محمد جرادات*

نجحت نقابات العمال في الكيان "الإسرائيلي" في تنفيذ أخطر إضراب في تاريخها، تضامناً مع مطالب عوائل الأسرى الإسرائيليين في غزة، بأولوية عقد صفقة لتحرير أبنائهم، إضرابٌ شمل المستشفيات والمصانع والمطارات والجامعات والمدارس والمواصلات، وحتى وزارات الحكومة في "الدفاع" والمالية وغيرهما، وهو نجاح يأتي في توقيت حسّاس وحادّ على كلّ المستويات.

نجح هذا الإضراب، رغم المعوّقات الكبيرة من الحكومة ووزارة المالية ومحكمة العمل والجمهور اليميني واسع التأثير، ما يطرح أسئلة جوهرية حول المسار التصاعدي في مجمل الواقع "الإسرائيلي"، ويدفعه نحو مزيد من الاشتعال، خاصة بعد التظاهرات الأضخم ليلة الإضراب، والتي شارك فيها مئات الآلاف في أكثر من 40 موقعاً على امتداد فلسطين المحتلة، ومستوى التحدّي الذي ظهر في نبرة رئيس "الهستدروت"، مع إصرار نقابة موظفي المطارات ومنها مطار بن غوريون على مواصلة الإضراب، فهل يشجّع هذا النجاح نقابة الهستدروت على مواصلة الإضراب لأيام مقبلة؟

يواصل نتنياهو تهميش قضية الأسرى الإسرائيليين، ويقدّم عليها تفاصيل ميدانية مثل معبر فيلادلفيا بين غزة ومصر، رغم تأكيد المستوى العسكري والأمني بشكل صريح أنّ هذا المعبر لا يحتلّ أيّ مكانة استراتيجية، وأنّ الإصرار على السيطرة عليه يعني مقتل جميع الأسرى بالتدريج، وهو ما تأكّد بعد مقتل الأسرى الستة مؤخراً، وكانوا مرشحين للتحرّر وفق المقترح الأميركي للمرحلة الأولى من الصفقة التي تراوح مكانها في القاهرة والدوحة، وقد جاء الإضراب العام في "إسرائيل"، ليعكس مستوى التوتر الذي يسيطر على الشارع "الإسرائيلي"، وهو أسير نخبة معزولة تضيق خياراتها، رغم اتساع التطرّف اليميني في هذا الشارع، إلا أنه اتساع يظلّ في غالبه مع أولوية الصفقة للإفراج عن الأسرى.

يشير نجاح هذا الإضراب إلى محطة جديدة في وجهة ومسار النخبة السياسية والأمنية والعسكرية "الإسرائيلية"، والتي دخلت بكلّيتها ميدان الهزيع العصبي منذ السابع من أكتوبر، مدفوعة بشعور الانتقام، لكن شهور الحرب والفشل في تحقيق أهدافها مع صمود المقاومة، واتساع نطاق إسناد غزة عسكرياً من لبنان واليمن، ثم العزلة العالمية رغم التعاطف في البداية، جعل غالبية هذه النخبة تميل لأولوية عقد الصفقة ولو على حساب استمرار الحرب، وأكثر من يعبّر عن هذا التحوّل الجنرال غادي آيزنكوت، وهو الذي فقد ابنه وابن أخته في القتال داخل غزة، وكان عضواً في كابينت الحرب قبل أن يستقيل احتجاجاً على عناد نتنياهو.

أظهر نجاح الإضراب العام في الكيان بنسبة تجاوزت 90%، حقيقة ارتخاء قبضة اليمين المتطرّف على الشارع، أو تعبيراً عن مدى تضارب أدواته وهو المهيمن على الحكومة والكنيست، لكنه يعمل وسط خلافات حادة مع "الجيش" والمؤسسة الأمنية والمحكمة العليا ونقابات العمال، رغم نجاحه حتى الآن في دفع وتيرة الحرب تحت تأثير هزيع السابع من أكتوبر، وغلبة مشاعر الانتقام عند عامة الشارع الإسرائيلي وهي مشاعر مبنية في الأساس على تكوين نفسي عنصري.

وصلت تأثيرات الإضراب العام في الكيان "الإسرائيلي" إلى جوانب حسّاسة تجاوزت العامل الاقتصادي والسياسي لما هو ميدان القتال، عندما أضربت المشافي ومنها مشفى "شيبا" الذي رفض استقبال بعض جرحى "الجيش" الذين سقطوا في خضمّ القتال المشتعل في غزة والضفة والشمال، وهو يظهر مستوى الإصرار الذي وصلت إليه شرائح واسعة في الشارع "الإسرائيلي" ضد الحرب، أو لصالح قضية الأسرى بما تمثّله من مكوّن جوهري في أصل وجود "الدولة" وفي عمق النفسية اليهودية التي تقدّس حياة اليهودي وتعدّها أولوية تكريساً لشعور التفوّق العنصري "الإسرائيلي" باعتبارهم "شعب الله المختار"، وهو الشعور الذي كسره نتنياهو لصالح نزعات حزبية وشخصية.

يأتي الإضراب "الإسرائيلي" هذا متأخّراً 9 أشهر، وكان يفترض لهذه الحرب أن تتوقّف "إسرائيلياً" مع نهاية العام 2023، وقد اتضحت وجهتها وفشل تحقيق أهدافها، مع التحوّل العالمي ضدّها، في ظلّ صمود المقاومة واتساع خياراتها، رغم الإبادة المجنونة للشعب في غزة وتصاعد حدّة الاغتيالات العابرة للحدود، إلا أن هذا الاضراب يأتي في لحظة يمكن أن تشكّل فارقاً واقعياً للأسباب الآتية:

أولاً: استنفاد المفاوضات لكلّ أغراضها ووقتها وأدواتها وآلياتها، وهي عرضة الآن للوقف التام أو ضخ الحياة في مجاريها عبر نقلة نوعية تجعلها مجدية، وهذه النقلة تحتاج تغيير مجرى الحرب إن لم يكن القدرة على وقفها ولو عبر صفقة تبادل أسرى.

ثانياً: تأكّد العجز الإسرائيلي عن تحقيق أهداف الحرب، مع العجز عن الذهاب نحو حرب مع حزب الله، ويأتي اجتياح شمال الضفة وخاصة في جنين تأكيداً لحالة العجز هذه، للبحث عن ميدان قابل لتحقيق بعض الأهداف، ولو أخذ صورة في ساحة مخيم جنين بعد النجاح باغتيال قائد السرايا في طولكرم وبعض المقاتلين في جنين والشمال، رغم حالة الاستعصاء مع تطوّر العمليات على امتداد الضفة، ما يؤكد هشاشة الخيارات "الإسرائيلية" بمجملها.

ثالثاً: التوجّه الأميركي للإعلان عن ورقة نهائية للتفاوض، يجد نتنياهو نفسه أمامها مضطراً للقبول أو التحايل مجدداً ولكن عبر أدوات غير تقليدية، رغم نجاح نتنياهو في التغلّب على الكوابح الأميركية حتى الآن خاصة بعد زيارته الأخيرة لواشنطن.

في المقابل فإنّ عطلة الكنيست الطويلة، مع قرار وزير الحرب يوآف غالانت عدم الاستقالة رغم الصراع الحاد بينه وبين نتنياهو، في ظل ضمان دعم الدولة العميقة في أميركا لما يتقرّر بالنهاية في "تل أبيب"، فإن نتنياهو سيواصل استغلال مشاعر الجمهور المتوقدة على خلفية السابع من أكتوبر، ما يقود "إسرائيل" نحو أكبر تحدٍ داخلي في تاريخها.

عناد نتنياهو وائتلافه الحكومي بعد نجاح الإضراب في يومه الأول، يجعل نقابات العمال أمام استحقاق خطر الاحتواء من قبل حزب "الليكود"، وهو الخطر الأكبر الذي يهدّدها طوال الوقت خاصة منذ وصل هذا الحزب إلى السلطة وصار قريناً لحزب "العمل" قبل أن يتجاوزه، ويعتبر الليكود أن الهستدروت ذراع يساري في تكوينه الفكري والسياسي والمهني النقابي، لذا هو يعتمد سياسة ثابتة ضدها، ويحاول تجفيف منابعها، وقد نجح جزئياً في ذلك خلال العقود الثلاثة الماضية، لكن الواقع الاجتماعي الاقتصادي القائم في الكيان العبري، ظل يخضع لوجود شريحة عمالية هي الأكبر في الشارع "الإسرائيلي" ، وهو ما ظل يجدّد الدماء في الهستدروت ويبقيها عاملاً مؤثّراً في الحياة السياسية، رغم وعي قيادة الهستدروت بالتحوّلات السياسية والنفسية العميقة في الشارع "الإسرائيلي" في غير صالحها.

يقف الشارع "الإسرائيلي" عبر نقابات العمال واسعة التأثير والانتشار، أمام مفترق طرق حقيقي، تجد نفسها في ظله أمام خيار الدخول في حالة عصيان مدني وهو مرشح هذه الأيام عبر إضراب مفتوح عن العمل، أو الانكفاء نحو الاحتواء الليكودي للأبد وهو أيضاً محتمل، وفي خضمّ هذين الاحتمالين يقف مستقبل الكيان برمّته وربما المنطقة بأكملها، في ظلّ حالة المراوحة في الميدان مع العجز عن الحسم من كلّ الأطراف محلياً وإقليمياً.

* المصدر: الميادين نت
* المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب