بقلم: ميدي بنجامين – نيكولاس ج. ديفيز

واشنطن، (موقع “سالون” الامريكي- ترجمة : انيسة معيض – سبأ)

يصادف يوم 15 فبراير الماضي، مرور 17 عاماً منذ أن  حدثت المظاهرات العالمية الهائلة جداً ضد غزو العراق الذي كان مرتقب,  لدرجة أن صحيفة نيويورك تايمز وصفت الرأي العام العالمي بأنه “القوة العظمى الثانية”, لكن الولايات المتحدة تجاهلت ذلك وغزت العراق على أي حال.

إذن ما الذي جنينا من الآمال الهائلة في ذلك اليوم؟

لم يربح الجيش الأمريكي في حرب منذ عام 1945, ماعدا استعادة المواقع الاستعمارية الصغيرة في غرينادا وبنما والكويت، لكن هناك تهديداً  ظل يتفوق عليه باستمرار دون إطلاق المزيد من النار من فوهات البنادق والغازات المسيلة للدموع.

ومن المفارقات أن هذا التهديد الوجودي يمكن أن يقضى عليه سلميا بدون الحاجة إلى استخدام الأسلحة الأكثر خطورة والأغلى سعراً: مواطنوه المحبون للسلام.

خلال حرب فيتنام، بنى الشباب الأميركيون الذين يواجهون مشروع مسودة الحياة والموت حركة قوية مناهضة للحرب, حيث اقترح الرئيس نيكسون إنهاء مسودة المشروع كوسيلة لتقويض حركة السلام، لأنه كان يعتقد أن الشباب سوف يتوقف عن الاحتجاج على الحرب بمجرد أن يصبحوا غير ملزمين بالقتال.

في عام 1973,  تم إنهاء المسودة، تاركاً جيشاً متطوعاً منعزلاً عن الغالبية العظمى من الأميركيين من التأثير المميت للحروب الأمريكية.

على الرغم من عدم وجود مسودة وعدم ظهور حركة جديدة مناهضة للحرب – هذه المرة ذات امتداد عالمي – في الفترة بين جرائم 11 سبتمبر والغزو الأمريكي غير المشروع للعراق في مارس 2003, فأن احتجاجات 15 فبراير 2003 كانت أكبر مظاهرات في تاريخ البشرية، حيث توحد الناس في جميع أنحاء العالم على معارضة الرؤى التي لا تصدق بأن الولايات المتحدة ستشن في الواقع هجومها “الصدمة والرعب” على العراق.

شارك حوالي 30 مليون شخص في 800 مدينة في كل قارة، بما في ذلك القارة القطبية الجنوبية.

أدى هذا الرفض الهائل للحرب الذي تم إحياء ذكراه في الفيلم الوثائقي “نحن كثيرون”، إلى جعل الصحفي في نيويورك تايمز باتريك إي تايلر يعلق بقوله أن هناك الآن قوتين عظميين على هذا الكوكب: الولايات المتحدة والرأي العام العالمي.

أظهرت آلة الحرب الأمريكية ازدراءً تاماً لمنافسها الغر وأطلقت العنان لحرب غير شرعية تستند إلى أكاذيب استمرت الآن عبر العديد من مراحل العنف والفوضى منذ 17 عاماً.

ومع عدم وجود نهاية في الأفق لحروب الولايات المتحدة والحلفاء في أفغانستان والعراق والصومال وليبيا وسوريا وفلسطين واليمن وغرب إفريقيا، كما أن تهديدات ترامب بالحرب الدبلوماسية والاقتصادية ضد إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية تهدد بالانفجار في حروب جديدة، اين هي القوة العظمى الثانية الآن، حيث نحتاج إليها أكثر من أي وقت مضى؟

منذ اغتيال الولايات المتحدة الجنرال سليماني في العراق في الثاني من يناير وعادت حركة السلام إلى الشوارع، بما في ذلك الأشخاص الذين ساروا في فبراير 2003 والناشطين الجدد الصغار في السن, بحيث يتذكرن الوقت الذي لم تكن فيه الولايات المتحدة في حالة حرب.

كان هناك ثلاثة أيام منفصلة من الاحتجاج ، يوم واحد في 4 يناير وآخر في 9 يناير ويوم عالمي للعمل في 25 يناير.

جرت المظاهرات في مئات المدن، لكنها لم تحصي تقريباً الأرقام التي خرجت للاحتجاج.

الحرب غير المنتهية مع العراق في عام 2003 أو حتى تلك التي شهدت تجمعات حاشدة أصغر والتي استمرت عندما خرجت حرب العراق عن السيطرة حتى عام 2007 على الأقل.

إن فشلنا في وقف الحرب الأمريكية على العراق في عام 2003 كان مثبطاً للغاية, لكن عدد الأشخاص النشطين في الحركة الأمريكية المناهضة للحرب تقلص أكثر بعد انتخابات باراك أوباما عام 2008.

لم يرغب الكثير من الناس في الاحتجاج على أول رئيس أسود للبلد، وكان الكثيرون، بمن فيهم لجنة جائزة نوبل للسلام، يعتقدون حقاً أنه سيكون “رئيساً للسلام”.

في الوقت الذي ابدا فيه اوباما على مضض الاحترام لاتفاق بوش مع الحكومة العراقية لسحب القوات الأمريكية من العراق ووقع على الاتفاق النووي الإيراني، إلا أنه كان بعيداً كل البعد عن وصفه رئيس السلام.

لقد أشرف على سياسة جديدة لحرب سرية وبالوكالة والتي ادت إلى التقليل إلى حد كبير من الخسائر العسكرية الأمريكية، ولكنها أطلقت تصعيداً للحرب في أفغانستان، وحملة ضد داعش في العراق وسوريا ودمرت مدناً بأكملها، بزيادة عشرة أضعاف في غارات الطائرات الأمريكية بدون طيار على باكستان، واليمن والصومال، والحروب بالوكالة الدموية في ليبيا وسوريا التي تدور رحاها اليوم.

في النهاية، أنفق اوباما أكثر على الجيش وأسقط المزيد من القنابل على دول أكثر مما فعل بوش, كما رفض تحميل بوش ورفاقه مسؤولية جرائم الحرب.

لم تكن حروب اوباما أكثر نجاحاً من حروب بوش في استعادة السلام أو الاستقرار لأي من تلك البلدان أو تحسين حياة شعوبها, لكن “نظرية اوباما الهادئة والمقنعة والعمل على تغييب وسائل الإعلام للحرب جعلت حالة الحرب الأمريكية التي لا نهاية لها أكثر استدامة من الناحية السياسية من خلال تقليل الخسائر الأمريكية وشن الحرب بأقل ضجة ونقل حروب أمريكا إلى أبعد من ذلك وجعلها في الظل وأعطى الشعب الأمريكي وهم السلام في خضم حرب لا نهاية لها ونزع سلاح حركة السلام وتفكيكها فعلياً.

دعمت سياسة اوباما السرية في الحرب بحملة شريرة ضد أي شخصيات شجاعة حاولت شدها إلى النور.

جيفري ستيرلنج، توماس دريك، تشيلسي مانينج، جون كيرياكو، إدوارد سنودن والآن جوليان أسانج تمت مقاضاتهم وسجنهم بموجب تفسيرات جديدة غير مسبوقة لقانون التجسس في حقبة الحرب العالمية الأولى.

مع وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض، نسمع الجمهوريين يتفوهون بنفس الأعذار عن ترامب – الذي ابدى على المنصة مناهضته للحرب –  تلك الاعذار التي صنعها الديمقراطيون لاوباما.

أولاً: أنصاره يقبلون التملق فيما يخص الانتظار لإنهاء الحرب وإعادة القوات إلى الوطن والإيحاء عما يريد الرئيس فعله حقاً، حتى في الوقت الذي يواصل فيه تصعيد الحروب.

ثانياً: يطلبون منا التحلي بالصبر لأنهم رغم كل الأدلة الواقعية مقتنعون بأنه يعمل بجد وراء الكواليس من أجل السلام.

ثالثاً: في عملية نهائية تقوض حجتيهم الأخرين، يعلنون استسلامهم ويقولون إن “الرئيس” فقط والبنتاغون أو “الدولة الغامضة” من بيدهم القوة الكبيرة.

استخدم أنصار اوباما وترامب على حد سواء هذا الموقف الهش لعدم المساءلة السياسية لإعطاء الرجل القابع وراء المكتب الحق في العيش طليقاً من أجل مواصلة حرباً وجرائم الحرب لانهاية لها.

لقد ادت نظرية اوباما وترامب ” الهادئة وحجب وسائل الإعلام” في الحرب إلى تحصين الحروب الأمريكية والعمليات العسكرية ضد فيروس الديمقراطية، لكن الحركات الاجتماعية الجديدة نشأت لمعالجة المشكلات التي يعانيها الوطن.

فقد أدت الأزمة المالية إلى صعود حركة احتلال والآن أثارت أزمة المناخ ومشاكل العرق والهجرة الراسخة في أمريكا حركات شعبية جديدة.

يشجع دعاة السلام هذه الحركات على الانضمام إلى الدعوة لإجراء تغييرات كبيرة في البنتاغون، ويصرون على أن مئات المليارات التي تم توفيرها يمكن أن تساعد في تمويل كل شيء من الرعاية الطبية للجميع إلى الصفقة الخضراء الجديدة إلى الرسوم الدراسية المجانية.

لقد أظهر عدد قليل من قطاعات حركة السلام كيفية استخدام التكتيكات الإبداعية وبناء حركات متنوعة.

تشمل الحركة من أجل الحقوق الإنسانية والمدنية للفلسطينيين الطلاب والمجموعات الإسلامية واليهودية، إضافة إلى جماعات السود والسكان الأصليين الذين يكافحون صراعات مماثلة هنا في البلد, كما أن هناك حملات ملهمة للسلام في شبه الجزيرة الكورية بقيادة الأمريكيين الكوريين، مثل حملة نساء يعبرن المنطقة منزوعة السلاح “Women Cross the DMZ” التي جمعت نساء من كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة لكي ترى إدارة ترامب كيف تبدو الدبلوماسية الحقيقية.

كانت هناك أيضاً جهود شعبية ناجحة دفعت الكونجرس المتردد إلى اتخاذ مواقف معادية للحرب.

لعقود من الزمن، كان الكونغرس سعيداً جداً بترك قرار الحرب للرئيس وألغى دوره الدستوري باعتباره السلطة الوحيدة المخولة بإعلان الحرب وبفضل الضغط العام كان هناك تحول ملحوظ.

في عام 2019, صوت كلا المجلسين في الكونجرس على إنهاء الدعم الأمريكي للحرب التي تقودها السعودية في اليمن وحظر مبيعات الأسلحة إليها، على الرغم من أن الرئيس ترامب استخدم حق النقض ضد مشروعي القانون.

الآن أصدر الكونغرس مشاريع قوانين من الحزبين للمنع صراحة شن حرب غير مصرح بها على إيران.

تثبت هذه القوانين أن الضغط الشعبي يمكن أن يحرك الكونجرس، بما في ذلك مجلس الشيوخ الذي يهيمن عليه الجمهوريون لاستعادة صلاحياته الدستورية على الحرب والسلام من السلطة التنفيذية.

هناك ضوء ساطع آخر في الكونغرس وهو العمل الرائد لعضو الكونجرس الأمريكي إلهان عمر، التي وضعت مؤخراً سلسلة من مشاريع القوانين تسمى السبيل إلى السلام “”Pathway to Peace تتحدى سياستنا العسكرية الخارجية.

بينما سيكون من الصعب تمرير مشاريع قوانينها في الكونغرس، إلا أنها تضع علامة على المكان الذي يجب أن نتجه إليه.

يعمل مكتب عمر، على عكس العديد من المكاتب الأخرى في الكونغرس، في الواقع مباشرة مع المنظمات الشعبية التي يمكنها دفع هذه الرؤية قدماً.

تقدم الانتخابات الرئاسية فرصة لدفع أجندة مناهضة الحرب, حيث يعتبر بطل مناهضي الحرب الأكثر فعالية والتزاماَ في السباق هو بيرني ساندرز, فشعبية دعوته لإخراج الولايات المتحدة من تدخلاتها الإمبريالية وتصويته ضد 84 %  من مشاريع قوانين الإنفاق العسكري منذ عام 2013, تنعكس ليس فقط في أرقام استطلاعات الرأي العام ولكن أيضاً في الطريقة التي يسارع فيها المرشحون الديمقراطيون الآخرون إلى اتخاذ مواقف مماثلة.

الكل يقول الآن أن على الولايات المتحدة أن تنضم إلى الاتفاق النووي الإيراني؛ كما انتقد الجميع ميزانية البنتاغون “المتضخمة”، على الرغم من التصويت المنتظم لها؛ وقد وعد معظمهم بإعادة القوات الأمريكية إلى الوطن من الشرق الأوسط الكبير.

لذا، وبينما نتطلع إلى المستقبل في عام الانتخابات هذا ، ما هي الفرص التي لدينا لإحياء القوة العظمى الثانية في العالم وإنهاء الحروب الأمريكية؟

في غياب حرب جديدة كبرى، من غير المرجح أن نرى مظاهرات كبيرة في الشوارع, لكن عقدين من الحرب اللانهائية خلقا مشاعر قوية ضد الحرب في اوساط الجماهير.

وجد استطلاع اجراه مركز بيو للأبحاث عام 2019 أن 62 % من الأمريكيين قالوا إن الوضع في العراق لم يكن يستحق خوض تلك الحرب و 59 %  قالوا الشيء نفسه عن الحرب في أفغانستان.

فيما يتعلق بإيران، أظهر استطلاع أجرته جامعة ماريلاند في سبتمبر 2019 أن مجرد خُمس الأمريكيين قالوا إن الولايات المتحدة “يجب أن تكون مستعدة للذهاب إلى الحرب” لتحقيق أهدافها في إيران، بينما قال ثلاثة أرباعهم إن الأهداف الأمريكية لا تبرر التدخل العسكري إلى جانب تقييم البنتاغون لمدى كارثة الحرب مع إيران، غذت هذه المشاعر العامة الاحتجاجات والإدانات العالمية التي أجبرت ترامب مؤقتاً على التراجع عن تصعيده العسكري وتهديداته ضد إيران.

لذا، في حين أن الدعاية الحربية التي قامت بها حكومتنا قد أقنعت الكثير من الأميركيين بأننا عاجزون عن وقف حروبها الكارثية، إلا أنها فشلت في إقناع معظم الأميركيين بأننا مخطئون في أننا نريد ايقاف تلك الحروب, كما هو الحال في القضايا الأخرى، فإن للنشاط الفعال عقبات رئيسية يجب التغلب عليها:

أولاً: إقناع الناس بأن هناك شيئاً ما خطأ.

ثانياً: أن نوضح لهم أنه من خلال العمل معاً لبناء حركة شعبية يمكننا أن نفعل شيئاً حيال ذلك.

إن الانتصارات الصغيرة لحركة السلام تدل على أن لدينا قوة أكبر لتحدي التسلط العسكري الأمريكي أكثر مما يدرك معظم الأمريكيين.

في الوقت الذي يكتشف فيه المزيد من الأشخاص المحبين للسلام في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم القوة التي يتمتعون بها حقاً، فإن القوة العظمى الثانية التي لمحنها لفترة وجيزة في 15 فبراير 2003, تمتلك القدرة على الصعود أقوى وأكثر التزاماً وتصميماً من براثن حطام عقدين من الحروب.

من شأن رئيس جديد مثل بيرني ساندرز في البيت الأبيض أن يخلق فرصة جديدة للسلام ولكن كما هو الحال في العديد من القضايا المحلية، فإن هذا الانفتاح سوف يؤتي ثماره فقط ويتغلب على معارضة المصالح الخاصة القوية إذا كانت هناك حركة جماهيرية وراءها في كل خطوة يخطوها على الطريق.

وإذا كان هناك من درس للأميركيين المحبين للسلام في رئاستي أوباما وترامب ، فهو أنه لا يمكننا مغادرة صندوق الاقتراع وتركه لبطل في البيت الأبيض لإنهاء حروبنا وجلب السلام لنا, وفي التحليل النهائي أن القرار بالفعل راجعٌ لنا!

*ميدي بنجامين: المؤسس المشارك لـ نساء من اجل السلام ، مؤلفة كتاب “داخل إيران: التاريخ الحقيقي والسياسة في جمهورية إيران الإسلامية” و “مملكة الظالمين: وراء العلاقة الأمريكية السعودية”.

*نيكولاس ج. ديفيز: باحث في منظمة نساء من اجل السلام  ومؤلف كتاب “الدماء على أيدينا: الغزو الأمريكي وتدمير العراق”.

* المقال تم ترجمته حرفياً من المصدر وبالضرورة لا يعبر عن رأي الموقع.