هل يفكر أردوغان في إحياء الدولة العثمانية؟
السياسية:
ترى هل ننتظر من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إحياء الإمبراطورية العثمانية من جديد؟ ومن هي الدولة التالية المستهدفة من التوسع التركي؟
على خلفية انخراط الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في الأزمة الاقتصادية والإدارية، توارت مشاركتهما في الشؤون الدولية، وهو توجه عام لدى جميع دول العالم، بينما يزداد حجم المشاكل الداخلية، التي تجبر الحكومات على إعادة توجيه الموارد والاهتمام نحو مشاكل الداخل سعيا وراء حلها.
في ظل ذلك تبدو تركيا استثناء واضحا، فبعد التدخل المباشر في الصراع السوري، تدخلت في الأزمة الليبية، ثم ها هي أنقرة تتدخل الآن، وفقا للتقارير الأرمينية، في صراع قرة باغ، بينما تعلن الدولة التركية، على لسان وزير خارجيتها، عن استعدادها للمشاركة المباشرة وبشكل علني ورسمي في هذا الصراع، بل إن راديكالية الخطاب التركي غير المسبوقة، تخلق انطباعا بأن تركيا هي التي بادرت بالهجوم الأذربيجاني في قرة باغ.
فكيف يكون التوسع التركي ممكنا، في ظل غرق أنقرة في مشاكلها الداخلية؟
لا يوجد هنا أي تناقض، بل إن التوسع الخارجي في الحالة التركية هو حل لمعظم المشاكل الداخلية، ولا شك أن شخصية الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان وطموحاته تؤثر على نشاط تركيا، إلا أن العوامل الداخلية الموضوعية هي الأمر الحاسم في هذا الشأن.
فاقتصاديا، تعاني تركيا من أزمة اقتصادية طاحنة، حيث تقع الليرة التركية من بين العملات الأكثر تدهورا في العالم، والنظام المالي التركي تحت تهديد دائم بالانهيار. كذلك يعاني الاقتصاد التركي من عدم اتزان مزمن بين الصادرات والواردات بشكل خاص، حيث بلغ الرصيد السلبي مقدار 76.8 مليار دولار عام 2017، و55 مليار دولار عام 2018. وهو ما يشبه من نواح عديدة هرما ماليا بلا تدفق مستمر لرؤوس الأموال الأجنبية، وهو ما يهدد بانهيار كامل للاقتصاد في سياق الأزمة العالمية، بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات اجتماعية وسياسية، خاصة وأن المجتمع التركي منقسم بالفعل، وقد نجا أردوغان فعليا من محاولة انقلاب.
وتتمثل نقطة الضعف الرئيسية للاقتصاد التركي في واردات الطاقة، والتي بلغت أكثر من 40 مليار دولار عام 2018، حيث تحتاج تركيا بشكل ملح إلى النفط والغاز، أو على الأقل مصادر رخيصة للطاقة. ولا يمكن مقارنة احتياج وتعطش تركيا للموارد سوى بالتعطش المماثل لألمانيا واليابان قبيل الحرب العالمية الثانية، والذي كان من بين الأسباب الرئيسية في إقدامهما على التوسع.
على نطاق أشمل، فإن العجز المزمن في ميزان التجارة الخارجية وميزان الحساب الجاري يمكن حله على المدى القصير بإحدى طريقتين، إما بخفض الواردات من موارد الطاقة، أو بظهور مانحين جدد دائمين، حيث تحتاج تركيا إلى قطيع كامل من البقر الحلوب التي يمكن لها مبادلة بعض الخدمات مقابل مساعدتها المالية. وليس لدى تركيا، خلافا للخدمات العسكرية والأسلحة، الكثير لتقدمه لهؤلاء، لذلك فهي مهتمة بالتصعيد الأقصى للنزاعات بمشاركة الدول التي اختارتها لتكون من بين المانحين الجدد، وهو ما نراه في أزمة قرة باغ الراهنة.
على الجانب الآخر، تعد أذربيجان إحدى أغنى دول الاتحاد السوفيتي السابق، وبإمكانها أن تمنح تركيا أكثر من مجرد مليار دولار.
كذلك فمن بين الدول العربية، دولة قطر، التي أنقذت تركيا بالفعل من انهيار عملتها مايو الماضي بتقديم 15 مليار دولار بطريق مقايضة العملة Cross-currency swap، لكن يتعين على قطر أن تعتاد على تقديم مساعدات مثيلة باستمرار. كذلك يتعين على ليبيا ألا تأمل بانسحاب تركيا من أراضيها في وقت قريب، ولا أظن أن تركيا ستمانع في التصرف كدولة مرتزقة في نزاعات أخرى، إذا ما كان الدفع جيدا، وكان لدى تلك أو هاتيك الدولة نفط أو غاز.
العامل الثاني هو القضاء على النظام الدولي الذي ظهر بنهاية الحرب العالمية الثانية، حيث يجب على كل دولة الآن البحث عن مكانة لها، وأن تدافع عن هذه المكانة، وتلك فرصة لا تعوض لدول الصف الثاني لكي تتقدم وتحصل على مكانة في الصفوف الأولى، حيث يمكن لرفع مكانة تركيا أن تصبح محل ترحيب لحل المشاكل الداخلية.
وبما أن علاقة تركيا مع أوروبا قد وصلت إلى طريق مسدود، وتبين أن وعود عضوية الاتحاد الأوروبي لم تكن سوى خدعة، فقد حان الوقت للتحدث مع أوروبا بلغة البراغماتية والقوة، والسيطرة على الموارد التي تحتاجها أوروبا في مثل هذه اللعبة تلك هي الورقة الرابحة الكبرى لتركيا.
فعبر تركيا، يمر خط أنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا، وكذلك خط أنابيب نفط وغاز من أذربيجان. كما تعتبر السيطرة على الحقول البحرية في البحر الأبيض المتوسط ذات أهمية رئيسية بالنسبة لتركيا، لأن وجود تلك الحقول في أياد غريبة يقلل من قيمة خطوط أنابيب الغاز التركية، والسيطرة عليها يجعل من تركيا أحد الموارد الرئيسية للطاقة إلى أوروبا. في الوقت نفسه ترفع الخلافات القائمة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأوروبي وروسيا من دور المصادر البديلة للطاقة، أي تركيا. وهو أيضا ما يفسر إلى حد كبير دوافع التوسع التركي في سوريا وليبيا.
يفصل بحر قزوين أذربيجان عن البلدان الغنية بالنقط والغاز في آسيا الوسطى، والتي تقطنها “الأقوام التركية” Turkic peoples التي تشترك في الأصل واللغة والدين مع تركيا. ويجري بالفعل تطوير خط أنابيب عابر لبحر قزوين، والذي يمكنه إمداد تركيا وأوروبا بالغاز التركماني والكازاخستاني وربما الإيراني أيضا. مشكلة قرة باغ هي المشكلة الرئيسية لأذربيجان، وبعد حلها، أو على الأقل إحراز تقدم في حلها بمساعدة تركيا، ستضع الأخيرة بذلك حجر الأساس في تأسيس تحالف الأقوام التركية برئاسة أنقرة نفسها. حيث يمكن بعد أذربيجان نظريا تعزيز هذا التحالف بدول آسيا الوسطى والتركمان السوريين.
لذلك فالاصطدام مع أوروبا لا يخيف أردوغان. فبالنسبة لتركيا، يعتبر التصعيد فرصة ذهبية للخروج من النظام القديم، الذي كانت فيه خسارتها مضمونة، وليس لديها ما تواجه به ذلك. فإذا تحققت الخطط التركية، ستجبر تركيا أوروبا على أن تنسى الغطرسة والمواجهة الحالية. حقا إن الصراع سوف يكون صعبا، لكن الرهان يرتفع إلى عنان السماء.
فيما يتعلق بروسيا فإن لدى تركيا توازن صعب ما بين التعاون والمواجهة. فكان صبر الكرملين مدعوما إلى حد كبير بأهمية تركيا كطريق بديل لصادرات الغاز إلى أوروبا، لكن النشاط التركي في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي يغير التوازن تدريجيا نحو المواجهة.
من الممكن أيضا أن يؤدي توسع تركيا في آسيا الوسطى إلى صدام مع الصين، التي تطالب هي الأخرى بموارد الطاقة في المنطقة. كما أن علاقة تركيا مع الولايات المتحدة الأمريكية شأنها شأن علاقتها مع روسيا تمثل فسيفساء معقدة ومتشابكة من المصالح المتزامنة والمتضاربة. ومن المحتمل أن تصبح العلاقات الأمريكية التركية، شأنها في ذلك شأن العلاقات الدولية الراهنة، ألا يكون لها خط واضح، وأن تتناوب أو تتزامن فيها الصراعات مع التعاون في آن.
أما الدول العربية، فمن غير المرجح أن تطالب تركيا بإحياء الإمبراطورية العثمانية، أو أن يحاول أردوغان إدراج معظم الدول العربية في فلك نفوذه فيما كان يعرف بالدولة العثمانية. ولكن، وعلى الرغم من ذلك، فإن الخلافات والمواجهات والحروب مع العرب سوف تكون حتمية إذا ما تعلق الأمر بالتنافس الراهن بين تركيا ومصر على موارد البحر الأبيض المتوسط أو في حال تفاقم الوضع حول قطر.
المحلل السياسي/ ألكسندر نازاروف
المادة الصحفية تعبر فقط عن رأي الكاتب