العمليات الإستشهادية – أحمد قصير نموذجًا: صدمة واستنزاف للعدو
جهاد حيدر*
اذا كانت بعض المحطات في تاريخ الشعوب وحركات المقاومة، تستوجب التوقف عندها لدراسة نتائجها ودلالاتها، فإن مناسبة ذكرى أمير الاستشهاديين، الشهيد احمد قصير، الذي دمَّر مقر الحاكم العسكري لجيش العدو في منطقة صور في 11/11/1982، تقع في مقدمة هذه المحطات، خاصة وأن آثارها المدوية توزعت على أكثر من مجال وشكلت محطة تأسيسية في أكثر من اتجاه.
كانت ولا تزال عملية تدمير مقر الحاكم العسكري في صور، الأكبر والأضخم من حيث نتائجها، في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، حيث أدت في أقل الاعترافات الإسرائيلية إلى مقتل 76 ضابطًا وجنديًا، وسقوط عشرات الجرحى. لكن ميزتها لا تقتصر فقط على هذه الفرادة التي تتمتع بها، وانما تنطوي أيضًا على أكثر من ميزة خاصة في أكثر من سياق.
أتت هذه العملية الاستشهادية في أعقاب اجتياح جيش العدو لأغلب الاراضي اللبنانية، الذي أدى في حينه إلى هزيمة عسكرية مدوية للمقاومة الفلسطينية والقوات السورية في لبنان، وسائر الأحزاب اللبنانية، وأيضًا، بعد مجزرة صبرا وشاتيلا التي شكَّلت تتويجاً للاجتياح وهدفت، من ضمن مجموعة أهداف، إلى حفر الهزيمة العسكرية في وعي ووجدان اللبنانيين والفلسطينيين في حينه.
في المقابل، شكَّلت العملية ردًا عمليًا على كل هذا المسار، وتأسيسًا لمسار جديد من الرفض والمقاومة بهدف هدم الواقع الذي تشكَّل في حينه. لكن مفاعيل هذه العملية التأسيسية تكمن في نتائجها الاستثنائية وتوقيتها واسلوبها، وأيضا في استمرار المقاومة. فهذا النمط المتواصل من العمليات، دفع العدو إلى ادراك أن هذه العملية لم تكن استثناء (مع أنها كانت استثناء في نتائجها)، وانما كان لها امتداداتها في مستقبل حركة المقاومة.
مما يُميّز فعل المقاومة عن الحروب النظامية، أنه جهد تراكمي يهدف إلى استنزاف الاحتلال على المستويات كافة. وعادة ما تتعدد وتتدرج مفاعيل استمرار المقاومة على إرادة صانع القرار للعدو. من هنا كان استمرار المقاومة الجادة والفاعلة يُشكِّل تحدياً مفصلياً وحاسماً في تحقيق النصر. وكان جمود المقاومة، وتوقفها، قبل تحقيق أهدافها المرسومة، ليس فقط ليضيّع الأرض بل يلغي أيضاً الكثير من مفاعيل التضحيات التي سبقت، خصوصاً أن تحقيق أهداف هذا المسار التراكمي من التضحيات والانتصارات، مشروط دائماً باستمرارها كمقاومة فاعلة إلى حين نضوج ظروف التحرير.
اذا ما استحضرنا المراحل التي سبقت تحرير عام 2000، وما رافقها من تطورات سياسية وأمنية، محلية واقليمية، يتضح لنا أن استمرار المقاومة لم يكن أمراً مسلّماً به، بل كان يحتاج إلى إرادة استثنائية. فالرهان الإسرائيلي على سقوط المقاومة أو توقفها ظلَّل مراحل المواجهة كافة، وتمحور ايضا حول إمكانية أن تشيخ المقاومة مع مرور الزمن، وعلى أن تفتر همة المقاومين نتيجة طول المدة، وأن يدب اليأس في صفوف جمهورها الذي يرفدها بشبابه في ضوء تعاظم التضحيات. ولم يكن تطوّر المقاومة أمراً مفروغاً منه، بل احتاج إلى إرادة وابداع استثنائيين. ولم يكن تطور قدراتها أمراً مقدوراً عليه، بالمستوى الذي بلغه، بل احتاج إلى احتضان اقليمي حتى لحظة الانتصار، وما بعد الانتصار.
تُمثّل العمليات الاستشهادية قمة الضغط الكمي والنوعي على الاحتلال، وأكثر ما ظهر ذلك في عملية الشهيد أحمد قصير. فهي تهدف إلى قتل أكبر عدد ممكن من جنود الاحتلال في ضربة واحدة وفي لحظة واحدة، في حين أن قتلهم بأساليب تقليدية، قد يستغرق فترات متفاوتة (بحسب ظروف كل عملية). وكمثال على ذلك، أدت عملية الشهيد أحمد قصير إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، بما يتجاوز عدد قتلى جنود الاحتلال بفعل عمليات متفرقة تقليدية، لمدة أكثر من سنة، وفق اعترافاتهم الرسمية. وبمراجعة للعمليات الاستشهادية فقد كان لها وقع الصدمة على قادة الاحتلال وجنوده، وساهمت في بث الرعب وتأجيجه في نفوسهم.
بالعودة إلى تلك المرحلة، يلاحظ بالتجربة العملية، أن العمل الاستشهادي أسقط مخططات وأسس لمعادلات غيرت مجرى التاريخ. وفي مواجهة الاحتلال الإسرائيلي كان له دور أساسي في استنزاف الاحتلال وتحديدا في الفترة التي دعته للانسحاب إلى ما جرتت تسميته لاحقاً الحزام الامني.
لم يقتصر دور وتأثير العمليات الاستشهادية على جيش العدو، بل كان لها ايضا دور استنهاضي استثنائي، وهو ما يلمسه كل من يتلقى خبر تنفيذ عمليات استشهادية. بل لا يزال لاعادة استحضار هذه العملية (احمد قصير)، بعد مضي ما يقرب من 40 عاما، أثره في النفوس. وفي هذا الاطار، فقد كان للمحطات التي مرت بها المقاومة، ومن ضمنها العمليات الاستشهادية، دور أساسي في منع تحوّل الهزيمة العسكرية إلى هزيمة ثقافية ونفسية.
* المصدر : موقع العهد الإخباري
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي الموقع