تعز الواقعة تحت الأنقاض، كل الطرق المؤدية إلى حياة طبيعية مسدودة
بقلم: ليسي دوسيت*
لندن, 21 مارس 2020(صحيفة “ذي جارديان” البريطانية، ترجمة: جواهر الوادعي- سبأ)
ألقت الأحداث الجارية في عاصمة الثقافة اليمنية الواقعة بين الحوثيين وسيطرة الحكومة بظلالها على الحياة العامة في المدينة, فالرحلة التي كانت تستغرق خمس دقائق، أصبحت الآن تتطلب خمس ساعات.
في صراع يُطلق عليه غالباً بـ”الحرب المنسية”، تشعر مدينة تعز بأنها الأكثر نسياناً على الإطلاق.
يقول محمد صالح القيسي:”أريد أن يعرف العالم كله عن تعز, أريدهم أن يروا ما الذي كانت عليه في الأمس، وما الذي يحدث الآن, نحن نجلس على شارع مزدحم بالدراجات النارية, وعلى بعد بضعة متاجر، يشرب الشباب الشاي الساخن في حين يحملون البنادق في احضانهم ويلوحون للمارة.
عُرفت ثالث أكبر مدينة في اليمن بأنها عاصمة الثقافة, حيث يفتخر أهالي المدينة بأن لديهم أفضل الأشخاص تعليماً والذين أصبحوا أفضل المعلمين والمحامين والطيارين وغيرهم.
اما الآن تُعرف تعز بأنها أطول ساحة قتال في اليمن والأكثر تعرضا للقصف من قبل الغارات الجوية السعودية وأكثر المحافظات دموية في حرب اليمن المدمرة.
يتنافس في هذا الصراع الذي يدخل عامه السادس هذا الشهر، الحوثيين المتحالفين مع إيران ضد الحكومة اليمنية المدعومة من تحالف تقوده السعودية وتدعمه قوى عسكرية غربية.
لدى تعز مزيج قابل للاشتعال من الاقتتال الداخلي بين الجماعات المتنافسة التي يسلحها التحالف، بما في ذلك الإسلاميون السياسيون والسلفيون المتشددون الذين يتألفون من مسلحين متهمين بصلتهم بتنظيم القاعدة.
يقول القيسي وعيناه ممتلئتان بالدموع “أعرف ما كانت عليه هذه المدينة، أعرف المدرسة التي ذهبت إليها”.
إن الاهتمام بمحنة تعز قد طغى عليه القلق أكثر من مصير ساحات المعارك الأكثر استراتيجية، بما في ذلك مدينة الحديدة المطلة على البحر الأحمر.
كان آخر جهد كبير تم بذله لدفع اليمن بعيداً عن الحرب في ديسمبر 2018, من خلال مفاوضات أشرفت عليها الأمم المتحدة في ستوكهولم وتم خلالها التوصل إلى “تفاهم” فقط حول الحاجة إلى التحدث عن تعز, ولم تذهب أبعد من ذلك.
وإضافة تعز إلى قائمة التسوق الطويلة في اليمن جعلت الأمر أكثر صعوبة, يقول بيتر ساليسبري من مجموعة الأزمات الدولية: “الآن يرتبط مصيرها بصورة أكبر بكثير في لعبة شطرنج ثلاثية الأبعاد”.
في الأسابيع الأخيرة، بعد واحدة من أكثر الفترات هدوءً في هذه الحرب، كان هناك تصاعد في القتال على خطوط المواجهة الرئيسية في جميع أنحاء اليمن.
تعز هي مدينة مقسمة إلى قسمين، رمز قبيح للصراع الأوسع الذي يمزق دولة بأكملها, من أعلى جبل صبر، الجبل الشاهق في المدينة، داخل القشرة المجوفة المبطنة لما كان في السابق منتجعاً سياحياً شهيراً، هناك منظر رائع, فالمشهد الذي جذب الزوار ذات مرة يوفر الآن أفضل نقطة لفهم تضاريس تعز السياسية.
خط المواجهة يخترق المدينة من الشرق إلى الغرب، تاركاً ندبة خضراء وبنية واضحة.
تنتشر الخضرة الى الأرض القاحلة, وما وراء هذا الخط، حوالي ثلث تعز في أيدي الحوثيين الذين يسيطرون على المرتفعات المطلة على الحافة الشمالية للمدينة, والباقي تديره الحكومة.
بعد الحصول على إذن من رئيس لجنة الحي في الجانب التابع للحكومة، الذي يعرف أعضاؤه أنفسهم بأنهم “المقاومة”، نزلنا بخطوات متعرجة, محمية بظلال داكنة وجدران حجرية مليئة بثقوب الرصاص إلى ممر مهجور.
يقول أحد مرافقينا مرتدياً عمامة يمنية منقوشة و”الفوطة” التقليدية، بينما نتمشى قليلاً من الشارع المفتوح: “عائلتي مختبئة في المنزل, من يخرج يتم اطلاق النار عليه من قبل الحوثيين”.
الأسر عالقة في مرمى كلا الجانبين, فالحرب منحت لقباً جديداً لمدينة تعز: “مدينة القناصين”.
من حيث نقف، يمكننا رؤية كيف تم أخذ الحياة من المنازل التي تواجه خط النار, تشبه واجهات المباني الوجوه الحزينة ونوافذها والثقوب التي عليها, كأنها عيون سوداء.
رجل آخر يهرع يقول: “هناك شارع واحد فقط بين بيتي وتواجد الحوثيين”، مشيراً إلى الاتجاه الآخر وهو يمسك أنفاسه, كانت عائلتي خائفة للغاية، لقد غادروا”.
ما وراء هذا الزقاق، الحياة اليومية عبارة عن معركة يسيطر الحوثيون على جميع الطرق داخل وخارج تعز، باستثناء طريق واحد.
يتذكر عبد الكريم شيبان جهود التفاوض منذ سنوات: “تمت دعوتنا للعبور إلى الجانب الآخر لإجراء محادثات، لكن الاشتباكات اندلعت وأطلق الجانبان النار علينا, فالنائب الذي يرأس لجنة الطرق، تحدث مع كلا الجانبين عدة مرات وعلى مدى سنوات.
نحن نقف على ما كان ذات يوم طريقاً رئيسياً صاخباً يمتد عبر تعز الذي كان يربطها بالمدن الكبرى الأخرى بما في ذلك العاصمة صنعاء في الشمال.
يمكننا أن نرى الحواجز المعدنية الصدئة والمتضخمة مع سد الشجيرات للطريق على مسافة قصيرة, فالسكان داخل هذه المدينة ليس لهم علاقة بالسياسة أو الحرب, إنهم يريدون ببساطة العيش ويحتاجون إلى طريق”.
تتفق داليا نصر من مبادرة “نساء تعز من أجل الحياة”: “لقد جعل الحصار الحياة صعبة ومميتة.”
إنها مدركة للخطر, حيث تسببت رصاصة قناص بإصابة واحدة من عينيها بالعمى خلال الاشتباكات, كما قُتلت خالتها وشقيقان لها وابن أختها.
تشرح نصر كيف أن إغلاق الطرق يقسم الحياة إلى قسمين: المرضى المصابين بأمراض مزمنة لا يمكنهم الوصول للمستشفيات المتخصصة, والطلاب لا يمكنهم الوصول إلى جامعاتهم، كما لا يستطيع العمال الذين يعيشون في الجانب الحكومي الوصول إلى المصانع المتركزة بشكل رئيسي في المنطقة الخاضعة لسيطرة الحوثيين, كان الوصول إلى الجانب الآخر من تعز على بعد خمس دقائق بالسيارة الآن يستغرق الأمر أكثر من خمس ساعات.
نحن نأخذ هذا الطريق الذي يعانق الجبال ويصطدم على طول مسار ترابي من خلال أشجار النخيل المرتفعة ويمر عبر نقاط التفتيش التي تديرها مجموعات متنافسة, لم يتم منحنا إذناً من سلطات الحوثيين لقضاء بعض الوقت في الجانب الآخر.
كل من نلتقي به في تعز يتذكر ما حدث له كما لو كان بالأمس, يقول مروان بغضب واضح: “لا أحد يهتم بنا”, واقفاً وسط أنقاض منزله، حيث مات عشرة من أقاربه جراء غارة جوية شنتها قوات التحالف بقيادة السعودية, حدث ذلك قبل خمس سنوات, واليوم البيت ومروان لا يزالان محطمين.
“حتى يومنا هذا لم نتلق أي تفسير من السلطات المحلية أو الجيش أو التحالف, ما زلنا لا نعرف لماذا ضربوا حياً مليئاً بالمدنيين”.
وفقاً للأرقام التي جمعتها الأمم المتحدة ومصادر البيانات الأخرى بما في ذلك مركز النزاع المسلح ومشروع تحليل بيانات الأحداث, تسببت الضربات الجوية التي قام بها التحالف غالباً باستخدام قنابل بريطانية أو أمريكية في سقوط أكبر عدد من الضحايا المدنيين في تعز وساحات المعارك الأخرى في جميع أنحاء اليمن.
يتذكر مروان: “كان الهجوم عدوانياً للغاية واستغرق منا ستة أيام للعثور على الاشلاء, بحثنا عنها في المنازل المجاورة وفي الشوارع وعلى الأسطح, كما لقي ثمانية من جيرانه حتفهم في نفس الهجوم.
أصر مسؤول حكومي يمني يرافقنا على زيارة منزل دمره الحوثيون, تم الترحيب بنا من مجموعة من الأطفال, فتاة صغيرة ترتدي فستاناً أحمراً مخملياً، ذات ضفائر بارزة, إذ تشبه النسخة اليمنية لبيبي ذات الجوارب الطويلة (هي شخصية خيالية من سلسلة قصص الأطفال)، تبدأ في الحديث عن الهجوم الذي قتل زميلتها في المنزل المجاور.
سرعان ما تصل زهرة، والدة الصبي، مع صور بيانية من ذلك اليوم المشؤوم, منزلهم لا يزال عبارة عن فوضى من النوافذ والجدران المحطمة.
تقول زهرة بمرارة أن “الجميع باعوا اليمن من أجل مصلحتهم الخاصة, الحوثيون يعملون مع إيران ونصف المقاومة تعمل مع السعودية والنصف الآخر مع الإمارات العربية المتحدة”.
إنه رثاء ليس فقط بشأن الأطراف المتحاربة الرئيسية، ولكن أيضاً المناوشات بين القوات المحلية التي دربتها وسلحتها الدول العربية التابعة للتحالف.
قصة زهرة هي قصة حرب اليمن, توفي ابنها الأصغر في الضربة الأولى، وقتل ابنها الأكبر بالرصاص في وقت لاحق، وفقدت ابنتها عينها, وجُن زوجها بسبب الحزن, إنهم يرون هذه الأزمة الكبيرة تحدث لنا ولا أحد يفعل أي شيء.”
عند مغادرتنا، تسرع الزهراء بعدنا بخبز يمني طازج وهو تذكير، إذا لزم الأمر، أنه حتى هذه الحرب التي لا ترحم لا يمكن أن تسحق شخصاً مثقفاً ولطيفاً.
* ليسي دوسيت: مراسلة دولية ومذيعة في ” بي بي سي”.
* المقال تم ترجمته حرفياً من المصدر وبالضرورة لا يعبر عن رأي الموقع.