وفاء العم*

يقترب العالم العربي من إنهاء عقد على اندلاع الفوضى، أو ما اصطلح عليه بـ”الربيع العربي”، أو ما أرادت له الشعوب أن يصبح ربيعاً، فتحول إلى صراع مترامي الأطراف لم ينتهِ بعد.

في الخليج، غيّرت 10 سنوات وجهه في الداخل والخارج. وعلى الرغم من أنه لم يشهد تغيراً مباشراً، كما حصل في العديد من الدول العربية، كسوريا ولبيبا واليمن وغيرها، ولكن ارتدادات المرحلة أحدثت تغيرات جوهرية وعميقة في هذه الدول؛ تغيرات ناعمة لم يدخل فيها العامل الخارجي على الخط بشكل مباشر، بل كان التغيير تدريجياً، وعلى مراحل، في إطار التحولات الحادة التي شهدتها – وما زالت تشهدها – المنطقة.

هذه التحوّلات فرضت معادلات جديدة وتغييرات طالت بنية العلاقات السياسية الدبلوماسية والداخلية لهذه الدول، ما أحال الخليج الموحّد في أمنه وسياساته إلى خليج منقسم على نفسه ومتخاصم وغير منسجم. باختصار، الخليج لم يعد يشبه نفسه.

على رأس هذه التحولات، خروج خلافات الأشقاء من الأروقة إلى العلن، أبرزها كان القطيعة مع قطر. والحقيقة أن جوهر الخلاف كان يدور حول مسألة الأمن.

بدأت الأمور تتضح أكثر بعد إزاحة الإخوان المسلمين من المشهد في مصر. وبينما اختارت الدول الثلاث، السعودية والإمارات والبحرين، دعم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كانت قطر تقف كتفاً بكتف مع أنقرة على النقيض، وذلك في دعم الإخوان المسلمين الذين حققوا صعوداً سريعاً وغير متوقع، بدءاً من تونس وانتقال العدوى إلى مصر وحضورهم القوي في المشهد الليبي، وكاد المشهد يكرر نفسه في سوريا، ما دق جرس الإنذار خليجياً بصعود “العثمانية الجديدة” في المنطقة.

على إثرها، اختار الخليج الانعطاف في سوريا عبر دعم فصائل مسلحة في مواجهة فصائل الإخوان المسلمين، ودعم الرئيس السيسي في مصر وخليفة حفتر في ليبيا، خشية وصول النار إلى أعتابهم، نظراً إلى وجود تيارات إخوانية قوية ذات حضور شعبي في الداخل. وما صب النار على زيت تلك المخاوف هو اعتقادهم بوجود دعم أميركي لهذا الصعود.

توقّع الأشقاء ركوب قطر قاطرة هذه الانعطافة، إلا أن الأخيرة ركبت القاطرة التركية عوضاً عن ذلك، ما تسبب في انقسام خليجي حاد؛ انقسام وضع الدوحة في مواجهة مع الثلاثي الذي حمل على عاتقه مواجهة مشروع الإخوان المسلمين وقطع الطريق أمام تمكينهم السياسي الذي يعني ضمناً تمدد النفوذ التركي.

هذا الانقسام أخلَّ بالتماسك الخليجي من الداخل، فأصبح المشهد عبارة عن دول متحالفة في وجه قطر، ودول آثرت الحياد وعدم الانخراط في المشروعين، ونتحدث هنا عن الكويت وعمان اللتين التزمتا بسياساتهما الدبلوماسية التقليدية.

ورغم محاولات الضغط المتكررة على قطر، منها “وثيقة الرياض” التي وقعها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 في العاصمة السعودية، بحضور الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز آنذاك وأمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، والتي تقضي بـ”الالتزام بالمبادئ التي تكفل عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول مجلس التعاون بشكل مباشر أو غير مباشر”، فإن هذا الضغط لم ينجح في فك ارتباط الدوحة بأنقرة، بل أدى إلى تعميقه، خشية انقضاض إخوة الجغرافية عليها، في سيناريو شبيه بمحاولة انقلاب 1996.

في الحقيقة، إن الخلاف القائم والمستمر حتى اللحظة ليس خلافاً بينياً من شأنه أن يبقى في الغرف المغلقة، كما كان يحصل في الماضي، بل هو خلاف استراتيجي في وقت يجري الحديث عن إعادة تشكيل المنطقة وتوزيع النفوذ فيها. وبما أن اللاعب التركي ليس لاعباً يستهان به سياسياً وإيديولوجياً، ونظراً إلى الخلفية التاريخية لعلاقة الأسر الحاكمة في السعودية والخليج بالدولة العثمانية، إذ إن هذه الأسر تحالفت مع البريطانيين ضد العثمانيين، واستمدت قوتها ووجودها من هذا التحالف، فإنه يمكن فهم حساسية السماح لموطئ قدم لتركيا في الخليج، فكيف بقاعدة عسكرية مقرها قطر غير المحبوبة سعودياً أصلاً! إنه أمر تعتبره الرياض بمثابة شوكة في خاصرتها.

ربما من الجيد التذكير بالتغريدة التي أعاد وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد نشرها في حسابه في العام 2017، وهي تغريدة لدكتور عراقي قال فيها: “إن الأتراك سرقوا أغلب مخطوطات المكتبة المحمودية في المدينة المنورة، هؤلاء أجداد إردوغان وهذا تاريخهم مع المسلمين العرب”، في إشارة إلى فخر الدين باشا. استفزت التغريدة إردوغان، فردَّ بالقول إن فخر الدين لقب بـ”أسد الصحراء” لشجاعته، ودافع عن مدن إسلامية في وجه قبائل عربية كانت تتعاون مع البريطانيين ضد العثمانيين.

وبين إرث الماضي ومعطيات الواقع، يمكن القول إن الخلاف الخليجي بما يحمله من أبعاد سياسية واسترايجية وتاريخية، بات ملفاً شائكاً ومرهوناً بتسوية الملفات الإقليمية المتصارع عليها في المنطقة بين تركيا والسعودية والإمارت.

ورغم أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أجرى اتصالاً بالملك السعودي سلمان بن عبد العزيز على أعتاب قمة العشرين، وتم الاتفاق على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة بين الطرفين، في مؤشر استقرأ فيه البعض إمكانية لحل الأزمة الخليجية مع قطر، فإن أي تسوية لا تضع الصراع الإقليمي وامتداداته في الحسبان، لن تخرج عن كونها تسوية أو صلحاً شكلياً أو مرحلياً، فأي تسوية تطرح ستجرّ معها العديد من التساؤلات، أبرزها: هل تعود قطر إلى القاطرة الخليجية؟ وهل تسحب تركيا قاعدتها من قطر؟ هل التفاهم تركي سعودي إماراتي أم أن أنقرة تتطلع إلى التفاهم مع الرياض وعزل أبو ظبي؟ هل ستسمح الإمارات بأي تسوية بمعزل عنها؟! على ماذا سيتم التفاهم؟ وأي تنازلات ستقدم؟ مشهد يبدو الخوض فيه كمن يسير بين الألغام والشوك.

ولكن في المحصّلة، الخليج لم يعد موحداً حول مسألة أمنه، فقطر تجد أمنها بالتحالف مع تركيا ومشروعها في المنطقة، ويعود ذلك إلى وجود نفوذ إخواني قوي متمكّن ومؤثر في مراكز اتخاذ القرار في الدوحة، كما أنها تجنح أكثر نحو الحوار والتصالح مع إيران، فيما ترى الدول الثلاث أن أمنها بخوض المعركة في مواجهة التركي في المناطق التي يحاول فيها فرض نفوذه، بالتوازي مع مواجهة الإيراني عبر التحالف مع “إسرائيل”، التي لم تتوقع أن يكون الخليج بوابتها الأولى للتطبيع مع العالم العربي، بعد أن كانت هذه الدول متمسكة بالمبادرة العربية التي طرحتها المملكة العربية السعودية، انسجاماً مع الموقف العربي المنحاز إلى قضيته الأولى والمركزية، ألا وهي القضية الفلسطينية.

أما الكويت وعمان، فما زالتا متمسّكتين بسياستيهما التقليديتين في عدم الذهاب بعيداً في الخصومة مع إيران أو تركيا، وإفساح المجالات أكثر للدبلوماسية لتقوم بدورها. هذا المشهد يوازيه مشهد صعود قيادة الصف الثاني في أغلب الدول الخليجية، بدءاً من قطر، بعد تسليم الأمير خليفة بن حمد آل ثاني الحكم لابنه تميم في العام 2013، والذي كان حينها يبلغ من العمر 33 عاماً، وهو أمر فتح الشهية لنظرائه لتولي السلطة.

في الإمارات، لمع نجم ولي العهد محمد بن زايد، الذي طالما وصف بالرجل القوي ومهندس الصعود السريع للدبلوماسية الإماراتية، ويقال إنه الحاكم الفعلي للبلاد بعد مرض أخيه الشيخ خليفة بن زايد قبل 6 سنوات.

محمد بن زايد وصفه الرئيس الأميركي باراك أوباما في مذكراته مؤخراً “أرض الميعاد” بالقائد الأكثر دهاء في الخليج، فمنذ توليه القيادة عملياً، شهدت السياسية الخارجية الإماراتية تحولاً كبيراً، وكأنه أحدث قطيعة مع سياسات الماضي.

امتدّ التغير نحو الشقيقة الكبرى السعودية منذ وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز، وتولي الملك سلمان مقاليد الحكم في المملكة، وتمكين نجله محمد بن سلمان بصفته ولياً للعهد، كأول ولي عهد من الجيل الثاني من أحفاد عبد العزيز، بعد إزاحة كل المنافسين له من الجيل من الأول، وعلى رأسهم الأمير محمد بن نايف.

محمد بن سلمان الذي صعد اسمه في السنوات الأخيرة كحاكم فعلي للسعودية، أحدث بدوره قطيعة مع الدبلوماسية التقليدية للمملكة، منتهجاً سياسات خارجية أكثر تشدداً وأقل دبلوماسية. ولا يمكن استثناء عمان بعد رحيل السلطان قابوس بن سعيد وتولي السلطان هيثم بن طارق، إضافة إلى رحيل رجل الدبلوماسية أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح وتولي نواف الأحمد الصباح مقاليد الحكم.

إنه الخليج الجديد؛ خليج منقسم بجيل جديد متحالف مع “إسرائيل”، ومن الصعب التنبؤ بخياراته ومآلاته. إنها مرحلة سيتذكرها التاريخ جيداً.

* المصدر : الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع