نزف العقول.. مقارنة بين “إسرائيل” والأنظمة العربيَّة
تشجّع مواقف البنك الدوليّ على ظاهرة هجرة العقول العربية ويعلّل ذلك بأن هؤلاء العلماء والمهاجرين يرسلون إلى ذويهم عملة صعبة تحتاجها بلادهم.
أليف صباغ *
وفقاً لمصادر عربيّة، ويبدو أنَّها تأتي في الغالب نقلاً عن مصادر مراكز البحث التابعة للبنك الدولي، تعدّى عدد المهاجرين العرب إلى دول أخرى، وغالبيتهم إلى دول الغرب، 30 مليون إنسان، بينهم علماء، تحصل الولايات المتّحدة وكندا وبريطانيا على 75% منهم.
كما تشير التقارير إلى أنَّ 100 ألف عالم وطبيب ومهندس يهاجرون سنوياً من 8 دول عربية، وهناك 50% من الأطباء العرب يهاجرون من أوطانهم، و23% من المهندسين، و15% من الكفاءات الأخرى.
وتشير معطيات “اتحاد المصريين في الخارج”، على سبيل المثال، إلى أنّ عدد العلماء المصريين في الخارج يبلغ 86000 عالم وأكاديمي، منهم 1883 في تخصّصات نووية نادرة، و42 رئيس جامعة حول العالم، فهل تكفي هذه المعطيات لتقضّ مضاجعكم؟
في مراجعة لموقف البنك الدوليّ، نراه يشجّع على هذه الظاهرة، معللاً ذلك بأن هؤلاء العلماء والمهاجرين “يرسلون إلى ذويهم عملة صعبة تحتاجها بلادهم”، وكأنّ أوطانهم وشعوبهم لا تحتاج إلى العلماء أنفسهم، ولا تخسر مئات المليارات التي أنفقتها على تعليمهم وتربيتهم حتى أصبحوا قادرين على الإنتاج، أو كأن أوطانهم لا تخسر فرصاً ذهبية للتطور العلمي والتكنولوجي الذي يُنتج بطبيعته فرص عمل جديدة لعشرات الملايين من الجائعين والفقراء والمشردين في أصقاع الأرض!
يلاحظ أيضاً أن الهجرة العربية إلى الغرب لا تقتصر على الخبراء في العلوم النووية، وهم كُثر، بل تشمل كل التخصصات العلمية التي يحتاجها العصر الحديث، فهل ضاقت أوطانهم بهم، أو أنه ضعف انتماء أو تقصير من الحكام، إن لم يكن نتيجة عجزهم أو تبعيتهم أو حتى تآمرهم؟
وتشمل الهجرة الكفاءات الأخرى والأيدي العاملة المهنية التي يحتاجها الغرب في إنتاجه الصّناعيّ، ولا تجد من يستوعبها في أوطانها، ومن ثم يتمّ تصدير ما أنتجته هذه الأيدي المهنية إلى الدّول التي هاجروا منها. ومما يكسبه منهم، يقدّم الغرب بعضه للعاطلين من العمل من المهاجرين على شكل “مساعدات إنسانية”. أي مأساة قومية تلك!
تكفي هذه الأرقام كنماذج فقط لنضعها على طاولات الأنظمة العربية الحاكمة، فربما تتجرأ على أن تبحث في سبل إعادة هؤلاء إلى أوطانهم من دون أن يغتالهم أحد أو تبحث في الحد من هجرة من بقي منهم في وطنه وحمايته من الاغتيال.
لقد وصلت هذه الظاهرة، للأسف، إلى السلطة الفلسطينية، فتجد علماء “الهايتك” الفلسطينيين يعملون في تل أبيب ونتانيا وحيفا، أو يهاجرون لأنهم لا يجدون بنية تحتية وشركات وطنية أو دولية تستوعبهم، ونجد أن جزءاً كبيراً من خريجي كليات الطب في فلسطين يهاجرون للعمل في الخارج، لأن السلطة تفضّل أن تدفع مبالغ طائلة للعلاج في المستشفيات خارج السلطة، ومنها مستشفيات الاحتلال الإسرائيلي، بدلاً من الاستثمار في مستشفياتها وتغذيتها بالأجهزة والمختصين والباحثين الفلسطينيين.
وتبلغ التكاليف السنوية التي تدفعها السلطة للمستشفيات الخارجية، وفق المعلومات المتوفرة، حوالى 217 مليون شيكل، منها أكثر من 100 مليون شيكل سنوياً، أي 30 مليون دولار، لمستشفيات الاحتلال الإسرائيلي.
هذا المبلغ يكفي لإقامة مستشفى كل سنة، أو إضافة قسم تخصصي نادر إلى كل مستشفى، وتجهيزه بأفضل الأجهزة في العالم، واستيعاب أفضل الأطباء والباحثين الفلسطينيين، وهم كثيرون جداً. وحين هددت السلطة بإيقاف إرسال المرضى إلى “إسرائيل”، علا صراخ الأطباء والإدارة في مستشفى “هداسا”، لأنَّ ذلك قد يهدد مداخيل المستشفى ومداخيلهم الخاصَّة بشكل خطير. يُذكر أنّ عدداً كبيراً من الأطباء الفلسطينيين، سكان المناطق المحتلة العام 67، يعملون في المستشفيات الإسرائيلية، وخصوصاً في “هداسا”، ومنهم من عالج كبار المسؤولين الإسرائيليين.
هجرة العقول من “إسرائيل”
في المقابل، تتباكى مؤسسات البحث الإسرائيلية على خسارة علماء إسرائيليين سافروا لاستكمال دراستهم ولم يعودوا، أو وجدوا مكان عمل آخر في جامعات أو مؤسسات بحثية أو صناعية كبرى، أو عادوا إلى أوطانهم التي هاجروا منها.
وتشير إحصائيات ميزان الهجرة والعودة لمجمل الأكاديميين (ليس لتخصصات العلوم والتكنولوجيا فقط) إلى خسارة “إسرائيل” 2100 أكاديمي في العام 2019، في حين أنَّ عدد حاملي المستويات الجامعية في “إسرائيل” يصل إلى 1.8 مليون شخص، منهم 4.5% يحملون لقباً ثالثاً (دكتوراه). رغم ذلك، يتباكون على خسارة 2100 أكاديمي سنوياً.
كيف تعوّض “إسرائيل” هذه الخسارة؟
1. تخرّج الكليات والجامعات الإسرائيلية سنوياً، وفق مؤسسة “شموئيل نتمان”، أكثر من 10 آلاف أكاديمي في العلوم والتكنولوجيا (هذا لا يشمل فروع الطب والصيدلة)، إضافةً إلى 4000 خريج بدرجة الماجستير والدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا، وهو ما يكفي لسدّ النقص الحاصل في المؤسّسات العلمية والتكنولوجية، إن كان نتيجة الهجرة أو نتيجة التقاعد. ورغم ذلك، يتباكون لهجرة العقول!
2. إضافةً إلى ذلك، تستوعب “إسرائيل” سنوياً آلاف المهاجرين الجدد الذين يحمل جزء كبير منهم شهادات أكاديمية، ففي العام 2018، بلغت نسبة الأكاديميين بين المهاجرين الجدد إلى “إسرائيل” 68%. هؤلاء يشكلون قوة عاملة لم تكلف الدولة أيّ شيء، وإنما كلفت الدول التي جاءوا منها لينتجوا أو “يبيضوا” في “إسرائيل”.
هكذا، شكّل المهاجرون الروس في تسعينيات القرن الماضي أكبر قوة لدفع الاقتصاد الإسرائيلي، إذ بلغ عددهم حتى العام 2015 مليوناً و40 ألف مهاجر. ويقول عنهم بروف موشيه معوز لموقع “واي نت”: “لولا الهجرة الروسية، لبقيت إسرائيل متأخرة 20 سنة عما هي اليوم… هذه الهجرة بقواها البشرية المتعلمة والجاهزة للعمل من دون استثمار مسبق، تساوي هدية بعشرات المليارات، وهي من رفع الإنتاج والتصدير ومستوى العلوم إلى ما نحن عليه”.
ويضيف: “وصل التصدير الإسرائيلي إلى 80 مليار دولار في العام 2008. ولولا الهجرة الروسية، لما تعدى 50 مليار دولار”. إنه نموذج واحد لما قدمته الهجرة الروسية للاقتصاد الإسرائيلي وما يقدمه المهاجرون الجدد بشكل دائم.
3. من برامج “إسرائيل” الأخرى لاستيعاب العلماء وتطوير مؤسساتها العلمية والتكنولوجية هو المشاركة البحثية مع الدول والجامعات الأوروبية. وبذلك، تستفيد من الاستثمارات الأوروبية في البحوث العلمية لصالحها.
ويقول بروف دان بن دافيد من معهد “شورِش” للبحوث الاقتصادية الاجتماعية، إن 2.7% من القوى العاملة في “إسرائيل” يعملون في الصناعات الحديثة (الهايتك)، وهم أصحاب الفضل في تصدير أكثر من 40% من الصادرات الصناعية الإسرائيلية.
4. أما المصدر الثالث فهو المساعدات التي تتلقّاها “إسرائيل” من الولايات المتّحدة سنوياً، وتبلغ قيمتها بين 3 و4 مليارات دولار سنوياً، وهي قادرة على أن تستفيد من بعضها في عمليات الإنتاج المشترك بين البلدين من خلال الشركات الإسرائيلية، وبالتالي، تشغيل القوى العاملة المتخصّصة في العلوم والتكنولوجيا داخل البلاد.
ورغم ذلك، تدّعي المؤسّسات البحثية التي تخطّط لاستيعاب العلماء والحد من هجرتهم أن ما يعوق تطوير مؤسسات البحث العلمي والتكنولوجي في “إسرائيل” هو نقص الاستثمارات الحكومية وتراجع الاستثمارات من قبل “أغنياء اليهود وأصدقاء إسرائيل في أميركا”؛ هذا المصدر الذي غذى الصناعات التكنولوجية الإسرائيلي لعقود مضت برأس المال. وعليه، تطالب هذه المؤسسات الحكومة بمزيد من الاستثمارات في التعليم وفي كل المؤسسات الأكاديمية والبحثية، فمن أين يأتي الخلاص؟ هل يأتيها من دول الخليج العربية؟
يقول التقرير السنوي الصادر عن “الأكاديمية الوطنية للعلوم في إسرائيل” للعام 2016: “إن تطوير منظومة البحث العلمي ورعاية الرأسمال البشري للوصول إلى أعلى المستويات هو تحدٍ وجودي لدولة إسرائيل”. وعليه، ليس صدفة أن معهد “التخنيون” للعلوم التطبيقية أقيم بقرار من المنظمة الصهيونية في العام 1905، أي في السنوات الأولى لإقامة الحركة الصهيونية، وكذلك أقيمت الجامعة العبرية في العام 1920، أي قبل إقامة هذا الكيان بفترة طويلة. لقد حددوا أهدافهم وأدواتهم جيداً. وعليه، لاحظنا الإجماع الصهيوني على تأييد ما سمي “اتفاق أبراهام” بين “إسرائيل” والإمارات والبحرين، رغم كل الخلافات السياسية وغيرها بين الأطراف المتنازعة على الحكم.
وقد رأت صحيفة “إسرائيل اليوم” في هذا الاتفاق “باباً واسعاً للاستثمار الخليجي في صناعات الهايتك الإسرائيلية”، الأمر الذي يعزز الاقتصاد، ويجذب مزيداً من المهاجرين الجدد من اليهود، ويحدّ من هجرة العقول الإسرائيلية.
لقد تضمّن الاتفاق إقامة صندوق استثماري بمبلغ 3 مليار دولار، لتوظيفها في تطوير صناعات “الهايتك”، والتزمت شركة الاستثمار “فينكس” الإماراتية بموجب الاتفاق مع الشركة العالمية “OurCrown”، ومركزها في “إسرائيل”، وهي المساهم الأساس في شركات “الهايتك” الإسرائيلية، بأن تعمل “فينكس” على تجنيد رؤوس أموال خليجية خاصة وعائلية للاستثمار في صناعات “الهايتك” الإسرائيلية، وكذلك في مبادرات العلماء المبتدئين “ستارت أب”.
وهكذا، يُسد النقص الحاصل في الاستثمارات الحكومية أو اليهودية الأميركية، وتُعزز مكانة “إسرائيل” في الشرق الأوسط والعالم، في حين أن الأنظمة العربية لا توظف استثماراتها في العلم والعلماء والتطور التكنولوجي في أوطانها، خوفاً من غضب سيدها في البيت الأبيض، على اعتبار أنّه أولى بهذا الأموال وبما تفيض به خزائنها، أو جهلاً وتخلفاً يميّز غالبية الحكام العرب والمسلمين التابعين للولايات المتحدة.
لا بدَّ من النظر إلى الأسئلة التالية:
لماذا يقلقكم أن تستثمر إيران في العلم والعلماء والتكنولوجيا الحديثة، ولا تقلقكم سيطرة “إسرائيل” على شبكات “السايبر” العربية لدول الخليج؟ وإذا كان مليون مهاجر روسي إلى “إسرائيل” في التسعينيات رفع مستوى التصدير إلى أكثر من 60% مما كان عليه، فيمكننا أن نتصور أي خسارة تخسرها البلدان العربية الثمانية بهجرة 30 مليون إنسان إلى الدول الأخرى.
وإذا كانت الهجرة اليهودية السنوية إلى “إسرائيل” تقدر ربحاً صافياً لها بمليارات الدولارات، لأن هؤلاء المهاجرين تربوا وأُعِدوا للعمل على حساب بلدانهم الأصلية، وجاءوا ليُنتِجوا أو “يبيضوا” في القنّ الإسرائيلي، من دون تكاليف مسبقة، فكم ستبلغ خسارة الاقتصاد العربي جراء هجرة القوى العاملة العربية – العقول العلمية والأيدي المنتجة – وهي تغادر أوطانها بالملايين سنوياً؟!
وإذا كان 2.7% من العاملين في “إسرائيل” يصدّرون أكثر من 40% من الصادرات الصناعية في “إسرائيل”، فكم خسرت المجتمعات العربية بخسارة أكثر من 10% من قواها العاملة القادرة على الإنتاج؟
كيف يمكن أن تتطوّر المجتمعات العربية لتحدّ من خطر هجرة الشباب العاطلين من العمل؟ ماذا تفعل لاستيعاب العلماء وذوي الكفاءات من جميع الاختصاصات لإيقاف هذا النزيف القاتل للمجتمعات، في ظل غياب الاستثمارات في التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، ومن دون استثمارات في المختبرات ومراكز الأبحاث والمستشفيات وصناديق المرضى؟ كيف يمكن استيعاب العلماء في التكنولوجيا الحديثة من دون الاستثمار في مصانع الإنتاج الصناعي الحديث والمدني والعسكري والغذائي والدوائي؟ كيف يمكن استيعاب العامل والموظف المهني في وطنه من دون وجود المصنع والمزرعة الحديثة والمؤسسات الأخرى؟ هل ينقص العرب مال للاستثمار؟ لماذا يذهب المال العربي لتطوير الصناعات الإسرائيلية، وليس لتطوير العلوم والتكنولوجيا عند العرب؟ هل تنقصهم عقول بشرية أو ينقصهم الاستقلال والسيادة في أوطانهم؟
عندما تبقى العقول العلمية في أوطانها، تبقى الكفاءات الأخرى والأيدي العاملة أيضاً، وهي أساس ازدهار الأمم.
* المصدر : الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع