السياسية:

يصعب توصيف مـأساة مدينة لينينغراد خلال 872 يوما من حصار القوات الألمانية النازية لها. الصورة الأقرب نجدها في مشاهد الأفلام الخيالية المرعبة عن نهاية العالم.

بدأ حصار مدينة لينينغراد التي كان يبلغ عدد سكانها حينها ثلاثة ملايين نسمة في 8 سبتمبر 1941 وانتهى في 27 يناير 1944. لعامين ونصف واجه السكان موتا وحشيا بطيئا لم تره الحروب من قبل.

لينينغراد العاصمة السابقة للإمبراطورية الروسية، هي المدينة الثانية في الأهمية بعد موسكو، وكانت وقتها المركز الصناعي الثاني للاتحاد السوفيتي، وقاعدة أسطول البلطيق، وهي مركز العلوم والتعليم، ومستودع القيم الثقافية الحضارية.

المدينة كان بها 333 مصنعا كبيرا يعمل به أكثر من 560 ألف شخص. في لينينغراد تم تطوير الهندسة الثقيلة والصناعات الكهربائية، وكان لها حصة كبيرة في الصناعات الدفاعية. كان بالمدينة أيضا 130 معهدا بحثيا ومكتبا للتصميم و60 مؤسسة للتعليم العالي و106 مدرسة فنية.


جيش الشمال الألماني النازي كانت لديه أوامر محددة تقول إذا حاول المدنيون الجياع مغادرة المدينة والاستسلام فيجب إعادتهم إلى المدينة بنيران المدافع الرشاشة وقذائف الهاون.

نص هذه التعليمات الرهيبة لما يعرف بـ"خطة الجوع" يقول: "تطويق لينينغراد بدائرة قريبة قدر الإمكان من المدينة نفسها من أجل إنقاذ قواتنا. لا تراهنوا على الاستسلام. من أجل تجنب الخسائر الكبيرة في القوى العاملة عند حل مهمة تدمير المدينة في أسرع وقت ممكن، يحظر مهاجمة المدينة بقوات المشاة... يجب إيقاف أي محاولة من قبل السكان لمغادرة الحلبة، إذا لزم الأمر، باستخدام الأسلحة".

تظهر نوايا النازيين بهذا الشأن جلية في ضواحي لينينغراد التي احتلها الألمان، مثل بيترهوف وبوشكين وغاتشينا وغيرها. في هذه المناطق تجاوز معدل الوفيات من الجوع مثيله في لينينغراد ذاتها، لأن الألمان لم يوفروا الطعام للسكان المحليين، وكان من المستحيل تقريبا على هؤلاء أن يحصلوا عليه بأنفسهم.

نذر الجوع بدأت مبكرا ومهد النازيون لها في 8 سبتمبر 1941 باستهداف وتدمير مستودعات المواد الغذائية. القصف في ذلك اليوم دمر 38 مستودعا ومخزنا للأغذية.

كانت لينينغراد هدف هتلر الرئيس الثاني بعد موسكو. الاستيلاء على هذه المدينة يعني وصول النازيين إلى القاعدة الاقتصادية القوية للاتحاد السوفيتي، والحصول على موطئ قدم في بحر البلطيق، وتدمير الأسطول السوفيتي، وتحرير الجناح الأيسر لمركز مجموعة الجيوش الألمانية التي كانت تتقدم نحو موسكو، وفي نفس الوقت يتيح ذلك الاستفادة من قسم كبير من مجموعة جيش الشمال.

في الأيام الأولى من الحاصر، كان سكان لينينغراد غير مدركين للمستقبل الرهيب الذي كان ينتظرهم. اليأس الحقيقي وصل لاحقا حين قصف الألمان ما تبقى من مستودعات الطعام الرئيسة، وبعد أن نضبت المخزونات، ولم ترد أخبار مبهجة من الجبهة. كان الشتاء القاسية عامي 1941-1942 يتقدم، ومعه جاء حصار حقيقي. حصار لم يقيد المدينة فقط، بل وعقول وأرواح سكانها.

لكن على الرغم من جميع المصاعب وسوء الأحوال، أظهر جميع سكان المدينة، صغارا وكبارا، شجاعة لا حدود لها وعزيمة أسطورية، بما في ذلك الأطفال الذين عمل الكثير منهم في المصانع على قدم المساواة مع البالغين وحصلوا على حصص ضئيلة من الغذاء. كبر أطفال لينينغراد بسرعة في ذلك الوقت وتعلموا التكيف مع الموت.


مصادر متنوعة تشير إلى مقتل ما يصل إلى مليون نصف المليون شخص خلال حصار لينينغراد، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن. لم يكن السبب في الغالب القصف والغارات الجوية، بل الجوع والمرض.

كان شتاء عام 1941 شديد القسوة على سكان لينينغراد. عانت المدينة من صقيع استثنائي بلغت فيه الحرارة 40 درجة تحت الصفر، ولم يكن الحطب والفحم متوفرين. كل ما يوجد كان يؤكل حتى الأحزمة الجلدية والنعال. اختفت القطط والكلاب والحمام والغربان من المدينة.


ذكرات رهيبة مع الموت في لينينغراد:

زينايدا غريغوريفا وكانت طفلة صغيرة في تلك الأيام الرهيبة من الحصار تقول: "توفي أبي ليلة 1 يناير 1942. لمدة يومين، نمت أنا وأبي الميت في نفس السرير. كما توفي أصحاب الشقة في نفس اليوم. كانت ثلاث جثث في الغرفة. عند مغادرتها للعمل، حذرت والدتي البواب من وجود طفلين في الشقة وأن جثث المتوفين يجب نقلها. أتذكر أنني وأخي لم نكن خائفين من البقاء في نفس الغرفة مع الجثث، لكننا كنا خائفين جدا من الفئران. تعض اليدين والقدمين وأنوف الموتى. رفضنا أن نبقى وحدنا في الغرفة. أوضحت لنا والدتنا وهي تبكي أن عليها الذهاب إلى العمل.

يسرد أيضا أحد سكان لينينغراد ويدعى يفغيني إليوشن تلك الذكريات السوداء قائلا: "كانت لينينغراد جبهة قتال، وكان كل شارع موقعا متقدما. لقد تم قصفنا بلا رحمة جرى قصفنا بالمدافع بشكل مستمر تقريبا. كنا نموت ليس فقط من القنابل والقذائف، ولكن أيضا من الجوع الرهيب. 800 ألف منا مدفونون فقط في مقبرة بيسكاريفسكوي. بحلول نهاية حصار المدينة، لم يبق سوى حوالي 900 ألف من أصل ثلاثة ملايين.

* المادة نقلت حرفيا من موقع روسيا اليوم