايات المتحدة في الاتفاق النووي الإيراني من شأنه أن يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية وأن يغلق باب التقارب الإسرائيلي السعودي.
والدليل على ذلك, الاجتماع السري الذي حضره وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو المعروف بعدائه الكبير تجاه طهران, والذي جمع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في 22 من نوفمبر المنصرم.
وفي الواقع, لم يتوج بعد جو بايدن على عرش الإدارة الأمريكية بعد، ولا يزال بإمكان ترامب أن يزيد من الضغوط على طهران, حيث فرضت الولايات المتحدة للتو عقوبات جديدة على إيران.
وسوف تتابع كل من المملكة العربية السعودية وإيران عن كثب الفترة الانتقالية المضطربة التي تمر بها الولايات المتحدة حتى موعد تنصيب بايدن في يناير القادم، على أمل الاستفادة منها.
في هذا الصراع الذي يخفي طبيعته الحقيقية، ولا يُظهر هويته علانية، فإن المخاطر والرهانات لم تنتهي بعد.
ولكن في حين لا يستطيع أحد أن يجزم على وجه اليقين بأي من المملكة العربية السعودية أو إيران قد تفوز بهذه الحرب الباردة، فلا شك أن خاسرها العظيم لن يكون سوى الانسجام الطائفي في المنطقة.
* ناثان ديريديك: محامي ومحلل دولي استراتيجي.
* الأقلية الأذربيجانية :هم إيرانيون من أصل أذري يتواجد معظمهم في شمال غرب إيران أي محافظات أذربيجان الشرقية، وأجزاء من أذربیجان الغربیة وبأعداد قليلة في محافظات أخرى.
* المادة الصحفية تم ترجمتها حرفياً من المصدر وبالضرورة لا يعبر عن رأي الموقع.