ادعاء "مرفوض" ورغبة "معلنة" ..هل باتت واشنطن أقرب لاستهداف فنزويلا؟
السياسية - تقرير:
رغم أن العالم يعيش فترة انتقالية بين هيمنة القطب الواحد والتعددية القطبية ، ويشهد مخاضا لتغييرات جيوسياسية غير مسبوقة تؤكدها شواهد متمثلة في صعود دول جديدة إلى مستويات رفيعة من التطور الاقتصادي والعسكري، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لاتزال تعيش في حلم السيطرة القديم، وتسعى إلى تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية والوصول إلى أهدافها بغض النظر عن الوسائل التي غالبًا ما تكون بعيدة عن الأخلاق والقوانين؛ وذلك انطلاقًا من وعي إمبريالي استعماري، مازال يتحكم بثقافة البيت الأبيض وقراراته وعلاقاته.
الرغبة الأمريكية بتغيير الأنظمة التي لا تسير على دربها، ولا تأتمر بأوامرها تتخذ أغطية وذرائع متعددة، لكنها تبقى واضحة في كشف الحقيقة الامريكية التي تتعامل، ممن خلالها، واشنطن باعتبارها شرطي العالم؛ فالذريعة في حالة فنزويلا هي محاربة تهريب المخدرات.
ولكن ما بدأته واشنطن بضربات على قوارب في منطقة البحر الكاريبي والمحيط الهادي، بزعم أنها تهرب المخدرات، تحول إلى تحشيد عسكري واسع في المنطقة.
عمليات عسكرية
ففي هذا السياق، أفادت وكالة رويترز بأن الولايات المتحدة تقوم بتحديث وإعادة بناء المنشآت في قاعدة عسكرية لها في جزيرة بورتوريكو، ما قد يمثل تحضيرات لعملية محتملة على أراضي فنزويلا.
وأفادت الوكالة بأنها تلقت صورًا تم التقاطها من أقمار صناعية، تشير إلى أن أعمال إعادة البناء بدأت في قاعدة "روزفلت رودز" العسكرية السابقة منذ سبتمبر الماضي.
وحسب الوكالة، فإن الصور التي تم التقاطها خلال الشهرين الأخرين، تظهر أن الطواقم الأمريكية بدأت منذ 17 سبتمبر الماضي بتنظيف وترميم الطرق بالقرب من مدرج القاعدة التي انسحبت منها القوات الأمريكية في عام 2004.
وقال مسؤول أمريكي، تحفظ على هويته، إن تلك القاعدة تحتل موقعا استراتيجيا وتقدم مجالا كبيرا لتجميع القوات وتخزين المعدات.
وأشارت رويترز، إلى أن الولايات المتحدة تقوم أيضًا ببناء منشآت في المطارين المدنيين في بورتوريكو وسانت كروا في "جزر العذراء" الأمريكية في البحر الكاريبي، وذلك على بعد نحو 500 كلم عن فنزويلا.
واتهمت واشنطن السلطات الفنزويلية مرارا وتكرارا بعدم مكافحة تجارة المخدرات.
واتهم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، نظيره الفنزويلي، نيكولاس مادورو، وعصابات محلية (مثل عصابة "ترين دي أراغوا") بالتواطؤ في تهريب المخدرات، دون تقديم أدلة علنية.
وتزايد التوتر في البحر الكاريبي بعد سلسلة من الغارات الأمريكية ضد سفن قالت واشنطن إنها تابعة لمهربي المخدرات، أسفرت عن تدمير 14 قاربا على الأقل ومقتل نحو 62 شخصًا منذ سبتمبر، ما دفع دولًا مجاورة مثل ترينيداد وتوباغو إلى إعلان حالة التأهب.
كما توسعت نطاق العمليات من سواحل الكاريبي إلى السواحل المطلة على المحيط الهادئ لأمريكا الجنوبية، في وقت قال ترامب: إن "الضربات على الأرض هي التالية، مع تهديده بضرب المهاجرين براً".
لكن عدد من المراقبين يرون أن هذا التصعيد يهدف إلى إسقاط نظام مادورو، الذي لا تعترف به واشنطن؛ ويشكل لها مصدر قلق انطلاقًا من مواقفه السياسية وعلاقاته الاستثنائية مع روسيا والصين وغيرها من الدول المناوئة للهيمنة الأميركية؛ وقبل ذلك ثروات فنزويلا.
استعداد غير مسبوق
في المقابل، كشفت صحيفة "واشنطن بوست"، أن 10% من القدرات البحرية الأمريكية باتت متمركزة في منطقة البحر الكاريبي قرب السواحل الفنزويلية، مع اقتراب المدمرة النووية "جيرالد فورد" وحشد نحو 180 صاروخ توماهوك، و8 سفن حربية وغواصة نووية و16 ألف عسكري (10 آلاف جندي و6 آلاف بحّار)، في خطوة وصفتها الصحافة الأمريكية بأنها استعداد ميداني "غير مسبوق منذ حرب الخليج".
وكان الرئيس الأمريكي، قال خلال الدورة ال80 للجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 سبتمبر، إن جيشه سيواصل مهاجمة السفن التي اعتبر أنها "ترتبط بكارتلات المخدرات الفنزويلية التابعة للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو"، حسب اتهام ترامب.
وفي تصعيد جديد للأزمة الفنزويلية، أعلن ترامب أن "أيام نيكولاس مادورو في الحكم باتت معدودة".
وأكدَّ، في مقابلة مع شبكة CBS، في موقف متناقض، أنه لا يتوقع اندلاع حرب مباشرة مع فنزويلا، رغم التحركات العسكرية الأمريكية في منطقة الكاريبي.
وقال ترامب ردًا على سؤال حول مستقبل مادورو: "نعم، أعتقد أن أيامه معدودة"، لكنه استبعد الدخول في حرب، مضيفًا: "أشك في ذلك، لا أعتقد".
إلا أن تقارير أمريكية نقلت عن مصادر في واشنطن أن إدارة ترامب تدرس ضربات دقيقة ضد مواقع عسكرية داخل فنزويلا، تستهدف ما يسمى بـ"كارتل الشمس"، وهي شبكة اتجار بالمخدرات تتهمها الولايات المتحدة بأنها تعمل تحت إشراف مادورو وجنرالات حكومته.
وتحدّثت التقارير عن احتمال ضربة أميركية وشيكة، وكشفت وسائل إعلام أميركية بينها شبكة "سي إن إن" و"وول ستيرت جورنال" أنّ الإدارة الأميركية حدّدت بالفعل أهدافًا عسكرية داخل فنزويلا، منها موانئ ومطارات ومنشآت ، تزعم واشنطن، أنها تُستخدم في تهريب المخدرات.
ويرى مراقبون، أن أي عملية عسكرية مباشرة داخل فنزويلا ستكون معقدة ومكلفة، وقد تؤدي إلى صراع طويل الأمد واستنزاف، كما تثير هذه العمليات تساؤلات حول الشرعية الدولية لها، خاصة مع عدم وجود تفويض من مجلس الأمن الدولي.
مشروع لإعادة الاستعمار
وفي رد فعله على هذه التطورات، صعّد الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، خطابه مستنجدًا بحلفائه في روسيا والصين وإيران، مؤكدًا في خطاب متلفز أن ما يجري "ليس حربًا ضد مادورو، بل ضد فنزويلا نفسها"، مضيفًا: "إنه مشروع لإعادة استعمارنا ونهب ثرواتنا وتدمير حقنا في المستقبل".
وقال مادورو "يستهدفوننا لأننا نمتلك أكبر احتياطي للنفط في العالم"، مؤكدا أن "الولايات المتحدة تسعى للسيطرة على الثروات الطبيعية الهائلة التي تمتلكها فنزويلا".
وأضاف:" لو لم تكن لدينا 30 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، ولم نكن في موقع استراتيجي، ولم نمتلك أكبر احتياطي نفطي ورابع أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم، ربما كانوا لن يذكروا اسم فنزويلا حتى".
واتهم مادورو الولايات المتحدة باستخدام وسائل الإعلام الدولية للتلاعب بالرأي العام.
وأردف أن "واشنطن تسعى لفرض رواية تبرر شن حرب ضد فنزويلا، وتعد خطة لتهيئة الأرضية لتغيير النظام، ونهب ثروات البلاد الطبيعية الهائلة".
وقال: "الحقيقة أن فنزويلا بريئة، وكل ما يُنفذ ضدنا يهدف إلى الحرب وتغيير النظام، نحن شعب عريق ولن نتنازل قيد أنملة عن كرامتنا، الخطاب الأمريكي ضد فنزويلا مليء بالافتراءات".
وأكد مادورو أن الشعب الفنزويلي يريد العيش بسلام، وحل مشاكله في إطار الاستقلال والسيادة.
وأعلنت السلطات الفنزويلية، أنها فكّكت خلية تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كانت تهدف، وفقاً لها، إلى مهاجمة سفينة حربية أمريكية في المنطقة بهدف افتعال حادثة، وتحميل مسؤوليتها لفنزويلا.
وقال وزير الداخلية الفنزويلي، ديوسدادو كابيو، إن "وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تقف وراء مخطط لتنفيذ هجوم مزيف ضد سفينة أمريكية أو تابعة لترينيداد وتوباغو بهدف اتهام فنزويلا وإشعال صراع إقليمي"، مؤكداً أن بعض المتورطين قد تم اعتقالهم بالفعل.
وأوضح الوزير أن العلاقات بين بلاده وترينيداد وتوباغو "كانت تاريخياً ودّية واستثنائية" لكنه أشار إلى أن رئيسة الوزراء كاملا بيرساد-بيسيسار تسببت في توترها بسلوك "عدواني وغير مسؤول"، واصفاً إياها بأنها "قابلة للابتزاز" في إشارة إلى ملفات فساد وضغوط سياسية محتملة.
روسيا تدعم فنزويلا
الموقف الروسي من هذه الأحداث بدا داعما لكراكاس، فقد أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، أن بلادها تدعم فنزويلا لحماية السيادة الوطنية ضد الهجوم العسكري الأمريكي في مياه البحر الكاريبي.
وقالت إن روسيا تدين سياسة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في استخدام القوة العسكرية المفرطة لمهاجمة السفن في منطقة البحر الكاريبي بحجة مكافحة تجارة المخدرات.
وأكدّت زاخاروفا، أن "أفعال الولايات المتحدة في مياه البحر الكاريبي أودت بحياة العديد من الأشخاص في انتهاك للقوانين واللوائح المحلية الأمريكية ، ومعايير القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، وميثاق منظمات الدول الأمريكية، و اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار".
وأضافت أن "ذلك يعترف به، أيضا، ممثلون عن عدد من الدول والمنظمات الدولية، بما في ذلك الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، والمفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك".
وتعد فنزويلا من أغنى دول العالم بالثروات الباطنية، إذ تحتل المرتبة الأولى عالميًا في احتياطيات النفط المؤكدة، والتي تقدر بأكثر من 300 مليار برميل.
كما تمتلك رابع أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم بأكثر من 195 ترليون قدم مكعب، إلا أن استغلال هذه الثروات مازال محدودا بسبب ضعف البنية التحتية والعقوبات الاقتصادية الأمريكية.
توازن بين استعراض القوة والردع المتبادل
واعتبر الخبير العسكري والإستراتيجي، العميد إلياس حنا، أن الحديث عن حرب وشيكة بين الولايات المتحدة وفنزويلا "غير دقيق" في ضوء موازين القوى القائمة، مشيرا إلى أن "الانتشار العسكري الأميركي في منطقة الكاريبي لا يرتقي إلى مستوى التحضير لعمل عسكري واسع النطاق".
وأوضح حنا، لموقع "الجزيرة نت"، أن هذا الانتشار "جزء من سياسة أميركية قديمة تعود جذورها إلى ما يُعرف بـ"عقيدة مونرو" عام 1823،وهي التي أرست مفهوم الهيمنة الأميركية على نصف الكرة الغربي"، لافتا إلى" أن الحشد الحالي، رغم ضخامته، لا يمثل أكثر من 10% من القوة البحرية الأميركية".
ويرى أن هذا الانتشار يهدف أساسًا إلى الضغط على فنزويلا عبر خلق مناخ من التهديد المستمر، آملًا في زعزعة العلاقة بين النظام والجيش أو دفع الرئيس، نيكولاس مادورو، إلى التفاوض مع واشنطن.
ويشير العميد حنا، إلى أن السماح لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بالعمل سرا داخل فنزويلا "يوحي بوجود مرحلة تحضير متقدمة تجمع بين الضغط الخارجي والعمل السري الداخلي، وهو ما يعكس إستراتيجية مزدوجة تهدف إلى إنهاك النظام من الداخل".
ويضيف أن واشنطن تستخدم أدواتها في المنطقة ضمن ما يشبه "التطويق الكامل" لفنزويلا، يمتد من كوبا إلى بورتوريكو مرورًا بترينيداد وبنما، في إطار محاولة عزلها سياسيًا واقتصاديًا.
وفي موازاة هذه التطورات، نقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن وثائق أميركية أن الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، طلب من نظيره الروسي ، فلاديمير بوتين، المساعدة في تعزيز الدفاعات الجوية لبلاده، بما في ذلك ترميم طائرات "سوخوي" الروسية التي اشترتها كراكاس في وقت سابق.
كما كشفت الصحيفة أن مادورو تواصل مع كلٍّ من الصين وإيران طلبا لدعم عسكري ومعدات دفاعية، في محاولة لتحصين بلاده أمام أي هجوم محتمل أو ضغط أميركي متزايد.
في المقابل، يرى كبير الديمقراطيين في لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب الأميركي، آدم سميث، أن بلاده قد تشن في نهاية المطاف هجمات برية داخل فنزويلا بعد سلسلة ضربات جوية تستهدف "عصابات المخدرات"، داعيًا إلى مزيد من الشفافية بشأن الأهداف العسكرية المعلنة.
ويرى حنا أن مثل هذه التصريحات قد تندرج ضمن "الحرب النفسية الرامية إلى إبقاء النظام الفنزويلي تحت الضغط"، مشيرًا إلى أن "أي تدخل بري أميركي سيكون مكلفا سياسيا وعسكريا، وقد يعيد للأذهان تجارب واشنطن الفاشلة في أميركا اللاتينية خلال العقود الماضية".
ويؤكد العميد إلياس حنا أن "المشهد الحالي يعكس توازنا دقيقا بين استعراض القوة والردع المتبادل، إذ تحاول واشنطن فرض إرادتها عبر الضغط المركب، بينما تسعى كراكاس لتثبيت صمودها بالتحالف مع قوى دولية كروسيا والصين، في مشهد يعيد أجواء الحرب الباردة إلى سواحل الكاريبي".

